الأرض.. ترويها دماء الأوطان
تلك الخسارة القديمة الجديدة تظل «مَشهدًا مُتسَيدًا» يُفضي بالكثير في كل زمان ومكان عن علاقة الشعوب بالأرض والصلة العميقة التي تربط بينهما.. يعد فيلم «الأرض» للمخرج الراحل يوسف شاهين أحد أهم الأعمال السينمائية التي جسدت هذا المفهوم بصورة مكثفة وعميقة، وهو مأخوذ عن رواية للأديب عبد الرحمن الشرقاوي، كتب السيناريو والحوار لها السيناريست حسن فؤاد، بينما أسند يوسف شاهين لكل من داوود عبد السيد وأشرف فهمي مهمة مساعد مخرج، أما الموسيقى التصويرية فكانت من نصيب العملاق على اسماعيل، والتي اعتبرها الكثير من النقاد أيقونة للسينما المصرية طوال تاريخها.
جرى العرض الأول للفيلم في عام 1970، حيث جاء في أعقاب هزيمة 67 كأحد رسائل الصمود والتبشير بالنصر والتأكيد على إرادة المصريين وتمسكهم بكل شبر من أرضهم، كما استطاع الفيلم تقديم صورة حية للريف المصري في ثلاثينيات القرن الماضي، مُستعرِضاً بدقة هموم البيئة الريفية، وما أفرزه الحكم الملكي من تفاوت طبقي حاد وتدهور شديد بأوضاع الفلاح المصري في ظل استبداد الإقطاعيين، وغياب سيادة القانون، ومن ثَم تشرذم الحقوق المشروعة وطَمس مكتسبات البسطاء وسط شهوات الامتلاك النَهِم.. يعد الفيلم أيضاً أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية، وأفضل ما انتجته عبر تاريخها الطويل عن الفلاح المصري، نظراً لكونه فيلماً جماهيرياً يلمس هموم شريحة عريضة من المجتمع، ويُسجل كواليس الصراع الحضاري في إطار رؤية سياسية واجتماعية تموج بها الاسقاطات الحسية والضمنية.
شارك الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية والأسابيع السينمائية، واحتل المركز الثاني ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية خلال استفتاء النقاد لعام 1996، كما تم ترشيحه لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي الدولي، وحاز على تقدير العديد من النقاد العرب والغربيين، فقال عنه الناقد الفرنسي (جان لوى بورمي): «فيلم الأرض ليس حدثاً بالنسبة للسينما العربية وحدها، ولكن بالنسبة للسينما العالمية أيضاً»، كما عقبت الناقدة الفرنسية (مارسيل مارتان) قائلة: «تنبع شاعرية فيلم الأرض من رسالته الثورية، مما يفتح الطريق أمام السينما المصرية للوصول إلى العالمية عن استحقاق»، كذلك انتقى الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي “جورج سادول” مشهد النهاية ضمن أهم سبع مشاهد لا تُنسى في تاريخ السينما المصرية وسجله في كتابه ” تاريخ السينما في العالم ” ليدخل بذلك موسوعة السينما العالمية.
وبنظرة تحليلية لمشهد النهاية الذي كان بمنزلة رسالة مضغوطة شديدة التكثيف تصلح لكل المُغتصَبة حقوقهم في كل زمان ومكان، نجد كيف تحت وطأة الظلم والترهيب، تخور الهِمَم الهشة وتنطفئ قناديل الإصرار. ولم يبق بين الهشيم سوى نظراته المستاءة في حضرة صمته المُدوي، الذي يشبه زمجرة الجواد الأصيل وسط تربص الذئاب اللئام في كنف الظلام والقهر.. لم يبق تحت وهج الشمس اللافحة سوى دمائه الطاهرة، التي روت شقوق أرضه الشاكية.. لم يبق وسط الحشود المتخاذلة سوى كفوفه الخَشِنة، التي استوثقت بالجذوع العَطشى.. فكم أخلصت له مثلما أخلص لها! هكذا اِنفض الجميع من حوله كـ «غُبار» لا يَتحكَم في مساره أمام حركة الرياح الهوجاء، فتتحطم أحلام الخلاص والمؤازرة على صخرة المصالح الفردية.. باتت الساحات يكسوها الخواء هرباً من البطش الأعمى والأسواط المُسلطَة – بلا رحمة – لهتك الكرامة واختطاف العزيمة وتكميم الأفواه، لكنه رغم اللطمات المتتالية ونوبات الخذلان التي داهمته في أحرج اللحظات، ظل صامداً كـ «المِتراس».. يأبى التَزحزُح عن أرضه المتوسِلة.. يأبى التخلي عن قطيعة روحه، التي أراد الغوغاء نهشها. نعم، أدركته الهزيمة في النهاية وعفر وجهه غبار المذلة، فكثيراً ما تنحني الشجاعة أمام غدر اللحظات الأخيرة، حين تنسدل غلالات الاستمراء على مسرح الخنوع والفُرقة، إلا أن رمزية إرادته ظلت تغرس بذور المقاومة في الجميع، رغماً عن سوداوية النتائج.
هكذا كانت الرسالة المصوغة في مشهد النهاية من فيلم «الأرض» والذي يستحق التباري في الاعجاب بجمالياته، لما له من قدرة لافتة على الرسوخ في ذاكرة المتلقي المصري والعربي، فلا أحد يمكنه نسيان مشهد «سَحْل» الفنان محمود المليجي أو بعد أن قُيِدَ بالحبال، بينما واصل محاولاته الدامية في التشبث بأرضه، التي سلبته إياها القرارات الجائرة والأهواء الجاحدة.. لقد ضم الفيلم كوكبة من النجوم والوجوه الجديدة، حيث حظيت الشخصيات الثانوية بنفس درجة أهمية الشخصيات الرئيسية، وذلك بفضل الأداء الواعي والإخراج الذكي، حيث تقاسم البطولة كل من الفنان محمود المليجي في دور محمد أبو سويلم الفلاح الثوري، الذى ينتمى إلى أرضه بمنتهى التفاني والصدق، والفنان يحي شاهين في دور الشيخ حسونة صديق الصبا ورفيق النضال أثناء الحركة الشعبية في ثورة 1919، كما قدم الفنان عزت العلايلي شخصية عبد الهادي الذي ظل يكافح مع محمد ابو سويلم حتى اللحظة الأخيرة، بينما كان الظهور الأول للفنان علي شريف في دور دياب، الذي حقق من خلاله نجاحاً لافتاً، جعله أهم أدواره على الإطلاق.
دارت الأحداث في إحدى القرى المصرية، التي واجه أهلها حزمة من القرارات الظالمة، من بينها تخفيض نوبة الري لصالح أحد الاقطاعيين، مما عرض أراضيهم للجفاف. يحاولون التصدي لذلك التعسُف، إلا أنهم يخفقون في الصمود أمام تحالف الإقطاع، ليجد محمد ابو سويلم نفسه وحيداً ضمن أقلية، بعد أن تخلى عنه أهم الأصدقاء في اللحظات الحاسمة، الأمر الذي أكد على قيمة التكاتف وخطورة شق الصف والتلاعب بنقاط الضعف، وما تمارسه المصالح الفردية من إغراء، يأتي دائماً على حساب المطالب الجماعية، وهي بالطبع رسالة غاية في الأهمية.
كذلك تظل عبقرية المخرج العالمي يوسف شاهين تُلوِح للأجيال المُتعاقِبة على الساحة السينمائية بـ «ذكاءه» الحاد فيما يخص انتقاءه تقنيات مبهرة في الإخراج الفني المُطعَم بفلسفة عميقة ورؤية بعيدة المدى. والمفاجأة الحقيقية في مشهد النهاية، أنه لا يُطابق نهاية القصة الأصلية المأخوذ عنها الفيلم، والتي انطوت على المزيد من الوضوح والمباشَرة، حيث ينجح أحد الاقطاعيين في فرض إرادته على القرية، لتمر السكة الزراعية من بين أراضي الفلاحين، وتبور أرض محمد ابو سويلم، بل وتعمل ابنته تحت ضغط الحاجة مع العاملين في انشاء «السكة الزراعية» التي التهمت أرض والدها.
وكعادة يوسف شاهين في الجنوح إلى النهايات المفتوحة وكسر التابوهات التقليدية، قرر أن تكون نهاية فيلم «الأرض» باعثة على التحدي والصمود، لا أن تَنحصِر في مجرد الرضوخ والاستسلام، وخَلَق امتداداً مختلفاً داخل وعي المتلقي، يَتشكَل وفقاً لدرجة انفعاله بالأحداث وتعاطيه مع الرسالة المُقدَمة، لذا صمم مشهداً ختامياً بديلاً، يتم فيه «سَحل» هذا الفلاح المُناضل بهذه الطريقة المُهينة، ليواصل مراسم التحدي والمُكابرة رغم أنوف الباطشين. كذلك أحكم يوسف شاهين قبضته على انفعالات المُشاهدين وحاصرها بمزيد من الشحذ والاستنفار، بواسطة رسم صورة متناقضة اقتربت في تنافرها من مفهوم «الصدمة»، حين مَرَر للمتلقي قبيل النهاية الميلودرامية، صورة إيجابية مبهجة تعكس تضامن الفلاحين مع محمد ابو سويلم واحتشادهم لجمع محصول القطن من أرضه، قبل أن تبدأ جنود «الهجانة» في دهسها بالخيول ودق الأوتاد بها، ليغمر الجميع حالة من الحماسة على إيقاع الموسيقى المبهجة والتكاتف الجميل، ويسرى شدو الفلاحات الفرحات:
نورت يا قطن النيل.. يا حلاوة عليك يا جميل
اجمعوا يا بنات النيل يالله.. ده ملوش مثيل، قطن ما شالله
ثم يقطع هذه البهجة البِكر، التي تحايل بها أهل القرية على بطش الفساد والظلم «اجتياح الخيول» و«هياج الأسواط»، ليسود الهلع بين أبناءها، ويفر الجميع هَرباً.. هنا تتدخل الموسيقى مُجدداً، وتترجم هذه النقلة الشعورية الصادمة، بمصاحبة آلتي «الناي» و «الترومبيت» ليعكسا نبرة مزدوجة ومتبادلة، تشرح ما اعتمل بالصدور، فإذا بها تجمع ما بين انكسار «الناي» الباكي وصخب «الترومبيت» الثائر، فيما يشبه الأداء الملحمي، تعبيراً عن عدم الانصياع ومواصلة الكفاح، حتى يتحقق الخلاص. يصل مشهد النهاية هنا إلى ذروته لدرامية، حين جرّت الخيول محمد ابو سويلم من قدميه بعد أن امتزجت دمائه المُراقة بزهرات القطن المقهورة. لم يكن يملك حمايتها من دهس الأخسّاء، لكنه يملك إقامة مأتمه بين تيجانها الناصعة، لذا قرر أن يصطحبها معه في رحلته الأخيرة، التي ربما لن يتبعها عودة. وفى ذروة المهَانة تَسطُع رسالته السامية أمام الجميع، فهو لم يقبل المُهادنة ولم يُغرِه الفُتات كأصدقائه المُتخاذلين، بل واصل مراسم عِزته وثباته، مُتشبثًا بزهراته البيضاء، راسماً بأظافره الدامية خطوط الامتلاك، مُتحدياً بها القهر والموت والانتزاع، ليرتعش جسده النازف مع حركة الخيل المُنساق على وقع كلمات أغنية الفيلم …
الأرض لو عطشانة، نرويها بدمانا
عليه وعلينا أمانة، تصبح بالخير مليانة
يا أرض الجدود، يا أساس الوجود
هانوفي العهود، بروحنا نجود
وعمرك ما تباتي عطشانة
وإذا بكلمة النهاية ترتسم على الشاشات بلون الدماء في حضور «الناي» الشاكي ربه، الطامع في الإجابة، وتسود حالة من الحماسة المُختنقة، تواسيها قطرات الندى المتكاثف، التي بدت وكأنها تسيل على أحد جوانب شاشة العرض، في اتجاة واحد، فيما يشبه الدمع الهارب، الذي احتضن أملاً وليداَ، يناجى الإشراق ويتحدى الغروب، لتظل الأرض أغلي مكتسبات الشعوب في كل مكان وزمان، والتي تستحق أن تزهق لأجلها الأرواح حرصاً على حمايتها.
***
الأرض … ترويها دماء الأوطان؛ بقلم شيرين ماهر
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر