عبدالهادي سعدون يكتب قصّة: «الرجل الذي باعني دون كيخوته»:
= = =
كل الأماكن في مدريد تذكرني بالنساء، إلا مالاسانيا.
حدث لي أن تعرفت على حي مالاسانيا ربما في سنتي الثالثة من وصولي إلى مدريد، نهايات التسعينيات «تاركاً بغداد أبعد قليلاً مما كانت عليه» كما قلت في قصيدة قديمة لي (دون رغبة بالعودة لدفتر الذكريات البعيدة متعكزاً على النسيان الرحيم لما عانيته في بلدي)، وذلك بالتعرف على مدريد وأحيائها والتجوال بلا هوادة كل اليوم من مكان إلى آخر كبدوي عطش لأنوار مدينة لم يمر بمثلها. ثم أخذت حرفياً بنصيحة عربي عتيد (كان يسمونه عمدة المنفيين العرب) تعرفت عليه في أحد المطاعم المغربية، وعندما وجدني أتلكأ بالإسبانية وأداري خجلي بالتلفت والانزواء بعيداً عن الأعين، بأن أسَرّني (بعد أكْلة كسكسي دسمة) قائلاً: «أنت في مدينة مفتوحة، حرام عليك أن تغلق على نفسك. ها… ولن تتعرف عليها إلا بمعرفتك نسائها. القبلة والفراش مفتاح لانطلاقة لسانك». وأنا بدوري تعلمتها منه حرفياً، وفي كل مرة أحاول فيها، أجدني وقعت في غرام أجنبية مثلي ولا أمل لي بإسبانية مدريدية، كما الحال مع صديقتي الأخيرة، بلغارية الجنسية، طالبة ماجستير مثلي عرفتها في كورس دراسي عن رواية أميركا اللاتينية المعاصرة وكلانا كان شغوفاً يرميديوس رائعة الحسن التي طارت مع الشراشف في يوم عاصف من مائة عام من العزلة. وتطورت علاقتنا إلى ما يشبه زوجين غريبين في بلد غريب يسند أحدنا الآخر، دون أن أنسى أو تهزمني فكرة التعرف على إسبانية في كل خروج لي من البيت، وهو ما كانت تدركه صاحبتي وتراقبني بحدة فيما لو لعبت بذيلي أو حركت طرف حاجبي تغزلاً بمؤخرة امرأة.
كانت الفكرة فكرتها، اتصلت بي وقالت إنها تريد أن نلتقي ذلك اليوم في مالاسانيا، في ساحة 2 مايو تحديداً. كنا نعيش منفصلين كل واحد منا في شقة في حيين بعيدين، وكنا نلتقي تقريباً للهو والحب نهايات الأسبوع كتقويم مقرر وموافق عليه من قبلنا. لم أكن قد سمعت بعد بـ مالاسانيا، بل حتى انني استغربت ولم أفهم مُرادها. كررتها عليها بلهجتي البغدادية ومفرداتي الإسبانية الفارطة Mala Seña مالا سينسا.. وأين يمكنني العثور عليها؟) تساءلتُ بِغباء وبلا معرفة حقيقية. ضحكتْ واخترقت قهقهاتها أذني الملتصقة بسماعة الهاتف، لتنتهي بأن أسمعها تبلع لكنتها بلعاً لطيفاً لتقول لي أخيراً: «لا تهتم أيها المغفل الجميل، هناك سيئون كثر سيرشدونك للمكان». تركتني في حيرتي بعد أن اتفقنا على أن نلتقي على الثامنة مساء اليوم نفسه. كان يوم جمعة مشمس ورائع، وكنت أنتظره بشراهة بعد أسبوعين من الصيام الفراشي.
وصلت الساحة قبل وصول صاحبتي بأكثر من نصف ساعة كعادتي ولخشيتي من عدم معرفة الوصول في الوقت المحدد، فكان أن وصلت باكراً ووجدتني وسط الساحة جالساً في أحد مقاهيها الخارجية متفرجاً على عالم (الهرج مرج) الصاخب وشارباً بيرتي المثلجة بعد عناء وتساؤلات عديدة حتى استطعت الوصول إلى مالاسانيا التي لم تكن (مالا سينيا/ الإشارة السيئة) كما فكرت وضحكت مني صاحبتي وكل من سألتهم بعد ذلك دون أن يصحح لي أحدهم الاسم وكأنهم استخفوا بي أو اعجبتهم لعبة لساني المعوج.
كنت كمن فطم من لعبة التفرج وقد أعادوه إليها، بحيث أنني لم أكن أفطن لشيء يحدث في الساحة إلا ويجذبني شيء آخر، هكذا بلا تحديد ولا نهاية متوقعة. كنت أتفرج وأبتسم وأفرح لكل ما يحيطني وكأنني قد وجدت مكاني أخيراً في مدينة شاسعة مثل مدريد. في تلك اللحظة تماماً وأنا أرفع كأسي لأدلق البيرة في كرشي المطمئن لليلة هانئة مريحة، سمعته يسألني فيما لو أرغب بـالحصول على (دون كيخوته)؟
لم أميز مِنه وأنا ألتَفت لجهة تلك الجملة المغرية غير هيئة شاب مزركش الثياب الواسعة تهفهفُ مع النسيم، وقد صبغ وجهه بكل ألوان قوس قزح المعروفة وقد صنعَ من شعره كتلة منتصبة أشبه بعرف ديك هراتي بلون أحمر صارخ.
ـ قبل أن تجيب على سؤالي، هل تسمح لي أن أرافقك لبعض الدقائق؟ سأطلب بعد أذنك بيرة لي وسَأشرح لك طبيعة (دون كيخوتة) الذي أبيعه!
لأكن دقيقاً بشرح المسألة، طوال جلوسه معي كنت منوماً أتمعن به وبكلماته، ولا أتذكر أنني قد شاطرته الحديث سوى بهزة رأس أو ابتسامة. أما البقية فكانت من نصيبه إذ لم يتوقف عن الكلام وهو يحدثني عن الساحة وأنه هو وأصحابه الذين يحتلون مالاسانيا من المساء إلى الليل سيخرجون عاجلاً أم آجلاً لنصرة المظلومين في أية لحظة قادمة، «تماماً مثل الدون كيخوتة؟».
ـ تعرف أنني ما إن لمحتك تدخل الساحة، قلت مع نفسي هذا الغريب المتلفت لا يعرف عن مالاسانيا وأسرارها إلا القليل. لذا اقتربت وتطوعت بدلاً من أصحابي الآخرين لأرافِقك جلستك وأشرح لك كل ما ترغب به. ولكن قبل كل شيء لن تفهم كل ما يحيطك قبل أن أهديك لوحة خاصة بك مما أرسمه. وأي رسم هو ذلك؟ الدون كيخوته، فارسنا الحزين الطلعة مثلك، المقاتل الذي يهابه الفرسان مثلي، المتعطش للعدالة كاسر قلوب العذارى ومحطم نظرات الأميرات وسيدات القصور… أنظر ليدي… راقب أصابعي وهي تنحت لك هذا الوجه النبيل دون أن ينقصه بالطبع تابِعه وصاحبة ومرشد خطواته سانشو الطيب الحكيم… ولكن تمعن بما أعمله، رسمي لا يشبه أي رسم آخر!
ثم فَرَد على الطاولة عدّته بضربة ساحر، فكان أن امتلأت بالأوراق والألوان. ثم أمرني أن أتمتع بمنظر الساحة دون أن أحرك رأسي ذات اليمين وذات اليسار حتى يستطيع تجسيد هيئتي في رسمه. أخبرني أن رسمته خاصة بكل واحد وهي تختلف عن رسمة الطاولات الأخرى، وهو يجتهد بذلك حتى لا يكون مزيفاً ببيع (الدونكيخوتات) المتشابهة. وراح يدندن بأغنية راقصة وهو ينثر ألوانه على الورقة بينما أصابعه النحيلة تمضي بِبصماتها المتلونة على البياض.
كنت في كل الوقت أراقبه، لولا تفاحة آدم في بلعومه وبحة صوته المشروخة لما شككت للحظة أنه من أجمل نساء العالم، بفم دقيق وأنف طويل قليلاً وجبهة واسعة مرتفعة ويدين نحيفتين فنّانتين. كان وهو يحرك أصابعه المصبوغة أستمع لرنين حلق أذُنيه الطويلتين اللامعتين مثل قمريْن متجاورين.
لم يتأخر كثيراً وكأنه قد حفظ الرسم في مخيلته، فعرضه عليّ وطلب مني الإنتظار. قام بشرب ما تبقى من بيرته، ثم نهض ليبدو لي مثل تمثال عملاق نحيل وبلباس طويل ينسدل على الأرض بما يشبه ذيل يرافقه في كل مسير.
بعد لحظات أخرج من حقيبته القرمزية كيساً أزرق اللون ومد يده اليمنى من فتحته ليستخرج ما يشبه الطحين الأسمر وراح يقرأ على سمعي تعويذة الفرسان في الجزء الأول من الدون كيخوتة وهو ينثر الطحين أو التراب أو الرماد على ورقة الرسم، فتختلط كلها وتغيب الملامح والخطوط. مع آخر جملة وهو يُعْلنني فارساً جوالاً مثل أغلب فرسان مالاسانيا المنتشرين سراً وعلناً في شوارعها وشققها وزواياها وشقوقها العصية، حمل الورقة ونفخ كجني خرج تواً من مصباح سحري طارداً ما يعلو الورقة ليطير وينتشر على المناضد والحلقات ورؤوس الخلق الكثيفة وهي تحتل الساحة من كل جانب.
عندها فقط وبابتسامته التي تشبه ابتسامة حسناء خجول، سلمني رسمتي الخاصة مع قبلتين على خدي وهو يودعني على أمل أن نلتقي قريباً «لا تنسني أيها الملك العربي!». قالها وراح في مشيته المتلفّتة حتى أبعد زاوية في الخلف مني ربما مجرباً حظه مع المقاهي الأخرى.
