فضاءاتمقالات

شبح نجيب محفوظ | سيّد الوكيل

الروائي والناقد المصري سيّد الوكيل يكتب مقالاً عن رحلته مع نجيب محفوظ:

***

في نهاية الرحلة، أيقنت أن الوعي لا يكتمل ولا ينضج إلا عبر خبرات ومعارف، وقدرة ذاتية على التحرر من الصور الذهنية والنمطية. هذا يحتاج وقتاً وجهداً كرحلة الصوفي في ارتقاء المقامات. مثل كثيرين بدأت رحلتي مع نجيب محفوظ بالصور الذهنية والأفكار النمطية الشائعة، التي كان أكثرها رواجاً: “إذا أردت أن تكون قاصاً فعليك بإدريس، وإذا أردت أن تكون روائياً فمحفوظ”. هذه الفكرة فصلت بعنف بين شكلين من السرد. فصل شكلي لا دليل على وجوده في الذات المبدعة، فالإبداع طاقة تنفلت من أحلام اليقظة كما يقول باشلار، وتتوق لتصبح كياناً مستقلاً. أدركت هذا عندما قرأت “قلب الليل” بدت لي بالمقاييس النقدية الشكلانية قصة طويلة، بما فيها من مركزية حدث واحد “قصة حياة جعفر الراوي” ومكان واحد “مكتب موظف الأوقاف”، وزمن واحد لا يتجاوز يوماً واحداً يحكي فيه جعفر الراوي قصة حياته على موظف الأوقاف، ويتساءل عن حقه في ميراث جده الإلهي، بوصفه صاحب حقوق الملكية، الذي شيد حياته من البداية إلى النهاية: “أليس لي حق في ميراث جدي العظيم؟”.

عاش جعفر الراوي أسطورة هرقل بن زيوس، امتلك الفضيلة ولكنه وقع في غواية الفن والجمال، ورغم قوته ونضاله لم يتمكن من عرش زيوس.

 القارئ المدقق يلحظ أن الحكاية تتجاوز قصة جعفر الراوي إلى قصة الإنسان، منذ نزوله على الأرض وسعيه فيها. وهكذا فرواية قصيرة جداً تحكي تاريخ البشرية ببلاغة منقطعة النظير، لتبدو معالجة أكثر دقة، وكثافة وفنية من أولاد حارتنا رغم ضجيجها.

بعد متاهتي مع جعفر الراوي في قلب الليل، كان من الضروري أن اقرأ محفوظ كاملاً لكي أمسك به، وأثناء ذلك انتبهت إلى ما أسميته بالأنفاق السرية. أعني تلك الروابط الحريرية الشفافة، التي تنسج أعمال نجيب محفوظ ببعضها، وتشكل كوناً واحداً نطلق عليه، عالم نجيب محفوظ.

بخبرة محدودة وذاتية انتبهت إلى ثلاثة مرتكزات في عالم نجيب محفوظ:

الأول: أن نجيب محفوظ يعاود النظر في الموضوع الواحد من زوايا مختلفة، على سبيل التجريب، بهدف اكتشاف الطبقات الأعمق فيه. أي أنه لا يهتم بمراكمة الأعمال بقدر ما يتخذ من السرد طريقة للتفكير في قضايا إنسانية مؤرقة.

الثاني: أن حجم العمل ليس دالاً على شيء عند محفوظ، فما يمكن أن يقوله في رواية، يمكن أن يقوله في قصة قصيرة. ومن ثم يبدو الحجم فضاء تجريبياً لاختبار أفكاره. وهذا يقوض أسطورة النوع الأدبي، حتى أن محفوظ لم يضع على أغلفة كتبه أي توصيف يحدد إذا ما كان مجموعة قصصية أم رواية..  لكن الأمر يتجاوز هذا إلى المزج والتداخل بينهما عبر تلك الأنفاق السرية. فكيف يمكننا أن نطمئن إلى تصنيف “حديث الصباح والمساء” وكيف يمكننا تجاهل رغبته في تفكيك الأبنية المتماسكة، وتوزيعها بين أصوات، أو لوحات على نحو ما نجد في المرايا وميرامار وأمام العرش. . إلخ.   

الثالث: أن نجيب محفوظ لا يعبر فوق الأنواع الأدبية فحسب، بل فوق المراحل الزمنية للتاريخ البشري. فهل نعتبر “العائش في الحقيقة” رواية تاريخية أم فلسفية، وكيف يمكننا تحديد الانتماء الزمني لليالي ألف ليلة، أو رحلة ابن فطومة؟ رحلة البحث عن اليقين، التي أفضت بي إلى الشك. ليس في إدريس ولا محفوظ طبعاً، بل في تاريخ النقد الشكلاني، ورغبته في التصنيف والتوصيف وتحديد الأطر والقيم سابقة التجهيز. وكل هذه التوابيت التي أعدت لموت المؤلف على يد رولان بارت.

