فوتو تشكيلمرايا فنّية

تحولات التأويل في لوحات أسعد عرابي | كريم سعدون

عنما يحضر الفنان عرابي وأعماله في ذاكرة المتلقي والمهتم بالفن يحضر التجريد باعتباره مسارا أسلوبيا ينبني وفقه نظام لوحاته

تحولات التأويل في لوحات أسعد عرابي

أسعد عرابي

تستدعي قراءة العمل الفني الذي ينجزه الفنان المجدد أسعد عرابي، إلى مقدار كافٍ من التمعن لمعرفة التلاقح الحاصل في الثنائيات التي تنمو في متنه حيث يهتم بحضورها ونموها جنبا إلى جنب في تعايش ينتمي إلى عصره، فهو يخلق العلاقات في لوحاته وهذه تستحيل الى شبكة من التعالقات التي تصنع مشهدا بصريا مركبا.

وعنما يحضر الفنان عرابي وأعماله في ذاكرة المتلقي والمهتم بالفن يحضر التجريد باعتباره مسارا اسلوبيا ينبني وفقه نظام لوحاته. والتجريد هيأ للفنان القابلية على التنقل بحرية حيث يوفر له مناخا خاصا للتعددية التي توفر بدورها معالجات مختلفة ومتعددة، فمن خلاله يوفر الانسجام اللوني المنضبط والمتانة التي توحي بها المدينة ومبناها باعتبار المدينة موضوعه الاثير، والانسجام اللوني الذي يخلقه الفنان فيها ينبع مما تحتويه مدينته من جماليات ظاهرة وباطنة، والظاهر فيها هو نمط المعمار وتفاصيله التي تستحيل الى وحدات لونية مركبة في متن اللوحة ويشير هذا التراكب الى ماتستبطنه من تاريخ وحكايات وأساطير هو إرثها الذي تمنحه زادا ساحرا لمحبيها. وحيث انشغل الفنان بذلك فأنه دأب الى خلق العلاقات في متن لوحته بتوافق حسي يغمر العمل الفني بروحانية ويدعو الى تأمل.

أسعد عرابي

ان العمل الفني لديه لا يستقر عند كونه بناءً شكليا فقط ولا يمتلك سردية معينة تحجب عنه سموه، انه مزيج بين هذا وذاك ليقدم لنا تعريفا ينسجم مع لحظة التأمل الخاصة والاستغراق بالعمل، وحيث تمتلئ ذاكرة الفنان بعلامات المدن المؤثرة فيه وهي مدن تمتلك حضورها التاريخي وسحرها فأنه يستعيرها ولكنه لا يسمح بدوامها إلا على شكل وجود آخر يخضعه للعلاقات الجديدة في متن عمله الفني وهو حرص على وجود ما يشكل حضوراً للمدينة الأثر في ظل غياب المدينة الواقع، أي ان التمثيل الذي يشير إلى الواقع باعتباره حقيقة هو ليس هدف الفنان وانما السعي للوصول الى (الضرورة الداخلية) كما يسميها كاندنيسكي، هو الحقيقة والغرض، وهذا هو جوهر التجريد.

يأتي أسعد عرابي الى الرسم بدراية العارف وهو المشغول بدراسة العلائق المتشابكة بين الفنون وخصوصا الموسيقى والرسم وكذلك دراسته وتخصصه في المخطوطات الإسلامية، وهذا ما جعله يهتم لأمرين خاصين به مهدا له الطريق لابتكار خصوصيته في التعبير والتكوين، أولهما استلهامه من روح الإيقاع في الموسيقى وسيلة لتركيب الوجود الاستعاري في متن أعماله وأن يحيله إلى تعالق علامي ينظم بنيتها، أي أن الفنان يُرحّل جوهر الإيقاع الموسيقي ليكون سلّماً الى الانسجام اللوني الذي يزيح في طريقه الدلالات التي تشير إلى واقعية الاستعارة ليبقي على حضور المدينة الروحي، متلبساً لهذا كيان المُريد، والآخر فهو تأثيثه لمتن العديد من أعماله الفنية وفق لمنظور مستلهم من اكتشافه لرؤية فنان المخطوطات المسلم للمنظور اذ يرسم مدينته بعين طائر حيث تمتزج زوايا المشهد وتتبادل أماكنها في حلقة دائرية. وهذا منحه القدرة على استحضار المشهد المرسوم دون الحاجة الى التقيّد بقواعد الدرس الأكاديمي.