بقدرة عجيبة وجدت بين يدي لوحتي الدون كيخوتية الخاصة بي: أنا بوجهي نفسه معتلياً روثينانته بوجه سمين وبطن منتفخة وخلفي سانشو له ملامح وجهي أيضاً بجسد نحيل كقصبة، وكلانا نسير في شارع مزدحم من شوارع بغداد التي تركتها خلفي وظننت أنني نسيتها.
شهقت ودمعت عيناي ولم أتحمل المفاجأة فعلاً. درت بلا وعي بحثاً عنه ولم أجده. غاب عن نظري تماماً.
لقد أختفى خلف حشد الطاولات المكتظة بالبشر من كل صنف، ولا بد أنه قد دخل في أحد الشوارع الفرعية بعيداً عن أنظاري. لكنني في دوراني بحثاً عن أثر له، حدث ما لا يمكن أن أتصوره أو يتصوره مصور احتفالات خبير. فجأة لمحت زوايا الشوارع المواجهة لجلستي وقد تفتحت مثل أفواه عملاقة لتطرح عاصفة عملاقة ملونة تتطاير بهيئة قطع ورقية من كل الألوان، يليها جموع من كل نوع وجنس ومِهَن يمكن تخيلها.
راحت غُمامة عملاقة تتقدم نحونا، نحو ساحة 2 مايو، يقودها رجال ونساء يتلوون ويرقصون وينشدون على إيقاعات طبول أفريقية. ثم بضربة ساحر متمكن تحول كل شيء حولي إلى ما يشبه ساحة احتفالات كبرى: حوات أفاعي، بائعو حلوى ومشروبات، بائعو ورد، بائعو أطعمة، عربات مزركشة على متنها راقصات شرقيات، مهرجون، أكروبات، نساء بأزياء فكتورية، أندلسيات رشيقات بملابس لا تخطئها عين، غجر وشقر وسمر وسود وجواري ومخنثين وأقزام أو أطفال بدور أقزام، صباغون وأطباء ومُعلمون وكتبة وطبّاخون وووو، مُمَكْيَجون وبلا مكياج، عُراة وأنصاف عُراة وبِبدلات لعصور فائتة بعضها تعود لعصر محمد الأول باني مجريط وآخرون يقلدون الخنافس وفترة الجارلس وغيرها الكثير مما لم تخزنه ذاكرتي.. ثم كانت الفرجْة الكبرى: انفتحت الغمامة البيضاء عن بائع الكيخوته ذاته وقد خلع عن جسده الدقيق زرقة ورق الألوان تلك التي جالسني بها قبل دقائق، ومضى إلى أبعد حد في زيه الشبيه بفارس الهيئة الحزينة. تقدم مني أنا شخصياً وهو يدور ويدور مثل درويش في حلقة صوفية. كان منشرحاً ومتفكراً رغم رقصه وهيجانه. كل شيء يدور حوله، حولنا. حولي أنا وكأن لا أحد معه غيري. ثم رأيتني أتبع الفارس الحزين، أدور بينهم ومعهم في رقصة الطبول، أحرك جسدي وأتمايل مثلهم تماماً، ميلان أظنه طال بي حتى الفجر. كنت تماماً مثل رسْمتِه تلك التي رسمني فيها أشبه سانشو بجسد نحيل أمضي خلفه هو بهيئة دون كيخوته سميناً مربرباً.
لا داعي أن أخبركم أن صديقتي البلغارية تلك طردتني من جنتها لأنها في الواقع قد حضرت للقائي ولمحتني من بعيد رفقة تلك المرأة المزوقة بعشرات الألوان الصارخة، فعادت أدراجها وظنت أنني كنت أغازل أخرى بغيابها. لم أهتم للأمر لطالما كنت متأملاً أن أقع بشِباك فتاة مدريدية، قطة أباً عن جد، وهو ما حصل لي فعلاً ولكن بعد سنين طويلة.
الحال أنني لم أعد إلى مالاسانيا إلا في مناسبات قليلة، وفي كل مرة كنت أشعر باهتزاز تلك الطبول يخض بدني وينقلني بين دخانها وناسها وشوارعها، غير أنني لم أر بعد ذلك اليوم صاحبي، الرجل المزركش الذي كان يبيع الكيخوته ذاك، والذي ما زلت أحتفظ برسمته الكيخوتية تلك كصليب يزين كل غرفي التي استأجرتها وعشت فيها في مدريد من شمالها حتى جنوبها. عليّ أن أعترف أمامكم الآن وبعد هذه السنين الطويلة، أن كل الأماكن في مدريد تذكرني بالنساء، ومالاسانيا أولها.
****
قصّة «الرجل الذي باعني دون كيخوته»لـ عبدالهادي سعدون: كاتب وأكاديمي ومترجم عراقي مقيم في إسبانيا. أستاذ مادة اللغة والأدب العربي في جامعة مدريد المركزية. دكتوراه في الآداب والفلسفة من جامعة مدريد.
كأني في مدريد بأزقتها وشوارعها