ربما لأن الشفاهية غالبة على ثقافتنا، وقعتُ في بداية حياتي الأدبية فريسة المقولات الرخيصة، والصور الذهنية الرائجة عن محفوظ. لكن عندما عملت على قراءه أعماله بوعي مغاير، كنت أزداد إيماناً بعظمته، وجدارته بالعالمية، حتى استبدت بي رغبة في المثول بين يديه، والاعتذار له عن مراهقتي الأدبية. ولم يكن ثمة طريق لذلك، سوى أن أذهب إليه في قبرة، واقرأ له الفاتحة.

ذات يوم أعلنت عن رغبتي هذه على فيسبوك، وكانت المفاجأة أن وجدت كثيرين غيري، يعتريهم نفس القلق، والرغبة في الاعتذار بين يدي محفوظ. ثم تحولت الرغبة إلى واقع، احتشد له عشرات الأدباء والمثقفين باختلاف أعمارهم وتخصصاتهم. كانت الرحلة إلى مقبرته مضنية، ونحن نتحرك بقول من السيارات إلى طريق الفيوم، ونبحث عن مقبرة كنا نظنها مميزة تليق بأديب نوبل، لكنها كانت تائهة بين مئات المقابر المتشابهة.

 مراوغ أنت يا أستاذ في موتك كما كنت محيراً في حياتك.

بمجرد وصولنا بدأت طقوس الفرح المشوب بالأسى، كل على طريقته. فثمة من قرأ مقاطع من أعمال الأستاذ، ومن ألقى كلمة في محبته، ومن انتحى جانباً واكتفى بقراءة الفاتحة، وثمة من جاء بسطل ماء وراح يسقي نبات الصبار حول مرقده، فيما هو صامت. أما أنا فقد جلست في أقرب نقطة من جثمانه، أتأمله يبتسم، تماماً كتلك الابتسامة التي استقبلني بها في مقهى (بترو) بالإسكندرية. هذه المرة تخلصت من الرهبة التي سكنتني في اللقاء الأول، فكنت أحادثه ببساطة، وأتأمل ابتسامته الغامضة، تلك التي يمنحها للجميع. الغريب.. أنني لم أشعر بالوقت في حضرته  إلا عندما غربت الشمس، وبدأت المقابر تظلم بسكانها، فعدنا إلى بيوتنا بقلوب جديدة. ولا أدري.. هل عادت روح محفوظ معي حتى سكنتني؟ أم أن شبحه ظل يطاردني؟ حتى أنه سيطر على عقلي في صحوي، وعلى أحلامي في نومي، أوعز إليَّ أن أكتب أحلامي في كتاب صغير ومحدود أطلقت عليه (لمح البصر). لأدخل في متاهة نجيب محفوظ.

ثلاث سنوات وأنا أستقطر الأحلام حلماً بحلم، وأعيد كتابة الحلم الواحد عدة مرات حتى يسكنني وأسكنه.. ثلاث سنوات من الغوص العميق في الذات، والتفتيش في صندوقي الأسود بحثاً عن رفات المواقف والأحداث والمشاعر التي أغلقت عليها بالضبة والمفتاح، لأكتشف كم هي حية، وتصرخ بداخلي: حررني وتحرر مني.

لا أعرف كيف تمكن هذا الهرم من كتابة كل هذا العدد من الأحلام؟ وكيف تحمل كل هذه المعاناة التي لم أتمكن من احتمالها في حفنة نصوص صغيرة؟

أعترف بشيء خطير، بعد كتابة لمح البصر، لم أعد أشعر برغبة في ممارسة الإبداع السردي مرة أخرى، بل حتى صرت أقرأ السرد على مضض. كأني أكلت وجبة دسمة وربما أخيرة.. فهل وضعت نهايتي السردية بيدي مبكراً عندما سمحت لشبح محفوظ أن يسكنني؟

لدي على الحاسوب أربع روايات ناقصة، كلما حاولت النظر في أي منها شعرت بازدراء لها ولا أعرف سببه.. في كل مرة أتركها، وأعود إلى نجيب محفوظ حتى أتْمَمْت فصول كتابي “مقامات في حضرة المحترم” وأعترف بأن فصول هذا الكتاب جاءت من وحي القصة الأخيرة من قصص لمح البصر. القصة التي رأيتني فيها أقطع رحلة غامضة لأدخل الحضرة المحفوظية، وربما لم أخرج منها بعد:

“في عودتنا، كنا قد قطعنا شوطاً في طريق الإسكندرية الصحراوي، حتى وصلنا إلى الرست هاوس، عندئذ توقف السائق، وقال في حسم: ربع ساعة لا أكثر.

