في البوح نرتّب أفكارنا، نتمرّد على ما كنّا نظن أننا غير قادرين عن التعبير عنه
في روايتها الأولى “اسمعني يا رضا” تؤكِّد الكاتبة اللبنانية سارا صفي الدين أنَّ الرواية كما (الذاكرة) تختزن الًحاضر الذي كان مستقبلاً، وها هو قد انقلب إلى ماضٍ، فصار ماضياً ولكنَّه الماضي المستمر.
تجربة روائية لكاتبة تضع قارئها، كما تضع نفسها في فخ هذه (التجربة)؛ فالمستقبل الذي كانت تسعى إلى تحقيقه في أن يعود إليها “رضا”؛ ما هو إلاَّ الحاضر الماضي. إنه اللعب بالخيوط- خيوط الوعي بالزمن الذي تشكَّلَ عند بطلتها سارة، والتي لا يمكن فصلها عن النمط والنسيج الذي يتشكَّل منه ثوب الرواية.
ضيفتنا؛ المولودة سنة 1998، حاصلة على إجازة في اختصاص السينما والتلفزيون من الجامعة اللبنانية، وعلى إجازة في اختصاص العلوم الغذائية من الجامعة الأميركية في بيروت. وهي من الحائزات على جائزة أنور سلمان في الأدب عام 2019. عدا عن أنها مهتمّة بإخراج الأفلام القصيرة وكتابتها.
تُطلق في هذه الرواية، “اسمعني يا رضا”، الصادرة عن دار هاشيت أنطوان/نوفل؛ بعضاً من أسئلتها المعرفية السجينة كـ(أنثى) فنراها أكثر تحرراً، وهي تسرد لنا تفصيلاً من حياة بطلتها التي تبحث عن العدالة والحرية.. فكان هذا الحوار:
نحن النساء قد نحب وقد نحتاج للحبّ

– روايتكِ “اسمعني يا رضا” وإن كان رأيي بمثابة حكم قيمة، لا تذهب إلى الهذر، أو الهذر الممِّل. فهي تتمرَّد على استلاب اللسان ليقول ما يقول: اسمعني أريد أن أتكلَّم، أريد أن أحكي. أهذا، أو ما جاء فيها من حكاية وقد حكَيْتِها.. أراحك؟
– البوح بالنسبة إليّ هو السرّ، ففي البوح الحقيقة دائماً، والإصرار على قول الحقيقة يعطي الكلمات معانيها الفعلية ويعطيها ثقلاً. فتصبح مهما كانت بسيطة، ثقيلة بالمعاني، ونصبح معها قادرين على التفاعل والتماهي. لذا في البوح لا يوجد هذر، هناك دائما حقيقة. ونعم هو مريح، ومفاجئ. حتّى وإن كان البوح لشخصية خيالية، فهو معاني تتجلجل في داخلنا حتى تقال، وعندما تقال تجد مكانها. وحين تقال يصبح الكلام موجوداً ونصبح قادرين على فهمه وحلّه والتفاعل معه. فنرتاح. في البوح نرتّب أفكارنا، نتمرّد على ما كنّا نظن أننا غير قادرين عن التعبير عنه. نعم أراحني بوح سارة، فهو بوحي أيضاً، وهو بوح الكثير من النساء..
– الحكي في مثل حالتكِ هذه وقد أثمر رواية. هل كان كمن يتخلَّصُ من حِمْل؟
– الحمل في هذه الرواية كان الكلام، وهو نصف الطريق. وهو لم يكن بالنسبة إلي حملاً أريد أن أتخلص منه، بل كان حملاً أريد أن أفهمه وأرتبه وأعبر عنه. أردت قول الكثير. ففي الرواية لحظات وصور وأحداث ترافقني دائماً، “تحور وتدور” في رأسي. ولم أتمكّن من إعطائها شكلاً سوى بهذه الرواية المتواضعة. لم أتمكّن من ترتيبها سوى بالقصّة، عساها تفتح بعض الأفاق، وعساها تُشير إلى هذا الحمل.
بالأمر يتسلّط اللسان
– وقد كَتَبْتِها. كيف تجمعين بين “سلطة الكلام”؛ تحكين، تقولين- فلا نقرأ، بل نسمع، تعطين اللسان القدرة على التسلط؟
– بالأمر يتسلّط اللسان. فقد أمرت سارة رضا بالاستماع. “اسمعني” قالت؛ أعطت الكلمة حاسّة السمع، ثمّ تكلّمت. فأصبح القارئ يسمع ولا يقرأ، ولم يعد هناك سوى الفضول لمعرفة سبب هذا الإلحاح الذي تلحّه سارة بالاستماع. وبوح سارة هو بوح عفويّ، يشبه الكلام العادي، تتكلّم سارة بلغتها تماماً كما تفعل ذاكرتها، تجول من حدث إلى حدث ومن موضوع إلى موضوع كذاكرة الإنسان. فالذاكرة والأفكار دائماً ما تكون مشوّشة وغير منتظمة، تنبثق منّا بناءاً على إدراكنا الانتقائي وما يختاره عقلنا وما يبقى معنا من أفكار. وذاكرة سارة تعمل بالطريقة ذاتها، لذا بوحها يشبه ذلك، ولأنها مشغولة باختفاء رضا، يصبح كلّ بوحها مترابطاً. هي تفكّر بأمر واحد رغم تفرّعه وتشوّشه ولخبطته، فيلتقي في النهاية ويترابط الكلام لوحده.
– أنتِ كُنْتِ تضغطين على لسانكِ فنسمعُ كقرَّاء مأساة، حكاية سارة التي غاب زوجها عن البيت وحتى ترفع مسؤوليتها بلَّغت مخفر الشرطة بغيابه، وغيابه ما يزال مستمراً، وما زالت سارة لا تعرف إن كان (فقْدُه) صدفةً أو ضرورة. أو احتمال وسيعود من غيابه؟
– حين دخلت سارة إلى المخفر لتبلّغ عن اختفاء رضا، لم تكن ترفع المسؤولية عن نفسها بقدر ما كانت تريد توثيق هذه المعلومة. فهي وبعد غيابه الجسديّ اكتشفت غيابه المعنويّ من حياتها. وكأنّها أرادت تأكيد هذا الغياب ببُعديْه المعنويّ والجسديّ عبر التبليغ في المخفر. وغياب رضا المعنوي هو حقيقة؛ إلّا أن غيابه الجسديّ واختفاءه قد يكون احتمال، وهو بالنسبة إليّ حالة مبالغ فيها وحبكة مبالغ فيها للتعبير عن اختفاءه المعنويّ من حياة سارة. عودة رضا الجسديّة هي حقيقة؛ إلا أن عودته المعنوية تقع على عاتق سارة التي إن باحت بما تفكّر فيه لرضا، قد تلفت نظره إلى علاقتهما غير السليمة وزواجهما غير المستقر، وإن قرّر رضا تقبّل بوحها والاستماع قد يتغيّر شيء فعلي في علاقتهما؛ وفي تقبّل رضا واستماعه تكمن عودته.
سارة تشبه أغلب النساء
– سارة تعاني من فقد (الحب) والمودة بين الزوجين، وتبدو على نار، ولكن نار القربان، بصفتها ضحية، كحال المرأة العربية. تكتبين أو تروين عن لحظة حلم، أم حلم يقظة؟
– أكتب عن الحلم الذي خطى أولى خطواته ليصبح حلم اليقظة. فهناك المرأة العربيّة التي لم تدرِ ولم تبح بعد لذاتها بأنّها ضحيّة، وهي ما زالت في حلم. وهناك المرأة العربية التي باحت وعلمت وصار حلمها حلم يقظة تماماً كالشخصية في الرواية. وهناك المرأة التي حوّلت الحلم إلى حقيقة، التي تتخذ القرارات كلّ يوم والتي تبوح لرضا بما يجول في خاطرها. سارة تشبه أغلب النساء؛ هي على نار دائماً؛ تشعر بحریقها لكنّها لم تستطع إخمادها بعد.
– سارة ضحية المجتمع الشرقي الذكوري. كذلك غيرها من النساء التي أتيتِ على ذكرهن: الأم، الجدَّة، العم الذي يبرحها ضرباً بمعزل عن عنف (الأب). ولكنَّها لا تنقلب على السلطة الذكورية، فهي غاضبة من رضا، وفي الآن قلقة على مصيره وهو في الغياب؟
– إنّ لحظات الوعي التي يعيشها الإنسان، خاصّة مع نفسه، هي بداية الانقلاب وبداية الثورة وهي دائماً أولى الخطوات. وسارة في هذه الرواية تعيش لحظة وعي لغياب رضا العاطفي والجسدي؛ هي تدرك للمرّة الأولى هذا العنف المبطّن الذي تعيشه، فتنقلب على هذه السلطة وإن كان انقلابها صامتاً فتأمر رضا بـ “اسمع”. اسمعني يا رضا! كلمة لم تجرؤ على التفكير بها من قبل. كما أنّ سارة في نهاية الرواية تتخذ قراراً بأنّها لم تعد تريد رضا في حياتها. في هذه الجرأة المبطّنة تكمن المواجهة، فهي بدايةً عليها مواجهة ذاتها، عليها البوح بما لم تعرفه لتكتشف المشكلة، ومن ثمّ إعلام هذا المجتمع الذكوري بقرارها. وأنا أشعر أن مواجهة الإنسان لذاته ووعيه للحقيقة التي يعيشها هي أصعب الخطوات وأهمها لتغيير الواقع. وتجدر الإشارة إلى أن قلقها وغضبها هو حالة إنسانيّة طبيعيّة وصحيّة ولا عيب فيها، وحبّها واعترافها بهذه العواطف هو تصرّف جريء، هذه العواطف التي قد تعتبر “ضعفاً” هي حقيقة وواقع. نعم نحن النساء قد نحب وقد نحتاج للحبّ.
صوت الضحيّة
– الرواية مكتوبة بصوت واحد صوت سارة، رغم تعدد الأصوات، الشخصيات: جارتها وطفلها، سائق التاكسي، العمال، أصوات رواد مقاهي شارع الحمرا ..إلخ. وكأنَّه صوت العدل والظلم، الجور على نفسها؟
– بما أن وجهة نظر الرواية تابعة لشخصيّة سارة تحديداً، فلن نتمكّن من رؤية أي من الأمور سوى من وجهة نظرها ومن ما ترويه سارة من أحداث تحصل مع الشخصيّات. حتّى رضا؛ لا نعلمه سوى من كلامها عنه حتّى نكاد لا نراه بوضوح تماماً كما تراه هي. وسارة بطبيعة الحال تنظر إلى نفسها كضحيّة، لذا صوت الظلم والعدل سيكون منحازاً لصالحها. وستكون الشخصيّات في معظم الأحيان متآمرة عليها، وفي بعض الأحيان على رضا الذي تحبّه أيضاً.
– أخيراً؛ هل سمعك، استمعَ إليكِ رضا، ورضا قد رمى القارئ في فخ الأسئلة. هل يمثِّل رضا (غودو) الذي ننتظر؟
– لا أعلم إن كان رضا يسمعني حقّاً، لكنّي لا أعتقد. رضا (الرجل) يحتاج أن يعي انتظار سارة (المرأة) وشعورها ليتمكّن من الاستماع، وقد يكون هذا الوعي بعيد المنال وقد يحتاج إلى المزيد من الوقت في مجتمعاتنا. كما أنّه على سارة أن تبوح له بدايةً حتّى يصبح الكلام الذي سيسمعه موجوداً. لذا فقد يمثّل رضا غودو، لأن لا جدوى من انتظاره دون بوح سارة، ودون استماعه لها. وبالرغم من ذلك أنا دائماً آمل أن لا أنتظرك كثيراً يا رضا وأن تعود من غيابك وأن تسمعني.
عماد الدين موسى؛ شاعر كُردي سوري، مدير تحرير مجلة «قناص».
