الإنترنت أو العالم الرقمي؛ الذي صرنا نسكنه ويسكننا، أصبحنا بسببه مغتربين عن العالم الواقعي وعن أنفسنا، سجناء في ما يشبه “كهف أفلاطون” في حالة يمكن وصفها بحالة من الإلهاء الدائم، ننظر بلهفة إلى الظلال- الصور الكثيرة المتعاقبة على شاشات هواتفنا وحواسبينا، متوهمين أنها تمثل حقيقة عالمنا الذي لم نعد نبالي به، متناسين أو غير مدركين أنها مجرد ظلال مشوهة تعكس واقع مشوه بعيد عن واقعنا. وعندما نخرج من كهوفنا التي نتلهف إلى العودة إليها- كأن هناك مغناطيس يجرنا إليها جرا – فإننا نصاب بما يشبه العمى، تتشوش رؤيتنا للواقع، كوننا تعودنا على الكهوف وظلالها، ولم نعد ننظر جيدا مثلما يقول الفيلسوف الكوري بيونغ شول هان ” إلا عندما ننظر إلى هواتفنا ” التي أصبحنا أسرى لها. حيث نقوم من خلالها بتسلية أنفسنا حتى الموت. أكيد أننا نستفيد من الإنترنت، هذا العالم الرقمي، لن ينكر ذلك إلا جاحد، لكن هناك ضريبة لهذه الاستفادة ، وهذا في النهاية شأن كل تقنية جديدة. ذلك ما ذهب إليه نيل بوستمان إذ أعلن بأن كل تقنية جديدة تعقد معنا “صفقة فاوستية” نسبة إلى فاوست في مسرحية غوته الذي يعقد صفقة مع الشيطان، يحقق هذا الأخير لفاوست ما يريده مقابل أن يسلب روحه.
بمعنى أن أي تقنية جديدة تقدم لنا شيئاً ثم تسلب منا أشياء ثمينة لا يمكن تعويضها. ومن هذه الأشياء التي يمكن أن تسلبها التقنية الجديدة علاوة على حريتنا التي تخلينا عنها طواعية، قدرتنا على التفكير العميق.
في عام 2008 نشر ” نيكولاس كار ” مقال في مجلة أتلنتيك، أثار نقاش واسعا آنذاك ، تحت عنوان: هل جوجل يجعلنا أغبياء؟ (?Is Google Making Us Stupid)!
نيكولاس كار، باحث أمريكي، تخرج في الأدب الانجليزي من جامعة هارفرد، وقد إعتاد منذ نعومة أظافره أن يقرأ كل ما يقع بين يديه من كتب، مبحرا فيها لساعات طوال، منميا بذلك عقله وروحه، لكنه لاحظ أنه بعدما أصبح مدمنا على تصفح الأنترنت الذي يوفر له جنة من المعلومات، لم يعد يستطيع قراءة الكتب ، لقد صارت قراءة الكتب التي كان لا يفارقها، مهمة شاقة وتجلب له الكثير من الملل، فما إن يفتح الكتاب ويبدأ في قراءته، حتى يجد نفسه يضعه جانبا كي يرد على رسالة أو يكتب منشور في وسائل التواصل الاجتماعي أو يتصفح نصا في الأنترنت، بمعنى أن قدرته على التركيز تضاءلت، فبدأ يحس بأن هناك أشياء لا تجري على ما يرام. ليخرج بخلاصة أن الانترنت يلعب بعقولنا، يفقدنا تركيزنا، يضعف ذاكرتنا، يجعلنا سطحيين كي لا أقول أغبياء،لهذا قام باتخاذ قرار جذري، ذهب للعيش رفقة زوجته في جبال كولورادو، في كوخ منعزل بلا هاتف محمول ولا الإنترنت، لأنه أدرك أن “ما نعتقد أننا نملكه يملكنا ويسلبنا أهم ما يميزنا ككائنات بشرية” أي قدرتنا على التفكير العميق.
هناك في عزلته، على مدار عامين ، كتب كتابه الذي جعله نار على علم هناك في عزلته، على مدار عامين، كتب كتابه الذي جعله نار على علم -الضَّحالة: ما يفعله الإنترنت بأدمغتنا (The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains).
الكتاب الذي يحذرنا فيه، بأسلوبه المبسط، مستعينا بالعديد من الأبحاث والدراسات العلمية، من أن المزايا التي يوفرها لنا العالم الرقمي لها ثمن باهظ جداً: إنه يقوم بتعديل أدمغتنا من الناحية الفسيولوجية مما يتسبب في جعلنا مثل البلهاء، مشتتي الانتباه، غير قادرين على التفكير العميق والتأملي الذي اعتبره هايدغر ” جوهر إنسانيتنا” ،
على سبيل الختم : إن نيكولاس كار وقبله نيل بوستمان – الذي كان سابقاً لعصره – علاوة على باحثين آخرين، يدقون ناقوس الخطر ويجعلوننا نرى ما نعجز عن رؤيته، على رغم أنه يتم في الغالب عدم أخذ كلامهم على محمل الجد ، ولنتذكر في هذا الصدد ما حدث لذلك الذي تحرر من قيوده وخرج من الكهف في اسطورة أفلاطون ، واكتشف الحقيقة ، وعندما عاد ليخبر زملائه المسجونين في الكهف بما اكتشفه في الخارج لم يأخذوا كلامه على محمل الجد ،سخروا منه ووصموه بالجنون …
وهذا في النهايه ضريبة الاستيقاظ ورؤية ما يقع خلف الأشياء
ثم إننا لا نحب أن يوقظنا أحد من سباتنا…