تحررنا جميعاً من زنقة الأتوبيس، ونزلنا بملابس المصيف الخفيفة والأحذية الرياضية. وتفرقنا في بهو مازال محتفظاً بآثار الزمن، رغم محاولات التجديد على الحوائط والمقاعد، وسيراميك الطرقات المؤدية إلى دورات المياه.

  تناولتُ زجاجة مياه باردة من الثلاجة، ورحت أتجول في المكان، لأحرك قدمي وأسلّي نفسي. حتى وجدتني أمام باب مغلق، وفيما كنت أتأمل دقة صناعته، وروعة زخارفه الذهبية، انفتح، وأطل منه وجه لنوبي معمم، في ملابس بيضاء نظيفة.

 قال بلهجة جادة: تفضل يا فندم.

قلت مداعباً: هل الزمبليطة في الصالون؟

لكنه انحنى، وسمح لي بالدخول، فإذا بي في بهو واسع، تتوزع على جانبيه أعمدة رخامية خضراء. فيما المقاعد مصفوفة بجوار الحوائط، والجميع جلوس عليها في صمت، عيونهم شاخصة في اتجاه الصدارة، حيث الزعيم ممسك بطربوشه، يحركه بين يديه ويتكلم، فيما هم يضعون طرابيشهم أمامهم، على موائد صغيرة مذهبة. ولا يحركون عيونهم بعيداً عن الزعيم، حتى أن أحداً لم ينتبه لوجودي، ولا لتجوالي بين جنبات البهو ببنطالي الجينز، وحذائي الرياضي، وزجاجة مياه معدنية في يدي.

لا أدري كم لبثت في حضرته، ولكني انتبهت أن الوقت الذي حدده لنا السائق انتهى. عندئذ هرولتُ إلى خارج القاعة، كان الأتوبيس قد تحرك فعلاً ووصل إلى نهاية شارع محمد علي، ورأيته من بعيد ينعطف في اتجاه القلعة، فغمرني يأس من اللحاق به، حتى أني وقفت مكاني لا أعرف ماذا أفعل! فيما كانت نغمات الآلاتية تتناهى إلى سمعي، ثم أني رأيت (حميدة) تقف بثوبها الشفاف عند أول الزقاق، يتضوع المسك من بين أعطافها، فسألتها ملهوفاً، أين الطريق؟

أشارت لي أن أتبعها، فتبعتها إلى داخل الزقاق، حتى وصلنا إلى قبو في نهايته، فعبرناه منحنيين، فإذا بنا في ساحة كأنها ميدان، تعج بعربجية يتسابقون بجيادهم وعرباتهم الكارو، ويحدثون صخباً كأنهم في عراك.

 توقفتُ خشية أن يصدمني الكارو، ولكني سمعتها تحثني على الإسراع وتشير إلى السماء. أدركتُ أن علينا أن نصل قبيل آذان المغرب، فحثثت الخطى خلفها، حتى انتهينا إلى سور عظيم، تطل من خلفه أشجار الكافور، ولما وقفنا أمام الباب الكبير، التقطتْ حجراً وناولته لي، وقالت:

– اضرب بقوة حتى يسمعك المنشدون في الداخل.

ثم رأيتها تعود في اتجاه القبو من جديد، فيما تركتْ مسكها يعبق الأجواء.

انفتح الباب، فإذا بالوجه النوبي المعمم، ينحني ويدعوني للدخول، فارتجَّ علي الأمر.

هل عدت إلى الرست هاوس؟

إلا أني لمحتهم من كوة الباب. إنهم جالسون، هذه المرة في هيئة دراويش، منهمكين في أذكارهم، وعيونهم شاخصة في اتجاه شيخهم. فمضيت بينهم وهم لا يحفلون، وأنا أراه منكفئاً كأنما يقرأ في كتاب بين يديه، ورأسه مغطى بغترة من شاش أبيض، وما أن انتهيت إليه، حتى رفع رأسه، فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسماً، فلم أدر ماذا أفعل، غير أني ناولته الحجر الذي طرقتُ به الباب، فأخذه مني، ووضعه في خُرْج بجواره، وعاد ينكَبُّ على كتابه، فوقفت مرتبكاً، لا أدري، إن كنت أجلس بينهم، أم أعود من حيث جئت؟”.

سيّد الوكيل: روائي وناقد من مواليد القاهرة 1951، عضو اتحاد كتاب مصر، رئيس تحرير سلسلة إبداعات قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

الروائي والناقد المصري سيّد الوكيل يكتب مقالاً عن رحلته مع نجيب محفوظ

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى