عين قناصفوتو تشكيل

معرض الفنانة التشكيلية أسماء فيومي والتجلّي الأنثوي لمختلف الجماليّات | علي الرّاعي

في معرضٍ زاخر باللوحات المُتعددة الأبعاد، وإن مالت مُعظمها نحو اللوحات المتوسطة في حجومها، والتي قاربت المئة لوحة احتفت بها مؤخراً صالة (تجليّات) بدمشق، للفنانة التشكيلية أسماء فيومي المُفعمة بالتلوين على مدى زمني تجاوز النصف قرن..

هنا؛ كلُّ شيءٍ حافل لدى الفنانة فيومي، ابتداءً من زخم الصالة وحشدها بعشرات اللوحات، ولن ينتهي الأمر بالتنوّع بالتقنيات، والأساليب، ولا بشواغل اللوحة المختلفة سواء كانت الإنسانية، فقد استطاعت الفنانة ال(فيومي) من خلال ما سلف إن تُقدّم حقولاً لونية، أمسى لها علامتها الفارقة في المشهد التشكيلي السوري.. فلجهة الزمن؛ فالفنانة أسماء فيومي التي تحمل في جذورها جينات مصرية لجدٍّ ينحدر من (الفيوم) المصرية، هي أبنة لوالدين دمشقيين، لكنها ولدت في العاصمة الأردنية عمّان سنة 1943، وهناك تررعت لبعض الوقت قبل أن تدخل كلية الفنون الجميلة – قسم التصوير في جامعة دمشق، والتي لم يكن قد مضى على إنشائها سوى سنة واحدة سنة 1960، ومن ثمّ لتكون من الدفعة الثانية من خريجيها سنة 1966 برفقة من صاروا أو شكلوا رموزاً في المشهد التشكيلي السوري اليوم مثل: إلياس الزيات (1935)، نذير نبعة (1938)، غسان السباعي (1939)، ليلى نصير (1941)، أسعد عربي (1941)، والذين وقع على عاتقهم حينها مهمات جمالية جسام، ليس أهمها تحويل منهجيات فن الرسم إلى أشكالها المعاصرة.

استطاعت الفنانة الـ(فيومي) أن تُقدّم حقولاً لونية، أمسى لها علامتها الفارقة في المشهد التشكيلي السوري.

الصورة: من أجواء المعرض | qannaass.com

ورق

وخلال أكثر من خمسٍ وعشرين معرضاً فرديّاً؛ أقامتُه الفنانة فيومي على مساحة زمنية، أصبحت اليوم واسعة؛ كان لافتاً اختيارها للعناوين، والتي تأتي مُكثفة، ومُقتضبة، بحيث تترك لطاقة المفردة المُخزنة فيها، لأن تُوحي بعشرات التأويلات، وهو ما يُتيح للتكثيف والاختزال المُعادلات التي لا تنتهي من السرد.. عناوين غالباً تأتي بمفردة واحدة، كما عنونت معرضها الأحدث في صالة تجليّات ب(ورق)، هكذا دون أي (آل) تعريف، وذلك لتترك هذه المُفردة “النكرة” الحرية بمُخاتلة المُتلقي بعشرات التأويلات، وهو الأمر الذي توصل إليه منذُ قديم الإبداع شيخنا (النُفري) بـ«كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة»، لكن ليس كما فُهم خطأً بمعنى العجز، وإنما على العكس تماماً، بل هو الإبداع الذي يأتي بمعنى الفيض الفكري الذي يُعبّر عنه بالتكثيف وقُصارى القول، وأخيراً ببيت القصيد دفعةً واحدة.. وهو الأمر الذي لم تركن إليه أسماء فيومي في العناوين وحسب، بل وفي التكوينات وشواغل اللوحة التي مالت في معظمها للإقتصاد في كلِّ شيء، ابتداءً بالألوان، ومن ثم بالتكوينات، وحتى بحشد اللوحة بأقل ما يُمكن من العناصر الجمالية والتكوينات، أو التكاوين.. ويأتي (ورق) أسماء فيومي هذه المرة، أشبه باليوميات، التي جسدتها على (الورق)، وهي التي اشتغلت طويلاً على اللوحة المشدودة من القماش، والتي كانت تذهب بها إلى لوحة ذات الأبعاد الواسعة التي تصل حدود اللوحة الجدارية.. وهو الأمر الذي انعكس بالنبض الحي الذي يعج بمختلف المشاعر، وكأنها تُسجّل يومياتها السريعة – هذه المرة- كمشاهد خشية عليها من الامحاء.. يوميات تأتي كقصصٍ قصيرة، كل قصة خصصت لها ورقة – لوحة باعثها دائماً، أو شاغلاها الأثيران (المرأة والأطفال) اللذان ياتيان من خلفية أسطورية بعيدة، ومن هنا يُمكن لنا أن نُفسّر هذا الحس الطفولي – العفوي في اللوحة الذي يصل لحواف الفطرية أحياناً..

لوحات (فيومي) باعثها دائماً، أو شاغلاها الأثيران (المرأة والأطفال) اللذان يأتيان من خلفية أسطورية بعيدة. هذا الحس الطفولي–العفوي في اللوحة يصل لحواف الفطرية أحياناً..

الصورة: الفنانة أسماء فيومي في معرضها (ورق) | qannaass.com

إبداع المواربة

وهنا قد يبدو في الأمر ثمة “التباس”، أو ربما هذا ما قد يبدو للوهلة والقراءة الأولى للوحة هذه الفنانة، ذلك أنّ المُعايشة الجمالية الطويلة، وانعطافات التجربة الفنية الكثيرة، واطلاع الفنانة على مختلف التجارب التشكيلية في العالم، ومُعاصرتها لرواد المسيرة التشكيلية السورية وصولاً لتجارب المشتغلين فيها اليوم، ومُعاصرتها لأحداث وتقلبات عصرٍ بكامله تقريباً؛ كلُّ ذلك – ربما- كان يشي بأعمال أقرب إلى الملحمية، وبحمولاتٍ مختلفة تُفعمُ بها لوحتها أو تنوءُ بها، غير أن العكس هو ما تجلى في لوحة أسماء فيومي على مدى فضاء مئة لوحة، وربما وزعت كل تلك المُعايشات بالنتاج الغزير للكثير من الأعمال التشكيلية، ذلك أنّ التحدي الإبداعي طالما كان في التكثيف، وحتى في الأدب، فما فاز غير الأدب الوجيز، فقد انتهى عصر الملاحم منذُ عقودٍ بعيدة، ومن ثمّ فإنّ العمل الذي يستهلك الكثير من الشرح والتفاصيل في صياغته يُضيّع الكثير من جمالياته الإبداعية، إن لم يُضيعها كلّها.. من هنا فإنّ الملمح الأهم، وربما الأبرز في شغل الفنانة أسماء فيومي؛ كان في (لاختزال)، والتحوير، وهذه التقنية التي بنتها الفنانة من مختلف المدارس الفنية التي خوّضت فيها منذ بداياتها التي كانت، نتاجاً لـ(جدال وسجالات التجريد) حينها، وذلك منذ دراستها الجامعية، أو ما عُرف بظاهرة الفنان الإيطالي “غيدو لاريجينا” الذي تمَّ استعارته للتدريس في كلية الفنون الجميلة المُحدثة للتو، والذي كان منحازاً بشكلٍ كلي إلى التجريد، وهو ما تأثر به غير فنان حينها، ومن بينهم الفنانة أسماء، ولكنها أيضاً المتأثرة بذات الوقت، وإلى حدٍّ بعيد بشيخ الواقعية السورية الفنان ناظم الجعفري على سبيل المثال..

اختزال وتحطيم

هنا ستجد في لوحة أسماء فيومي الطالعة من عمق ذلك التجريد، لكنها غير المُنقطعة عن واقعيتها، تتجلى في تفاصيلها مختلف التيارات والمداراس والمذاهب الفنية، دون أن توقف كامل فضاء اللوحة لتأثير أو مؤثرٍ واحد منها، وإنما يأتي الأمر أيضاً اختزالاً وتكثيفاً، ومن “طرف الخيط”، وليس خيط الاتجاه كله، فقد انتهى ذلك (الإخلاص) لاتجاه فني بعينه، ذلك إن تلك الاتجاهات والمدارس لم تعد بحاجة لكلِّ هذا الإسراف لإثبات وجودها الذي كان يأتي نتيجةَ باعثٍ اجتماعي، أو فكري، أو فلسفي، أو مُعادل لمحنة، أو كارثة إنسانية، وربما ردة فعل عليها.. من هنا لا معنى اليوم لإغراق فضاء اللوحة في التلوين الصرف الذي يهرب من أي تشخيص، أو تجسيد، ولا معنى لوقوع اللوحة في وثائقية أو تسجيلية ما، وإنما تماهي كلّ ما تقدم من تيارات لخلق تعبيريةٍ خاصة بالفنان نفسه، وهو ما سعت إليه الفنانة فيومي في مختلف شواغلها التشكيلية.. تعبيرية مُفعمة بالرموز، والخطوط التي لا يشوبها غموض، وبتلك الألوان التي تتجاور مُضادة، وكأن (الضديّة) هنا خُلقت لتتجاور، وهنا وضوح الخطوط والتكاوين التي قاربت في (عفويتها) رسومات الأطفال، وبما يُشبه الموتيفات أحياناً، لاسيما عندما تتقشف بالألوان لتصل لاختصارها بالأسود والبني، وهما اللونان السائدان في مختلف أعمالها، ولا يُعكّر انسيابهما سوى (البقع) اللونية: الأحمر، الأصفر، وقيلاً من الأزرق، التي ترشقها كل حين، وذلك بتناولها للكثير من الألوان المائية والأحبار..

تعبيرية فيومية

تعبيرية تبدو اليوم “فيومية” صرفة، وإن كان يُمكن للمتلقي أن يجد لها بعض الصدى عند كل من: أسعد عرابي، وسعد يكن، لكن إلى حدٍّ بعيد جداً لاسيما في التشخيصات، أو التجسيد الذي يقوم على تقنية (التحطيم) للواقعية خصوصاً في كسر النسب، وكذلك في تحطيم الوجوه في سبيل البقعة اللونية، وهو الأمر الذي توظفه في الكثير من الحالات الدرامية.. وللتذكير فإنّ لوحة أسماء الفيومي، ورغم كل لعبها بالألوان، والخطوط، غير أنها أعمال زاخرة بالتراجيديا، ولا يبدو الأمر غريباً؛ إذا ما علمنا أن الفنانة فيومي عايشت كل حروب القرن العشرين، وكل الحروب التي نشبت في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين..

بهذه التعبيرية تُقدّم فيومي تنويعات الوجوه، غايتها تلك الحالات الإنسانية التي يُمكن قراءتها مما ترسله العيون المُبهمة، أو المُغمضة، وحتى شكل الأنف، أو في تعدد الوجه الواحد في اللوحة.. بمعنى على مستوى التكوين، أيضاً جاءت تكاوين هذه الفنانة مقتصدة، ومكثفة وبأغراض وشواغل مُعينة.. وكثيراً ما كانت الوجوه على حساب باقي أعضاء الجسم كالأذرع والأجساد، التي بقيت كخلفية تؤكد حقيقة الوجه سواء بالعيون المغمضة أو المفتوحة على اتساعها، ودون أن تكون اللوحة لوحة “بورتريه” صرفة.. فقد كثفت في تلك الوجوه أكثر من غاية فنية، ورغم صعوبة تحديد جنس صاحب الوجه إن كان لرجلٍ أم امرأة، وإن كانت الملامح تُشير للمرأة أكثر، وما التغييب هنا سوى لإعطاء المرأة كل الأدوار التي تقوم بها، بما فيها دور الرجل.. غير أنه يُمكن مع ذلك تمييز الكثير من الأجيال التي تُمثلها الوجوه، أي أطفال وشباب وكهول، وحتى في تعدد الوجه في اللوحة الذي غالباً ما يُشير لأسرة، أسرة قد تُختزل لطفلٍ وامرأة، أو وجهان لرجلٍ وامرأة.. وهي في كل ذلك تؤكد أن الحالة الإنسانية التي تشتغل عليها فيومي تكاد تكون شاملة، وهي غالباً ما تذهب صوب ذلك الحزن النبيل والشفيف، الذي تُصرّح به العيون، لوحة تقول لك ما يحدث الآن وهنا، بمعنى هي تشتبك مع اللحظة السورية الموجعة دون أن تنحى منحى التقريرية أو التورط بالتسجيلية، وإنما قراءة ما حدث إبداعياً، أو إيجاد المُعادل الإبداعي لواقعٍ مُدّمى بإشاراتٍ إليه بأكثر من إحالة سواء باللون، والبقع اللونية الحمراء على وجه التحديد، أو بتلك الوجوه التي تذهب صوب الارتخاء الطولاني الذي يفيضُ حزناً.

الصورة: الفنانة فيومي مع زوار المعرض | qannaass.com

تراجيديا ملوّنة

ومن هنا يُمكن تفسير تنويعات الحالات الطفلية في اللوحة، أقصد بالطفلية، التشكيل الذي يُقارب في عفويته رسومات الأطفال، وكذلك التجسيد الذي يزخر بالأطفال، إضافة إلى التجلي النسوي الذي لا تكاد تخلو منه لوحة.. وهو أمر نفسره؛ بإن أول ضحايا الحروب في العالم يكونون من الأطفال، سواء بإزهاق أرواحهم، أو بجعلهم يعيشون المآسي سواء بفقدان من يُعليهم، ومن ثمّ ضياع مستقبلهم، وبكل تأكيد؛ فإنّ أوّل الخاسرات في هذه الحروب، وعلى الصعد كافة يكنّ من النساء، ومن هنا تأتي أعمالها طالعة من أعماق المشاعر والتخييل، الذي يرمي بمختلف النسب الواقعية بعيداً، ومُقترباً صوب عفوية لونية كثيراً ما عبرّت عنها بألوان عاطفية كالأحمر ومشتقاته، وحتى خطية مشغولة بتعبيرية خاصة.. تقول في هذا المجال:”تزدحم لوحاتي بوجوه نساء، وأطفال تربطهم علاقة حميمة مع الأرض مستوحاة من الأساطير السورية القديمة التي تعتبر وجه المرأة بمنزلة أرض الوطن، فرسمتُ المرأة ضمن المدينة، ورسمتها داخل البيوت، وهي تحتضن الطفل، لأن المرأة والطفل هما أسطورة الخلق، فالفن ليس فوضى، بل هو خلق خالص، والفنان الذي يرسم ما بداخله لا يمكن أن تكون أعماله تكراراً لأعمال غيره لأن لكل فنان داخله الخاص، ومن هنا تعد الألوان والمواد وطريقة استعمالها خرقاً لأساليب مكررة وعنصراً مساعداً على التجديد”.

والحقيقة؛ إن الانعطافات التي كانت تحدث في تجربة الفنانة أسماء فيومي، كان الباعث لها في الغالب الحرب، وثمة أصداء لها دائمة تظهر في أعمال الفنانة ابتداءً من حرب (1948) واحتلال فلسيطين، مروراً بحرب (1967)، وصولاً إلى ما يحدث من حروب اليوم على سوريا.. كما يُمكن تفسير تلك (الدراما) في لوحة الـ(فيومي)، من شغلها في التلفزيون السوري لاسيما في مجال الدراما التلفزيونية، سواء في أعمال الديكور، أو في شارات وتترات عدد كبير من المسلسلات السورية، وكان ذروة شغلها عندما تزوجت من المخرج السوري غسان جبري سنة 1972؛ وشكلا معاً ثنائي فني، وهو الذي أشتهر كثيراً في الأعمال التاريخية..

تحية لفرسان الدراما

شغلها في أعمال الدراما التلفزيونية، يبدو إنها بقيت متأثرة به إيما تأثر، وهو ما عبرّت عنه في معرضها الأحدث بصالة تجليات الدمشقية، وذلك بتخصيصها ثلاث لوحات، بدت مختلفة عن كل لوحات الصالة، وخارج سربها، وذلك باتخاذها الشكل الطولاني أولاً، ومن ثم الحالة الحروفية في تلك اللوحات.. الشكل الطولاني الذي بدا كسجل دونت خلاله أسماء الكثير من الفنانين والفنيين، ومن كان له دور رائد في تاريخ الدراما السورية، وهم – على ما يبدو- من الأشخاص الذين عايشت معهم هموم الدراما وشواغلها، فنقرأ بين ألوان اللوحات أسماء: يوسف شويري، رياض شحرور، عبد السلام الطيب، عندنان بركات، رضوان عقيلي، سلوى سعيد، وآخرون.

علي الرّاعي؛ كاتب وصحفي سوري | midline-news.net

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى