لأن لا شيء قد احترق
هذا العالم؟ مجرّد كابوس. هذا الوجود؟ عدمٌ قيد الإنشاء. أمّا الشعر؟ إنّه أسلوبٌ مميّزٌ لكشفِ هذا الكابوس أثناء التجهّز للعدم.
لعلّ هذا اليأس المطلق من العالم هو الذي قاد الشاعر اليوناني ألكسيس ترايانوس إلى الانتحار وهو لم يتجازر السادسة والثلاثين من عمره بعد، إنّه ذلك اليأس الذي يهتاج في قصائده بصورٍ متوحّشةٍ وفظيعةٍ ومتقاربةٍ بعنف، متدفّقة ومتخشّبةٌ في غنائيّةٍ محمومةٍ ومتجمّدة.
من الواضح أنّ هذه القصائد المتكرّرة والمتنوّعة بشكلٍ دائمٍ تدور ضمن حلقةٍ فارغة، ولا يوجدُ مخرجٌ لها فالأرض تنشل منها، واللغة نفسها تتعرّض للتقويض من خلال العديد من الألعاب الصوتيّة وأشكال التورية والجناس والسجع، وغيرها من الأصداء الساخرة والمدمّرة. إنّها تطلق دعابةً كاملة السواد، حادّة وتعوي في بعض الأحيان.
هذا ويعدّ ألكسيس ترايانوس (واسمه الحقيقي ألكسندروس زافاتاريس) أحد أهمّ الشعراء اليونانيين من جيل السبعينيات، فقد ولد في سالونيك مع نهايات الحرب العالميّة الثانية، وتحديداً في 20 أكتوبر 1944، وتابع دراسته الجامعيّة بمجال الحقوق في جامعة أرسطو بالمدينة نفسها، كما عني بالترجمة الأدبيّة إذ قام خلال عام 1967 بترجمة مختارات من شعر الزنوج. وقد تعدّدت محاولات انتحاره، إذ كان أوّلها بعد وقتٍ قصيرٍ من ترجمته لشعر الزنوج وآخرها عام 1980، وهي المحاولة التي توفّي على إثرها.
أمّا كتابات ترايانوس فتتّخذ شكلاً إهليلجياً اتهاميّاً تكمن حدوده في عالم الشاعر الداخلي والخارجي، وذلك بلغةٍ ممتعةٍ ومباشرة. وقد كتب الشاعر والناقد اليوناني فاسيليس سترياديس في صحيفة كاثيميريني ما يلي: «إنّ الموقف الفلسفي والوجوديّ متطرّفٌ لدى ترايانوس، فجوّ قصائده يعيش مرحلةً حرجةً لدرجو يبدو مشحوناً بخطر الألعاب البهلوانيّة للعقل المتجلي كأنّه مسموم، وذلك في دورٍ يمكن للعبة أن تضيع فيه مع الأعصاب في أيّ لحظة».
كما أنّ الأمل والمنطق المتلاشيين من حياة ترايانوس قد جعلا من الفوضى مرتعاً لكلماته، إذ يتمّ تمييز حطام الصور والعبارات عن طريق التحرير الدقيق، إلا أنّ ترايانوس يجيد كيفيّة التلاعب بالشعر كأنّه مهندسٌ معماري وموسيقيّ متكامل الإيقاعات، غير أنّ اغراق هذه النصوص بالتفاصيل يجعل من ألعابها الصوتيّة مزعجة للغاية.
يُذكر أنّ ألكسيس كان مهووساً بالسينما وعاشقاً للموسيقى، كما عُرِف عنه تعصّبه لمسرح بيكيت وقربه من الشعراء الأمريكيين الذين ترجم لهم. وقد صدر له خلال حياته ثلاث مجموعاتٍ شعريّة: «الأيام الصغيرة» (1973)؛ «الساعة الرمليّة والرماد» (1975)؛ «العين الثانية للصقلوب/يليه قصائد مسرطنة» (1977)، إضافة إلى مجموعةٍ صدرت بعد وفاته: «متلازمة إلبينورا» (1984) ومختارات شعريّة صدرت عام 1991 بعنوان «حارس الخراب». كما صدر له كتاب مقالاتٍ بعنوان «الشغف الغائب والحاضر» (1976)، وفي الترجمة صدر له: «مختاراتٌ من شعر الزنوج» (1969)؛ «الشعر الأمريكي بعد الحرب» (1974)؛ «مختاراتٌ من أعمال بوكوفسكي» (1980)؛ وأيضاً «سيجيء الموت وسيكون له عيناك» لـ شيزاري بافيزه (1988).
الساحر
سأحاول أن أشكر المتفرّجين
من خيوط منشارك اللامع.
أيّها الساحر
أنت تغنّي خارج اللحن
وأنا داخل صندوقك،
أيّها الساحر
لقد جرحتني
لذا سأحاول أن أشكرك كحيوانٍ مذبوح،
لم أعد أرى أيّ شيءٍ يستحقّ المضيّ صوبه
فالليل في كلّ مكانٍ
وفي الموسيقى – عظام الحب
ينفث التشنّج الفارغ.
اسمحوا لي بقيادة هذه البهيمة المسكينة إلى جحرها
ومتابعة الدم والألم على الدرجات
بجانبها سأنصت إلى الهواء
هذا الأسيد الذي شوّهني.
سائقٌ سخيفٌ هو الوحيد الذي حدّثني
طلب منّي دفش سيّارته المعطّلة
لذا رميتُ بهما في الوادي الضيّق
فالموتُ نتاجٌ وطني،
ملأت المنزل بفخاخ الفئران
فبدت معلّقة بالسقف كالأقفاص
بالحوض عبر أنبوب التصريف
بملابس زفافي وخيوط العنكبوت حولها،
ليس ذلك حلماً تحت بطّانيّة باردة
أمّا الجدران التي تنتهي باليأس في مكانٍ ما
فخرقاء كالقصائد.
***
مكتبُ بريدٍ في الجبل
أردتُ تذكيرك بأفراحنا القديمة
لكنّني لا أعرف
كيف أتحدّث عن اللحظات السعيدة بعد الآن.
«إلى ميلتوس ساختوريس الذي كتبها»
كانت الساعة الثالثة أو الرابعة
في الساعة السوداء من الليل
وقتٌ لا مبالٍ بيوميات النوم
بالجدران الأربعة الزائلة
بأجزاء الظلام داخلي
الآتية من بلادٍ عائمةٍ في غرفةٍ بحريّةٍ مليئةٍ بأبيات دون قافية
في صفحات مجلّة البار،
في أرض عجائبٍ زائفة
حيث ترى من هنا القمر بصراحةٍ
والمريخ
وحلقات زحل
كوكبٌ مسكون
شاعرٌ مسكون
رأسه خارجٌ من زجاجة
من شتلة بيغونيا
من رأسٍ آخر لي
من جسد امرأة
لكن ما بحوزتي أيّ شيء
إنّني أشكّك فقط
أشكك
أهذه الإشارة الموضوعة لي
هذه الإشارة العالمية
أهي إشارة موتي؟
لكن ما بحوزتي أيّ شيء
فقد أمضيت الشتاء في شغفي فقط.
خضرةٌ تهتّكيّة في علب الثقاب
لذا اكتفيت بإشعال سيجارتي.
الحقيقة أنّ “هذا هو ضوء الروح الباردة والكوكبيّة”
قد يقولُ المرءُ سرّاً
أشبهُ بملاكٍ فوق زنبقة
يسكب الليل باستمرارٍ من قلمٍ كهفيّ
فوق كوكبٍ
فوق زحل الميّت
حيث لن ترى أيّ شيءٍ من هنا
والآن سأحتاجُ مدينةً أخرى لتوديعك
لأنّ المدينة الموجودة احترقت
لأن المدينة الموجودة تجمّدت
لأنّ كلّ شيءٍ هادئٍ كمسرحيّةٍ انتهى عرضها
في حياةٍ قذرة
في موائد قذرة
في متعةٍ قذرة
وفي موتٍ قذرٍ أيضاً.
وهكذا أغيّر أيّامي هذه شيئاً فشيئاً
أحاول طرد بعض مشاهد النحيب منها
آكل قصائد ملعونةٍ كنظامٍ غذائيّ للموت
من بحرٍ ملوّث
من جيلٍ ملوّث
من شعرٍ ملوّث.
لوّثتني هذه المدينة بشكلٍ غير قابلٍ للشفاء
لن تسمعني بعد الآن
لن تراني بعد الآن
لأنّني ارتديت أجنحتي المغلقة
وأصابعي المحمومة.
سآخذُ جسدي الطفوليّ الشاحب
وصورتي الطفوليّة الشاحبة
وفضائي الطفوليّ الشاحب
ومحوّلاً المرايا نحو الموتى
سأقول لك وداعاً.
***
مرضٌ في المرآة
مرضٌ في المرآة
كثيرٌ من الدم الأحمر فوق الشفاه الشاحبة على مرّ السنين
بحيث يبدو الطين
قد أصبح كائناً لا يشبهني.
محاولةٌ واحدة
لأخذ القليل من جوهر القصيدة والعالم
كي تعلق هذه اللحظة
وشيئاً من نفسي في الأوقات العصيبة
دافعاً نحو النار ريحٌ أخرى
آتيةٌ من وجه الليل ووجهي
سأرمي المزيد من الأوراق
وكلّ ما أراه يشتعل
وذلك الشيء الذي لا يشتعل
ما هو إلّا رماد.
سأحاولُ مرّةً أخرى منتصف الليل
بهذا الحبر
بقبّعة حفّار القبور السوداء هذه
لكن دون رأس.
لأن لا شيء قد احترق
كلّ شيءٍ يحدثُ منذ وقتٍ طويل
متّبعاً الخطّة
وتاركاً الرماد.
الجواهرُ المزيّفة بالآلاف في السماء
كما هو الحال على الأرض
والتي من الواضح أنّها لا تتحرّك كثيراً
فضاءٌ لا يمرّ خلاله شيء
وما يقالُ عن بيت شعرٍ في الخلفيّة الفارغة
شفّاف كاللامرئي
الذي تسلّل كالموسيقى الفرنسيّة القديمة
خارج الغرفة نحو البحر
قبل العودة إلى هنا
دون اختيالٍ
ودون أيّ رغبةٍ بالفرار من المكان
حيث لا شيء يمرّ أو يقال.
إذاً مات هذا الرجل في السادسة صباحاً
بقبّعةٍ سوداء دون رأس
على بعد آلاف السنين الضوئيّة
ساحباً الصوت بعيداً
خلف قناعٍ بالٍ كحياةٍ متلاشية
أمّا جهازه الراديو
فبُحَّ صوته عند السادسة صباحاً
والمقدم الصغير للتنبؤ بالطقس الفارغ
ليومٍ رائعٍ وميّت
لكلمةٍ باردةٍ على الورق
كما لو سُمِع الوقتُ في مكانٍ آخر
فأصِبْنا أنا وإيّاه بعبثيّة بمرضٍ في العين في أثاثٍ غريب
محطّةٌ أمام فضاء الجحيم
حيث لا شيء يمر
ويُسحقُ القمر.