مساراتمقالات

خطوة على طريق النشر | سعيد خطيبي

تواصل مجلة «قناص» في زاوية «خطوة على طريق النشر» نشر شهادات الكُتّاب عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر. هنا شهادة الروائي الجزائري سعيد خطيبي وسياق إصدار روايته الأولى «كتاب الخطايا».

***

أتممت مخطوطة روايتي الأولى «كتاب الخطايا»، قبل الثّالثة والعشرين من عمري. كتبتها من وجهة نظر قارئ لا كاتب. كنت أكتب في أمكنة مختلفة: في البيت، في مقهى أو قاعة التّحرير. وأحتفظ بالملف بشكل وورد في فلاش ديسك، أضيف إليه أشياء أو أحذف أخرى، إلى أن وصلت إلى الصّيغة التي ظننت أنّها نهائية.

في الغالب، يستقر الكاتب في مكان واحد حين يكتب، بينما في حالتي أحبّ التجوّل. أتجوّل مع النصّ، أغيّر الأمكنة، وفي كلّ مكان جديد أفتح صفحة جديدة، أو أعيد مراجعة ما كتبته. أشعر أن الكتابة محفز على اللا استقرار، تنشّط هرمون القلق وعدم ائتمان المكان الواحد، وذلك ما حصل معي وأنا أشتغل على مخطوطتي الأولى.

أرسلت المخطوطة إلى صديقين أثق فيهما، واستجبت إلى ملاحظاتهما وعدّلت ما طلبا تعديله. ثم حوّلت المسوّدة النّهائية إلى السّيدة (كاف)، وهي كاتبة جزائرية، ألتمس رأيها. سرعان ما كتبت لي ردأً تثني فيه عما جاء في النصّ، مع إصرارها أن أمنحها الحقّ في التّصرّف بالمخطوطة كي تعرضها على ناشر عربي. تلك الرّسالة أشعرتني بطمأنينة، أن تجربتي الأولى تستحق أن تُقرأ، وحرّرتني من ضغط نفسي – كثيراً ما ارتبطت الكتابة في ذهني بعدم طمأنينة، يُساورني قلق كلّما هممت بالكتابة – وجعلتني أنصرف عن التّفكير فيها وانشغلت بمشاريع أخرى. حسمت أن الرّواية سوف ترى النّور وأنّها مسألة وقت لا أكثر.

فرغت من ترجمة كتابين من الفرنسيّة إلى العربيّة، وصدرا، ثم ساهمت في ترجمة موسوعة السّينما الإفريقية وصدرت كذلك، في حين لم تصدر الرّواية، وقد مرّت سنتان على إرسالها إلى السّيدة (كاف) التي وعدت بعرضها على ناشرين. حين سألتها عنها، تحجّجت بكثرة انشغالاتها وتماطل النّاشرين في الردّ، وعلمت فيما بعد أنّها لم تقدّمها إلى أي جهة، بل أرادت فقط أن تلعب دور «المستكشفة». أرادت أن تتبنّى كاتباً، ولم تفعل ذلك معي فقط، بل مع كتّاب آخرين من جيل الشّباب. لماذا حين يتقدّم الكاتب الجزائري في السنّ يمنح نفسه الحقّ في تبنّي كتّاب شباب؟ لقد صارت ظاهرة. صرفت النّظر عنها دون عتاب، محافظاً على خيط الصّداقة والودّ.

توالت الانشغالات وهزّات الحياة وطفراتها وكثرة السّفريّات إلى أن صادفت كاتباً سورياً، طالع المخطوطة واقترح عليّ إرسالها إلى دار نشر مصرية، لكن بعد يومين، وقبل أن أرسلها، عاد إليّ وأقنعني بعدم جدوى التّفكير في تلك الدّار بسبب خلاف طرأ بينه وبين مالكها الذي لم يدفع له مستحقات حقوقه كمؤلّف. نويت عندئذ عدم الاتّكال على أي أحد وأن أرسلها بنفسي إلى دور نشر – عن غير تحديد – كما يفعل أي كاتب شاب. وأرسلتها في البدء إلى دار حديثة النّشأة. كان ذلك عام 2012 – راودني أن دور النّشر المعروفة لن تهتم برسالة من كاتب غير معروف لذلك تفاديت التّواصل معها، هل كنت على خطأ؟ – . ولم يتأخّر ردّ تلك الدّار النّاشئة. في البدء طلبوا منّي مهلة للقراءة وإبداء الرّأي وبعد أسبوعين وصلني إيميل يُبشّرني أنّها سوف تنشر، وأنّهم سوف يرسلون لي عقداً «عما قريب». ندمت على الوقت الذي ضاع في انتظار ردّ السّيدة (كاف)، فالعملية ليست معقّدة كما ظننت، كان بإمكاني أن أرسلها إلى تلك الدّار من البداية. لكن «عما قريب» التي وردت في رسالتهم الإلكترونية طالت، فأعدت التّواصل معهم متسائلاً، وجاءني الجواب في غاية الغرابة: أن تلك الدّار تراجعت عن قرارها وتعتذر عن نشرها بحجّة أن لجنة الرّقابة في وزارة ذلك البلد تحفّظت على ما جاء فيها من «مفردات وعبارات غير أخلاقية». عدت إلى النصّ أفتّش عما يمكن أن نصفه ﺑ «غير أخلاقي» ولم أجد شيئاً يستحق الذّكر. عدت إليهم سائلاً فوصلني ردّ بدا لي مضحكاً، فمن بين الكلمات التي تحفّظت عليها لجنة الرّقابة هناك، كلمة «سكسو» وهي المرادف الأمازيغي لكلمة «كسكسي»، يعلم الجميع أنها أكلة شهيرة في الجزائر، عدا الرّقيب الذي يبدو أنّه فهم معنى آخر. 

غالبني شعور أنّها رواية ملعونة، ولن تصدر أبداً، وعليّ أن أتخلّص من ذكراها وأفكر في مشروع آخر. ومضت أيام كادت أن تمحى تفاصيلها من بالي، عندما كاتبتني صديقة من الجزائر على الفايسبوك، فقد سمعت من صديق مشترك أنني أملك مخطوطة، وبما أنّها قد عيّنت للتوّ على رأس مؤسسة نشر، اقترحت عليّ أن أرسلها لها، وفعلت. كنّا في شهر مارس، حين أبلغتني عن إعجابها بالرّواية، ونيّتها في إصدارها تزامناً مع معرض الجزائر الدّولي للكتاب الذي ينعقد في الخريف. كان ذلك عام 2013 وقد مرّت حوالي ستّ سنوات على كتابتي لها. وهي مدّة كافية كي أكظم فرحتي بقرب صدور روايتي الأولى، شعرت أنّها تأخّرت أكثر مما يلزم، وأن تصدر أو لا تصدر فذلك «كيف.. كيف» كما نقول بالعاميّة الجزائرية. في مطلع خريف ذلك العام، بينما أنا أتجوّل في بلغراد، راسلتني تلك الصّديقة عبر الفايسبوك دائماً تطلب منّي صورة، فأرسلت لها المطلوب ثم اختفت، رغم إلحاحي أن تشاركني صورة الغلاف التي تنوي اعتمادها، وأن تطلعني على صيغة (بي.دي.إف) من الرّواية قبل تحويلها إلى المطبعة. تحجّجت بكثرة انشغالاتها مع اقتراب موعد معرض الكتاب. وواصلت يوميّاتي في بلغراد، التي وصلت إليها قادماً من سراييفو، وآنذاك بدأت تتخمّر في ذهني رواية «حطب سراييفو»، التي سوف تصدر بعد سنوات من تلك الواقعة. عدت من رحلاتي في البلقان وصادفت صورة غلاف رواية بالأزرق، على الصّفحة الثّقافية من جريدة يومية، كُتب عليها بالأحمر «كتاب الخطايا»، يعلوها اسمي بالأسود. روايتي الأولى صدرت وأنا لم ألمسها بعد.

توجّب عليّ أن أنتظر نهاية معرض الكتاب، وأنا غائب عن الجزائر، كي يتطوّع صديق لا علاقة له بتلك الجهة النّاشرة، والتي تنام على ميزانية تناهز ميزانية وزارة، ويُرسل لي أخيراً نسخاً من الرواية بالبريد. عندما اطّلعت عليها فهمت لماذا تهرّبت النّاشرة من إرسال نسخة (بي. دي. إف) قبل طبعها، فقد صدرت الرّواية مبتورة ومشوّهة وقد حذفت منها كثير من المقاطع حتّى صارت أشبه برواية – زومبي.

رواية «كتاب الخطايا» كُتبت بلسان شابة أمازيغية، تُدعى كهينة. تستعيد الرّاوية يومياتها في الجزائر العاصمة. تقمّصت جلد فتاة وكتبت بلسانها مما جنبني أن تكون روايتي الأولى رواية سيرذاتية. هكذا إذن صدرت الرّواية وقد أفرغت من محتواها الأصلي، وصارت أشبه برواية مفكّكة، لأن النّاشر قرّر ممارسة «حقّه» في الرّقابة، في بلد لا توجد فيه قوانين تحمي المؤلّف، ولا سلطة للمؤلّف في متابعة ناشر أقدم على فعل مثل ذلك.

خاص قناص – خطوة على طريق النشر

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى