ديوان الشاعر الفريدو بيريث آلنكارت « الرحلة وقصائد أخرى »، الصادر حديثاً عن منشورات لَازَوَرْدْ في بغداد 2023 وبترجمة الشاعر العراقي عبد الهادي سعدون، والذي يجيء بعد عدَّة دواوين مثل: فجاءة الأبدية 2012، مفكرة الأرض الخضراء 2014، شمس العماء 2015، تهجير واغتراب 2015، وخلف الضباب 2017. نجد أنَّه شاعرٌ لا يبحث عن البطولة إن وقفَ مع البؤساء، الذين تمَّ تبئيسهم ونحرهم، هذه صنعته كشاعرٍ يقف مع قضايا الإنسان التحررية ضد التغول والتوحش الذي يتعرَّض له باسم الثورات التي سَرقَها لصوصُ ومتعهدو الحروب والمجاعات.
وآلنكارت هو شاعرٌ وناقدٌ أدبي من البيرو، ويُعتبر من بين أهم الأصوات الشعرية في أميركا اللاتينية، ومن بلد أضاف للخارطة الشعرية بالإسبانية الكثير. ولدَ عام 1962 في بلدة مالدونادو البحرية، وهاجر من بلده ليقيم في إسبانيا منذ منتصف الثمانينات حيث درس في جامعة سلامنكا الحقوق ليتخرَّج ويعيَّن فيها أستاذاً منذ عام 1987 وحتى اليوم.
في قصائد الرحلة؛ يرسمُ الشاعرُ ملامحَ صورة قاسية يعيشها الناس، صورة من تفكير فلسفي بالمصير الذي يذهب إليه الإنسان إلى الموت دون ثمن. فالمتصيدون لجيوبك حتى الفارغة لا عدَّ لهم- عصابات منتشرة: يومٌ بعد آخر، يتبعكَ القساةُ بصراخهم وعقابهم. لا يتسامحون مع الهيئة السمحة لجيوبك الفارغة، ولا طبيعة وجودك الحق وألا تكذب أبداً. هم ضائعون في حكمهم السيئ، راغبون باستخدام فؤوسهم! صوتك اليوم تحديداً يلوي كلامهم الذي ينأى عن الحقيقة. قضيتك هي تاريخ الذين يقاومون.
فلا التقاءَ ولا تقاطعَ بينكَ وبين هؤلاء القُساة الذين يحوِّلونك إلى طعامٍ لهم ليسمنوا وتموتَ أنت. الشاعر لا يطرح ألغازاً يستحيل حلُّها، إنَّه يجاهر بإنسانيته، فقصائده مشحونة بالأمل وإن كانت مليئة بالألم الذي يأخذ طابعاً بعضه سوريالي وبعضه عبثي، إذ نرى تشظيه وتواتر نشاط حواسه وتبصره: أنَّك سيُصيبُكَ حظٌّ آخر عندما ينأى الهدوء وتنظر لبطنها الجافة سترغب بالمضي خلف خبزة ذويك. ستكون مثل الذي قد وصل تواً يبحث عن الطعام في المزبلة، وعليه أن ينام تحت الجسور بينما كل شيء يلمع في الأعلى. أنتَ فقدتَ ذاكرة هذه المواطَنَة الماضية التي تشد الجوع إلى رقبته والعمل إلى العبودية. ستمضي الكثير من الحرمان لتحصل على أعمال بائسة أبناءُ البلد لا يرغبون بها، وأنتَ ستقومُ بها بدقة متناهية. كلنا نسافر في القارب نفسه الذي يصعد ويهبط مع التيار. من أجل الذَهَبْ لا تفتخر أبداً، ذلك أنَّه قد يضيعُ يومَ غد. أجل: أتمنى ألاَّ يحدث لكَ أبداً.
امتلاكُ الذهب ليس امتلاكاً للحياة كما يرى الشاعر، وهذا المعدنُ الذي لا يصدأ قد يُقسِّي قلبكَ فيصدأ. الشاعر في قصيدته يبحث عن العظيم في الحياة، والعظيم ليس الذهب. إنَّه يبحثُ عن الشجاعة والمروءة، ففي أعماقه انفجاراتٌ أبدية من الإحساس بالظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي يحيق بالإنسان، فيبدو واقعياً، وإن لاحظنا في صوره شيئاً من سوريالية ومن عبث والتي لا تتعارض مع معرفته وحدسه.
في إحدى قصائد الرحلة “مخيم اللاجئين”؛ يضعنا الشاعر في الجحيم، فهو لا يحتمل رؤية أطفال يدفعون ثمن خسائر الآباء في حروبهم- يموتون، وأمهاتهم ينتظرن أن يُدفن هؤلاء الأطفال– ربَّما قبل أن تتفسَّخ جثثهم. انتظارٌ مرعب، كذلك منظر جثث الشيوخ الطاعنين في العمر، ومنظر الرجال المرضى فيما ينفطر قلبه لهذا المشهد، ولا أحد يشفق لحالهم: وهؤلاء الأطفال، أية معارك خسروها دون أن يتسبَّبوا فيها؟ ونساء ينتظرن وحسب أن يُدفن أطفالهن. بينما أرى الشيوخ بين الغبار وطين هذه المتاهات. رجالٌ مرضى حتى أنهم لا يحكون ما عاشوه. مرَّةً أخرى بشرٌ يدقُّون في منتصف قلبي مرَّةً أخرى الإنسانيةُ تَتَنَصَّل.
الشاعرُ في صورته المأساوية هذه يتألَّم، ألمٌ يقطِّع شرايينه وكأنه كمن يرى ظلَّه في ماء النهر ولا يقدر أن يمسك به. وهو في هذه القصائد تراه يتمزق وهو يرى مشاهد الخراب؛ خراب الضمير العالمي في صراع ظاهر بين إيمانه الخاص بروعة الإنسان، وبين خواء العالم وفراغه. ماذا يفعل؟ الشاعر لا يخفي أسراره، فالأطفال في قصيدته “مخيم اللاجئين” رغم قتلهم كضحايا إرادة قوة عظمى، فهو يشاركهم الحب والحياة والموت. فموتهم ليس موتاً حراً وأنَّ قتلهم تمَّ بدمٍ بارد.
ففي كل قصائد المجموعة سنرى روحاً نارية، لغة نارية. فرسالة الشاعر هي تحريك الجمر- جمر الحرية نيزك تشب نيرانه في الذات الإنسانية، فالشعر غير السرد الأدبي أو السيَر والتاريخ الذي يحكي عن معارك وقصص حب وغيرها؛ الشعر يُعمِّم، يُجيِّش الناس، فهو ذو وظيفة روحية واجتماعية، وهذا ما نراه في قصائد المجموعة ” الرحلة وقصائد أخرى “، فهي تحمل في صورها شحنة انفعالية لتحقِّق الإشراق في النفس، وتشعر بذاك الإحساس المُتوهِّج بالحياة.
Alfredo Pérez Alencart (facebook.com)
