يناقش هذا المقال كتاب الفيلسوف الأمريكي أرتور دانتو «تحوير المبتذل، فلسفة للفن»، ويفصل الخطوط العريضة لهذه الفلسفة وتنظيراتها لفن ما بعد الحداثة:
صنع العالم:
“إننا نعيش في عالم فن مفاهيمي”، يقول أرتور دانتو Arthur Danto (1924-2013) الفيلسوف والناقد الأمريكي، متحدثا عن “عالم الفن المعاصر”. تنتمي فلسفة دانتو إلى المدرسة التحليلية وممارساتها التطبيقية خصوصا داخل المجال الفني. ويعدّ بمعية نيلسون غودمان من الأسماء البارزة في هذه التوجه الفلسفي وأحد المجددين فيه. وتسعى هذه المدرسة إلى تحليل بنية اللغة وتركيبها ورموزها وكيفية استعمالها للدلالات للإشارة للأشياء؛ وهي حركة فلسفية استندت في البداية إلى المنطق المعاصر الجديد الناتج عن أعمال غوتلوب فريغ وبرتراند راسل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لإلقاء الضوء على أسئلة فلسفية. ويعتمد منهجها على تحليل منطقي للغة. ويلقى هذا التوجه الفلسفي رواجا في العالم الأنجلوسكسوني أكثر من أي منطقة أخرى؛ وترى بعكس باقي المدارس الفلسفية بأنه هناك نوع من الصراع بين الواقع واللغة التي لا تعكسه، إذ كل ما نقوم به يندرج فقط في ما يسميه غودمان بـ”طريقة في صناعة العالم”، فلا يمكن أن نكشف أبدا عن نظمنا الترميزية التي بها نصنع العالم. بالتالي، فقط اهتمت هذه المدرسة بالأنساق الرمزية في عالم الفن، وإن تأخرت نوعا ما في الدخول إلى هذا العالم، إذ كان الفلاسفة التحليليون بطيئين في التفكير في الفن والحكم الجمالي نتيجة للهجمات على المفاهيم الجمالية التقليدية والتسامح من قبل مفكري ما بعد الحداثة. تناولت سوزان لانجر ونيلسون غودمان هذه المشكلات بأسلوب تحليلي خلال الخمسينيات والستينيات. وقد ازدهر علم الجمال كتخصص للفلاسفة التحليليين منذ وقت غودمان وما تلاه من دراسات لدانتو وغيره.
تحوير المبتذل:
أصدر أرتور دانتو كتابه “تحوير المبتذل، فلسفة للفن” [la transfiguration du banal, une philosophie de l’art] سنة 1981، وتم ترجمته إلى الفرنسية سنة 1986، (وهي النسخة التي نعتمد عليها في نصنا)، ليلقى رواجا كبيرا خارج العالم الأنجلوسكسوني… ونفضل ترجمة كلمة transfiguration بـ”تحوير”، من حيث إن هذا المصطلح يدل على “تغيير وتبديل” في الآن نفسه، وهذا ما يسعى دانتو للبرهنة عليه في كتابه. أي ذلك التغيّر والتبدّل الجذري الذي حدث في “عالم الفن” للأغراض “المألوفة والمبتذلة banals” كالمبولة في منجز مارسيل دوشان، والزبدة في عمل جوزيف بويز، نوع من “التجلي” و”الارتقاء”، (إذ تدل transfiguration على تجلي وارتقاء السيد المسيح، وتغيره من حالة المادة إلى الهيولى، وارتقاءه من الدنيوي إلى السماوي، وقد نقل دانتو هذا المفهوم من الحقل المعجمي اللاهوتي إلى الحقل المعجمي الفني، ما يحدث صدمة لدى المتلقي، من حيث إن الشيء المبتذل قد ارتقى إلى أعلى الدرجات، محدثا تغيرا جذريا في ماديته وفي تاريخ الفن)… ويمتد الكتاب على طول سبعة فصول: 1) العمل الفني والأشياء الواقعية البسيطة؛ 2) محتوى والسببية؛ 3) فلسفة وفن؛ 4) استتيقا وعمل فني؛ 5) تأويل وأصالة؛ 6) عمل فني و تمثيلات بسيطة؛ 7) تحوّل، تعبير وأسلوب؛ بالإضافة للمدخل. وعلى امتداد هذه الفصول يضعنا دانتو أمام رهان تحليلي ونقي يفتح الأفق على التجديد.
وبشكل أساسي، فإن المقاربة التي جاء بها هذا الكتاب تتألف من شقين: “مرحلة سلبية”، تبيّن أن الخصوصية الأنطولوجية للعمل الفني ليست خاصية مادية أو إدراكية (حسية)، وأن العمل الفني لا يُمنح لنا بالطريقة نفسها التي تعطى بها أغراض العالم؛ بينما تحاول “الخطوة الثانية الإيجابية” تحديد المعايير، التي لم تعد إدراكية ولكنها قاطعة، والتي من خلالها الأعمال الفنية تعدُّ أو تصبحُ أعمالًا فنية، فالغرض من هذا المؤلف هو تحديد كنه الفن وتبيين خاصية العمل الفني بالنسبة للكيانات اللافنية، أي الأغراض المصطلح عليها بالمبتذلة.
عالم الفن:
سعى أرتور دانتو في مؤلفه للإجابة عن سؤال الفيلسوف نيلسون غودمان: “متى يكون هناك فن؟”، وللإجابة عن هذا السؤال الشائك يستحضر دانتو، بالخصوص، تجربتي كل من مارسيل دوشان (المبولة، النافورة، 1917)، وتجربة أندري واروول (علب بريو Brillo، 1967) -بشكل خاص؛ بالإضافة لتجارب أخرى كتجربة ليشتينشتاين (بورتريه السيدة سيزان، 1962)، وتجارب أدبية لهمنغواي وشكسبير وغيرهما… ويذهب بالسؤال إلى سؤال مواز: “متى يكون هناك عمل فني؟”، أي الكيفية التي يتحول بها الغرض المبتذل إلى عمل فني œuvre d’art. الحالة هنا المبولة والعُلب…
و يخبرنا صاحب الكتاب بأنه إذا كان كنه (=جوهر) الفن غير كامن في الصفات الجمالية، وبالتالي الإدراكية، إلا إنه كامن في بنيته القصدية structure intentionnelle (متعمدة وواعية)، فإن هوية العمل الفني هي دائما تاريخية بارزة، لأنه يعتمد على الخصائص الثقافية للعصر الذي أنجز فيه: وإن كل هذا غير ممكن دائما. لا يوجد عمل فني إلا داخل أفق فني عالمي، أي في عالم الفن un monde d’art (artword) ، الذي يحدد مسبقا الإمكانيات المتاحة للفنانين في فترة تاريخية معينة: لو قام شخص ما، في القرن 19م.، برسم لوحة مماثلة للوحات بيكاسو أو إرنست أو موندريان أو بولوك…. فلن يتم قبولها بصفتها أعمالا فنية، لأن الأدوات المفاهيمية (نظرية الفن الحديث، في هذه الحالة)، التي تسمح بتأويلها (أي هذه الأعمال) باعتبارها “أعمالا فنية” لم توجد بعد. إذ وعلى غرار الفيلسوف الأمريكي جورج ديكي George Dickie اعتقد أرتور دانتو بوجود نسق عام “مؤسساتي” يحدد العمل الفني، تم تسميته بـ”عالم الفن”؛ وأيضا فحقيقة أن العمل الفني ليس ممكنا إلا في عالم الفن، أي في “جو نظرية فنية”، والتي هي دائما حقيقة مشتركة، تفسر لماذا التأويل interprétation والتحديد identification الفني يمتلك دائما مكانة statut عامة.
لكن الأهمية التي يخصصها دانتو للتاريخ لا تتوقف عند هذا الحد: في نص مقدمته لهذا الكتاب، يدعم هذا الفيلسوف رؤيته القائلة بأنه إذا كان “تحوير المبتذل” يمكنه أن يحدد كنه الفن، فلأن الفن نفسه قد تطور بطريقة مساءلة جوهره الخاصة، معتمدا هنا لبرهنة نظريته على أعمال دوشان وأندري واروول Warhol، بشكل خاص.
فلسفة الفن الجديد:
يسعى أرتور دانتو بشكل أساسي، في مؤلفه هذا «تحوير المبتذل، فلسفة للفن»، للتأكيد على منهجه الملخص في “تحويل transformer الخيال إلى واقع”، إذ كل ما كان له صفة خيالية هو الآن ذو صفة واقعية. لهذا يأتي عنوان الفن “تحوير المبتذل”، باعتباره عنوانا لفلسفة في الفن. فلسفة الفن جديد. لكن أي فن بالتحديد؟ وما هي معاييره إن وجدت؟ للإجابة عن هذه التساؤلات يدعونا دانتو للنظر أولا إلى أعمال مارسيل دوشان. إذ وبلا شك إنه أول، بالنظر لما سبق في التاريخ، من قام بمعجزة حاذقة وخارقة متعلقة بتحويل أغراض (أشياء) تنتمي إلى ما يسميه lebenswelt (عالم الـمُعاش) الذي نتواجد فيه بشكل يومي، إلى عمل فني. فيستحضر أعمال دوشان (فن جاهز-صنع Ready-made) من مشط وحاملة قناني وعجلة دراجة هوائية ومبولة…. وثانيا، يجب النظر إلى تلك الحالة التي فيها الأغراض “التافهة” تم تحويرها transfiguré استتيقيا، والتي تعد قيمتها الاستتيقية دائما دون عتبة الإدراك، وحتى بعد ما طالها من تحول ميتامورفوزي. ومن هذا المعطى يمكننا أن نتساءل عن الكيفية التي يتم بها القيام بعمل فني، بدون أن نعير أي اهتمام بما هو استتيقي (جمالي). ومن هنا يمكن أن نعي الإسهام الكبير الذي قام به فنان البوب آرت أندري واروول في عالم الفن.
هذا إلى جانب كون دانتو يؤكد على أن العمل الفني وهو “يتجلى”، يحمل في ذاته ثلاثية “الاستعارة والتعبير والأسلوب” (وهنا مفهوم التثليث حاضر بقوة، كما مفهوم “التجلي” والتغير في المسيحية). فالعمل الفني يتخذ “بلاغة” (معتمدة على استعارة) خاصة، تجعله كما يقول دانتو، يتميز عن باقي الأسندة التمثيلية. وليست البلاغة وحدها التي تميزه بل حتى “التعبير” و”الأسلوب”، حيث إن هذا الأخير، حسب صاحب الفيلسوف، عبارة عن ميزات التمثيل والتي هي “الإنسان عينه”، لكن من الخارج، تظهر من زاوية هَيئية (فيزيونومية). إذ إن “بنية الأسلوب مشابهة لبنية الشخصية”، بمعنى أن إذا كان الأسلوب هو الإنسان، فللأسلوب المحدد -والقياس- نفسه للشخص. ما يجعل من العمل الفني تبعا لهذه الفلسفة، مرآة لنا.
طبيعة العمل الفني:
يجعلنا كل هذا نقول بأن فلسفة أرتور دانتو الفنية التحليلية، تندرج بشكل كبير ضمن الفلسفات المعاصرة التي تناولت “العالم” الذي يحدد عمل وصنع وتلقي العمل الفني، أي تلك المؤسسة الكبرى التي تدخل في صناعته وتحوير الأغراض من عالم الواقع إلى عالم الفن، اللذين يصعب مع الفنون المعاصرة (ما بعد الحداثية) التفرقة بينهما لغياب وانصهار الحدود. فالفن منذ العقد الأول بعد منتصف القرن الماضي، صار أكثر دَمَقْرَطة، خالقا بذلك فضاءً للإبداع غير محدود ولامتناه. فقد مر ما يقارب عن أربعة عقود عن إصدار دانتو لمؤلفه هذا، وقد فرض نفسه على جل المحللين والدارسين للفلسفة الفنية في شقها المعاصر المرتبطة بالتغيرات الكبرى التي حدثت في عالم الفن، ضمن براديغم الفن المعاصر. ما استدعى بالتالي، إعادة تعريف الفن والعمل الفني. حيث إن العمل الفني يمتلك بنية قصدية لأنه، سواء كان تشخيصيا أو لم يكن، “متعلق بشيء ما”. أما الفن فهو ذلك الذي تم الإقرار بأنه كذلك، من حيث إنه عملية إنتاج مدفوعة بلعبٍ لغوي وتواصلي داخل “المؤسسة الفنية”، أو بتعبير أعم داخل “عالم الفن”. لكن عكس ديكي، وحتى غودمان، فإن نظرية دانتو ترى بحضور كل من “البنية القصدية” و”التأويل” وذلك من أجل السماح بتحوير الشيء المبتذل إلى عمل فني. ومن جانب آخر فإن التأويل الفني يعمد إلى الرجوع صوب نوايا الفنان، لكن دانتو في هذه الحالة يسعى إلى التأكيد على أن الأمر لا يتعلق بإعادة رسم المسار الذهني للفنان، ولكن إعادة بناء تلك النوايا بحد ذاتها، التي كانت الفاعل الرئيس في تأويل الفنان للعمل ضمن “نظرية فنية” تم إنتاج العمل من خلالها. فهوية العمل الفني ذات طبيعة تاريخية للغاية وذات صلة حميمية مع “الجو النظري السائد” في العصر، أي ما يمكن أن نسميه بلغة أخرى بـ”البراديغم السائد”. ومن هنا تجد أفكار أرتور دانتو قوة حضورها بشكل هام داخل عالم الفن المعاصر.
عز الدين بوركة؛ باحث وناقد مغربي