الفيلم الصيني « الحبل السُري » للمخرجة تشاو سه شِيويه
مرات تخيرنا الحياة بين كفتين، ورغم أننا نريد الجمع بينهما، نرجح واحدة منهما بشكل تلقائي، لنجد في النهاية أن ما رجحناه، هو طريق يؤدي إلى الإختيار الذي تخلينا عنه في البداية.
فيلم الحبل السُري، هو فيلم صيني من منغوليا الداخلية. يتناول مرض الزهامير، ويحكي قصة ابن وأمه، جمعتهما علاقة قوية. بطل الفيلم مُلحن ومُطرب شاب، اسمه “آلوس”، يترك بكين ويعود إلى مسقط رأسه في منغوليا الداخلية، من أجل والدته المصابة بالزهايمر، والمقيمة مع أخيه الأكبر، ولكنه يكتشف سوء معاملة أخيه لوالدته، ورغبتها المستمرة في البحث عن بيتها والعودة إليه. فيقرر التخلي عن الذهاب إلى بكين مجدداً، والبقاء بصحبتها ليعتني بها ويرعاها، بل ويعيدها إلى بيتها القديم الذي تحتضنه الطبيعة، وتحاوطه المروج والأشجار، ويطل على البحيرات والمراعي.
لكن بسبب مرض الزهايمر تخرج والدة “آلوس” من البيت مراراً، حتى يستيقظ ذات مرة في منتصف الليل فلا يجدها، فيهرع للبحث عنها، ومرة أخرى يراها تتراقص عند حافة البحيرة أمام البيت، فيركض إليها، وبسبب خوفه عليها من الإنزلاق في البحيرة، يهتدي إلى فكرة ربط حبل حول خصرهما، فلا يفقدها مرة أخرى. تتوطد العلاقة بين الابن وأمه، ويصير ذلك الحبل رمزاً لعلاقتهما، وراتباطهما، وكأنه حبل سُري حقيقي يربط أم بطفلها (الحَبْل السُّرِّيّ: أنبوب ذو أوعية دمويّة يشبه الحبل، يصل الجنين بالمشيمة).
الأم تتفاعل مع الطبيعة وكذلك الموسيقى، إلى درجة أنها تلفت انتباه ابنها إلى أصواتها وأنغامها الغنية، فتصير هي والطبيعة مصدرين لإلهامه وتلحينه لموسيقى فريدة. فيكتشف “آلوس” أنغام الموسيقى في خطى أمه على العشب الأخضر، وفي صوت ارتطام الخوص بالماء، مما يجعله يلحن مقطوعات موسيقية فريدة تنتمي للبيئة التي يعيش فيها.
ذات يوم ترى الأم صورة لوالديها، فتتذكرهما، وتبدأ السؤال عنهما، فهي كانت تقطن معهما إلى جانب شجرة نصفها أخضر ونصفها ناضب، فيصحبها ابنها في رحلة للبحث عن هذه الشجرة، فيتحسن وضع والدته الصحي في هذه الفترة التي يبقي فيها معها، يمنحها السعادة والطمأنينة.
نافذة على ثقافة مختلفة:
الفيلم يصحبنا إلى شمال الصين، وتحديداً إلى منغوليا الداخلية ذاتية الحكم، فنرى القومية المنغولية، والملابس، والأطعمة، والطبيعة الساحرة، والعادات، والتقاليد وغيرها من ألوان الثقافة المختلفة. كما أن نسمع وقع اللغة المنغولية والصينية متناغمتين في الفيلم.
ونعرف أن الشاي باللبن، وهو المشروب الأكثر شيوعاً في منغوليا الداخلية، ونرى شكل الإناء المستدير الذي يُضع فيه (علماً بأن أحياناً يضاف إليه الملح أو الأرز المقلي، أو يتم تناوله بطرق أخرى). وكذلك نرى “المنغو باو”، والمعروفة أيضاً بـ “اليورت”، وهي خيمة مستديرة ومتنقلة، يستخدمها الرعاة كمسكن لهم.
يبرز الفيلم مشهداً للمعتقدات في منغوليا الداخلية، فنرى “الآوباو”، وهي عبارة عن أكوام من الحجارة محاطة بأعلام ملونة بشكل دائري، ووفقاً لما كُتب في موقع صحيفة الصين اليومية: تظهر “الآوباو” في براري وجبال منغوليا الداخلية، والتي تستخدم حالياً في الطقوس الدينية، والعبادة، وتقديم القرابين والدعاء للأسلاف والخير ووفرة المحاصيل. وكان يستخدمها الرعاة قديماً لمعرفة اتجاهات الطرق في المروج مترامية الأطراف، ولكن بعد عهد جنكيز خان استخدمت بمثابة مقابر لتكريم موتى الحروب.
في نهاية الفيلم نرى مشهداً يجتمع فيه مجموعة من الرعاة، يرقصون رقصاً شعبياً، ويغنون، ويحتفلون في أجواء موسيقية بهيجة، وكذلك نرى شكل آلة “المورين خور” التقليدية، والتي تشبه العود الصغير المربع الشكل.
مصدر إلهام:
عندما سئُلت المخرجة الشابة تشاو سه شِيويه في حوار لها لموقع شبكة صناعة السينما، عن الذي أوحى لها بقصة الفيلم، قالت: “قبل فيلم “الحبل السُري”، كتبتُ سيناريوهين طويلين، لكن “الحبل السُري” هو قصة رغبت بشدة في تصويرها؛ لأنها مرتبطة بحياتي بشكل كبير. كتبت هذه القصة؛ لأنني أخاف الفراق والموت.
في طفولتي كُنت مرتبطة نفسياً جداً بأمي، لكن بعد فترة شبابي، تحول هذا الارتباط إلى مشاعر هروب. ومن ثم بدأت تفتر علاقتنا. وبعد ذلك، سافرت خارج البلاد للدراسة، ودخلت ثقافة وبيئة جديدتين، ولطالما أردت أن أفتح عيوني لرؤية أشياء جديدة؛ لذلك مع الوقت كان يتقلص اهتمامي بحياتها.
المخرجة تشاو سه شِيويه
إلى أن جاء يوم، صادفت في طريقي سيدة مصابة بالزهايمر، كانت تتجول في الشارع ذهاباً وإياباً، باحثة عن بيتها. لمستني هذه اللحظة بشكل رهيب، بل وجعلتي أفكر في والدتي. فهذه اللحظة ردتني مجدداً إلى زاوية الأبناء، وجعلتي أهتم بأمر والديَّ مجدداً. وعندما اتصلت بهما بالهاتف، اكتشفت أن وضع والدتي مؤخراً ليس على ما يرام؛ لأنها أصيبت باكتئاب متعلق بسن اليأس، وكان لديها العديد من الأفكار الخطيرة. رغم أن المكالمة كانت بعد مرور وقت طويل على هذا الأمر، فضلاً عن أن والدتي ذكرت الموضوع بشكل عابر، إلا أنها أثرت في بشكل كبير جداً.
حينذاك واجهت إختيار العودة إلى الوطن أو البقاء في فرنسا لعمل فيلم، ومن ثم كتبت هذه القصة. كما أن هذه القصة تتناول علاقتي بوالدتي أيضاً. فبعدما يمرض والدانا، نكون في الواقع قد بدأنا تبادل الأدوار معهما، ونساعدهما في تدبير بعض المسائل الحياتية. إن “الحبل السُري” هذه القصة في جوهرها مثل الحَبل السُري الحقيقي، الذي ربط بيننا. وكذلك تبديل للأدوار، أي أن تصبح ولي أمر والديك، وأن يصيرا هما طفليك. فبعدما يتقدم بهما العمر، هل سيكون بوسعنا منحهما الحب والاهتمام ونصاحبهما أو حتى نتعلم أن نفلت يدينا ذات يوم،تماماً كما فعلا ونحن صغار؟” .
المعلمة بادما في دور الأم
“لا تظل زهرة المالان مزدهرة إلى الأبد”.
في نهاية الفيلم يرقص “آلوس” وأمه سوياً في مشهد مؤثر يفيض بالمشاعر، تشكر الأم ابنها، على إحضارها إلى هنا، وتقول له إنها في منتهى السعادة. ثم تسأله لو هناك فتاة كسرت قلبه؟، فيرد بالنفي. فتسأله لو تحبه؟، فيقول: “أؤمن أنها ستحبني إلى الأبد، رغم أنها لا تسطيع أن تتذكرني”. فتقول له والدته: “الزمن يمضي لا محالة، تماماً كما لا تظل زهرة المالان مزدهرة إلى الأبد”.
وفي مشهد رمزي وعميق، وربما هو الأقوى في الفيلم، تخطو الأم بضع خطوات، وترى والديها، وتنظر إليهما متطلعة إلى اللحاق بهما، فيقطع ابنها الحبل الذي يربط بينهما، ويفلت يديه مواجهاً ألم الفراق الأبدي.
حصل فيلم “الحبل السُري” على شهادة القائمة القصيرة لمهرجان كان للأفلام- ضمن برنامج المواهب الصينية الشابة الجديدة تخطو صوب العالمية. وشارك في الدورة الـ35 لمهرجان طوكيو السينمائي الدولي عام 2022، وحصل على جائزة أفضل تقنية في مهرجان خاي نان السينمائي الدولي في دورته الرابعة. وعُرض على شاشات السينما الصينية في مارس الماضي. واسم الفيلم الصيني هو “الحبل السُري”، واسمه باللغة الإنجليزية “حبل الحياة”.