إن حس التجريب لدى الفنان ورغبته في التجدد ولتكون لوحته في تحول دائم جعله ينتقل بعمله من التجريد المحض في سعي لأن يكون التجاور مهيمنا للتشخيص والتجريد وليعزز هذا التجاور من بناء العمل شكليا ودلاليا، فهو في استدراجه لذاكرته انما يريد به انعاش ذاكرة المتلقي لمقدار القسوة التي تعرضت لها مدينته وغيرت الكثير من ندرة التكوين فيها ورفعته وصبغت جمالها البكر بتركيبات هجينة لوثت بيئتها فلم تعد كما في الذاكرة، انه تحريض على الاحتجاج وفق رؤية الفنان للجماليات التي تعرضت للانتهاك وهكذا أصبحت علاقات التجاور ضرورية لأن يكون التعبير في أعماله أكثر قدرة على إثارة التساؤل ونتيجة منطقية لحضور التشخيص والتجريد فيها. ولعل سلسلة الأعمال التي استحضر فيها كوكب الشرق انما جرت بهذا المنحى التعبيري المصبوغ بتجريدية واضحة، لأننا إذا جردنا الأشكال من ملامحها الخارجية لحصلنا على حضور لوني وتجريد غنائي، فهذه الأعمال لم يكن الهدف منها تمثيلي وانما فعل تأملي يستحضر فيه روح الموسيقى التي أثّرت كثيرا على جيل ما يمكن تسميته بجيل الحداثة العربية وفي حضورها طاقة تدفع التأويل للانفتاح على مداه الواسع، ولابد من الاعتقاد أن الغربة في جانبها الأكثر عتمه تدفع الفنان لأن يتمسك بالذاكرة لتكون داعمة لقيمة الوجود المهدد وكأنما يريد للذاكرة أن تكون متحفا علامياً ومستودعا للتأويل.

استحضر كوكب الشرق بمنحى تعبيري مصبوغ بتجريدية واضحة، حضور لوني وتجريد غنائي

أسعد عرابي في استحضاره للمدينة بكل ما فيها من وحدات تشكل بنيتها الكلية، يرفقه بما ينبأ بسردية تقف خلف هذا التحول، أُطلق عليه: حضور الساكن والمسكون، ليكون معطى أولي لفهم طبيعة العمل الفني المعروض ويكون تلقيه ميسرا، حيث يفترض بتصوراته تلك عن ضرورة حضور التشخيص باعتباره تمثيل للساكن والمبنى باعتباره مسكونا، وهذه الرؤية الجديدة تمثل استقرارا لا يمتلكه إلا الفنان العارف بمآل التجربة الشخصية والقناعة التي يفترضها النضج فيها، ولا يعني هذا الاكتفاء والاستقرار، لأن الفنان يحتفظ بطاقة على التجريب لا يمكنه مغادرتها، وبقدر ما يتوفر ذلك على مقدرة ومعرفة عملية بآليات العمل فأنه يستند إلى وعي وثقافة بصرية ومعرفية.

***

شاهد أيضا: غاليري أسعد عرابي؛ التجريد والتشخيص، الموسيقى والشكل في لوحات أسعد عرابي

كريم سعدون؛ عضو نقابة الفنانين العراقيين. عضو جمعية التشكيليين العراقيين. عضو نقابة الفنانين السویدیین، عضو نقابة الصحفيين العراقيين، عضو اتحاد الصحفيين العالمي، عضو اتحاد الصحفيين العرب، عضو مؤسس للجنة الكاريكاتيرية العراقية، مؤسس رابطة الكاريكاتيريين الشباب.

خاص قنّاص – فوتو تشكيل

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى