فوتو تشكيلمرآة الضوء

حوار مع التشكيلي عبد الله الهيطوط: الصباغة هي أن نمضي دون أن نعرف إلى أين؟

يطمس الاتجاهات ليقول بريشته تعبيرا أشبه بالهمس، ولعبا يحيل على انتهاك البياض بعفوية الحركة؛ تهكمها وخفّتها، وميلها إلى الطفولية والخيال

الفنان التشكيلي عبد الله الهيطوط

حاوره: منير الإدريسي

يأتي الفنّان التشكيلي المغربي عبد الله الهيطوط إلى الصباغة من عالمه الداخلي، ومن أفق تفكير ذاتي مشبع بنداء الرّوح؛ ليطرحها ضمن السياق الرّاهن الذي يعجُّ بتلاقي وتقاطع التيارات الفنيّة المتشعبة والمثقلة بمرجعياتها الفكرية وخطوطها المتشابكة التي أفرزها الفنّ العالمي الحديث الذي استأنف وعده في خصوصية محلية عند جيل الرواد في المغرب، وامتلك قدراً من النضج في طرح الأسئلة، وخلق الاتجاهات.

إنّ عالم الهيطوط عالمٌ جوّانيٌّ يتسم بقدر كبير من العفوية والتأمل، والبصمة المميّزة. خارج ما هو مدرسيّ وأكاديميّ ورائج. ولعلّ عفويته تلك، بدافع من موقف فلسفيّ ونقديّ حرّ. ومع كل ما امتلكه الهيطوط من خبرة أكاديمية منضبطة، يفجّرُ الأشكال وفق أسلوبه الخاص. يطمس الاتجاهات ليقول بريشته تعبيرا أشبه بالهمس، ولعبا يحيل على انتهاك البياض بعفوية الحركة؛ تهكمها وخفّتها، وميلها إلى الطفولية والخيال، وإحالة كل فكرة واثقة أو لون باهر إلى الصمت والفراغ.

ولد عبد الله الهيطوط سنة 1971 في قرية لَلاّميمونة، بالمغرب. حاصل على باكلوريوس تخصص في الفنون التشكيلية سنة 1991، ودبلوم فلسفة تخصص علم النفس سنة 1993. تخرّج في سنة 1998 كأستاذ فنون تشكيلية من المركز التربوي الجهوي بالرباط. أشرف في مسيرته على العديد من ورش الرّسم والصباغة للأطفال والكبار، وأقام عدة ورش فنية داخل المغرب وخارجه. شارك في معارض كثيرة جماعية وفردية منها: «ريجينسي الفن» الدوحة 2015، معرض «فن الورق العالمي2 »، غيلسنكيرشن بألمانيا 2016. معرض «إعادة تدوير الأنقاض» الدار البيضاء. معرض مجموعة GLOBAL ART PROJECT بقاعة Baupres Gallery مازاتلان، بالمكسيك 2017. معرض «بينالي سعاد الصباح العربي» بالكويت 2017. معرض «الفن المعاصر»، تورينتو، بكندا 2020، ومعرض «فنانون عرب معاصرون» في مسقط بسلطنة عمان.

الفنان التشكيلي عبد الله الهيطوط

تبدو تجربة هذا المبدع المغربي المشبع بالقراءة والتأمل والإصغاء إلى أعماق النّفس وإلى فرح الطفل داخله، متميّزة وعابرة في ضوء الحكمة؛ مغسولة في الينابيع السريّة. تجربة رصينة وبطيئة ومُلهمة، متجرّدة من الحسيّ السّطحي العابر في الفكرة، لصالح لحظة الوعي في الآن بكامل لا زمنيتها وكثافتها وديمومتها وحالميّتها. تجربة تؤسّسُ لمنحى تشكيلي مباغت بالأسئلة، ومقيم في صرح الفنّ الرّصين الذي له ما يقوله، وما يضيفه، بعيداً عن السّوق والخفّة والابتذال والموضة العابرة.

من خلال هذا الحوار سوف نلامس المزيد من التفاصيل التي نراها مهمة كي نعمّق فهمنا لهذه التجربة بشكل كافٍ، سنحاول النبش في علاقة الفنّان المغربي عبد الله الهيطوط مع الرّسم وبعض رؤواه وانشغالاته كما أفكاره.

***

منير الإدريسي: أول سؤال يتبادر إلى ذهني، لماذا التجريد؟ لماذا سلكت هذا المسلك التعبيري دون غيره؟

عبد الله الهيطوط: ربما هي الطريقة الوحيدة الممكنة للوصول إلى أعماق الموضوعات. ولفهم المشاعر العاطفية المستبطنة. أن تلامسها دون أن تبحث لها عن هوية تشخيصية، لأن دور التجريد أولاً هو التحرّر من أية تبعية أو تكييف خارجي. لكن في الواقع، لا أجد نفسي تجريدياً مئة في المئة، فأنا كما ترى أحب أن أكون مرتاحاً في أن أدمج الشكل ومن ثمة أفقده أو أطمره، بمعنى أني أحاول أن أكون مرناً بعض الشيء. لست متعصبا لفكرة التجريد الخالص.

الإدريسي: هل في فقدان الشكل المدمج طريقة للقبض على جوهره، أم أنها لعبة كشف وإضمار متتالية في العملية الإبداعية قد تفضي إلى تعبير غير مفكّر فيه بالمرّة يقفز كحل فني أخير للمشكلة؟

الهيطوط: حسنا، سأخبرك. أوّلا كما تعلم، فأنا أنحدر من ثقافة إسلامية ايكونوكلاست (محطمة للصور والأوثان) لذلك فلعبي الفنّي مع الأشكال يخضع لنفس الفعل. لكن الأهم هو أنني أتجنب معالجة الموضوع المطروح بشكل مباشر وأذهب به بعيداً. أبقى مستيقظا في الليل وأنا أفكّر في الصباغة، أحلام يقظة. عملي بطيء لأنه يخضع إلى نسيان كل ما تعلّمته. وفي وسط العملية الفنية يفتح باب هائلٌ يسمّى الحيرة. والصباغة التجريدية تحتّم عليك الدخول إلى هذا التعقيد، فأنا لا أعرف ما سأفعله. ليست لديّ فكرة مسبقة. إن الاشتغال بمزج الألوان والأشكال هو بحر من المغامرة والمخاطرة التي تنطوي على كثير من المطبات. ليست في أعمالي الفنّية أية قصدية، أو تقصُّد مائة في المائة. والصباغة هي أن نمضي دون أن نعرف إلى أين؟ إنك تعثر على اللوحة وأنت تشتغل عليها وهذا كلّ شيء؟

الإدريسي: بالتأكيد، الأمر نفسه ينطبق على القصيدة أيضاً وبعض الأعمال الفنية التي تخلو من القصدية لأنها تسعى إلى الإنصات إلى الأعماق أو الباطن كما أشرت. بعيداً عن ضجيج أفكار العقل وقريبا من وحي القلب. ثمّ يأتي العقل الرقيب ليضع لمساته الأخيرة. وقد لا سيتنفذ العمل إمكانية تعديله، فيستغرق عمر الشاعر. ربما في اللوحة سرعان ما تفقد الألوان لزوجتها وقابليتها المرنة للتغيير. لكن يبدو وعلى مستوى آخر كأن الفن التجريدي لا يستنفذ، وقد عَبّر كازيمير ماليفيتش -الذي تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف؛ من أجل تصوير اللاّمرئي من المرئي والمحسوس- عن رغبته في أن تصبح الحداثة تعبيرا عن قوة الإنسان الذي يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة. من زمن ماليفيتش إلى الآن هل لازال للفن التجريدي ما يقوله؟ هل توجد إمكانية لتحقيق المزيد من الجديد في هذا الاتجاه؟ أم أن هناك اتجاهات أخرى تعود إلى التشخيصي كالعودة إلى نفس النقطة من الدائرة لكن، بإمكانيات خلق جديدة؟

الهيطوط: يمكننا القول أن ثمة عودة اليوم إلى الصباغة بإمكاناتها وأشكالها وأساليبها المتنوعة في الجهات الأربع من العالم. خصوصا في البلدان التي لها تاريخ وتقليد راسخ في الصباغة. وهي عودة مهمة، كما تعلم. وفيها الكثير من الدروس التي يمكن استخلاصها (…)؛ لكن، وهذا أمر مهم. فالعودة ليست بنفس الصفة والوسيلة، كما كانت عليه من قبل، بل هي بداية حيث انتهى السابقون، واستكمال لما أنجزوه. ثمة محاولات لا بأس بها، ورغم قلّتها، فهي جيّدة. بل ويمكن القول أنها تحمل شيئا من الجدّة والأصالة، سواء في التشخيص أو التجريد. بالرغم من حالة الشعور بأن الأمر لا يعدو عن كونه تكرارا لما سبق. لكن في الحقيقة، هناك تجارب أعمق مما تبدو عليه في الواقع.

الإدريسي: قبل أن نستغرق أكثر في ما تقوله الصباغة اليوم من هواجس وأفكار وتمثلات وموقفها كما موقعها من العالم نودُّ قليلاً أن ننبش في البدايات؛ البدايات تكشف عن الكثير أكثر ممّا نعتقد. يسحرني سؤال البدايات لأنّه يحمل مغزى غالبا لا نعرف كيف نفسّره ولا كيف نعبّر عنه. وبعبارة سيجموند فرويد «الطفل أبو الرجل»، كيف بدأت علاقتك بالرسم؟ ومتى؟ وكيف تفسّر انجذابك إلى هذا النشاط الإبداعي دون غيره؟

الهيطوط: أتذكر أنني في طفولتي كنت أرسم لساعات طوال. ربما ساعدني الرسم على تخيل الأشياء ومن ثم امتلاكها. قلت في مرة سابقة إنني استعدت كل ما ضاع مني أو ما فاتني بالرسم. أحب كثيرا العلاقة التي نشأت بيني وبينه منذ الصغر؛ وقد صار منذ ذلك الحين شعيرة يومية لطفل يعيش في قرية نائية. كان الرّسم وما زال عالمي الخاص، بل قضية وجودية. من خلاله أثبت ذاتي ووجودي. أزعم أنني في كل مرة أذهب فيها إلى الرّسم، أذهب بنيّة العودة إلى الطفولة؛ الرّسم هو تلك الرّحلة الجميلة في اتجاه الطفولة المرحة.

الإدريسي: من بين جميع الأشكال الفنية في الصباغة، اللوحة التجريدية هي الأصعب. إنها لا تتوقف عند كونك ترسم جيّداً، مثلما يقول الفنان التجريدي الروسي فاسيلي كاندينسكي، بل تتطلب منك حساسية شديدة للتكوين والألوان، وأن تكون شاعرا حقيقيا وهذا الأخير ضروري حسب رأيه. عن الشاعر أتساءل: كيف تتحقق شاعرية الرسّام؟ هل في حساسيته البصرية أم في شيء آخر؟

الهيطوط: كانديسكي كان موسيقيّاً، وبول كلي كان شاعراً. كذلك كان المخرج الإيراني عباس كيارستامي. مرّة كتبت: «فاتني أن أكون شاعراً». لكن، لا حدود بالنسبة لي بين الشّعر والصباغة. الصباغة هي الشّعر الأوّل. كما أنّ الشّعر والصباغة كلاهما فنٌّ بطيء وصعب. الصباغة مؤلمة وبطيئة كالشّعر تماماَ. وهي كذلك عمل فرديٌّ. أحبُّ العزلة والفراغ اللذين تتيحهما لي. حقيقة أن الصباغة تقتضي العزلة والصمت هي مبرّر كاف للرّسم. حيث يتسنّى لي أن أحتفظ بفكرة شاعرية عن الصباغة وأنا أرسم. بالتالي الصباغة والشّعر شيء واحد. والرّسام هو شاعر أيضاً. أحيانا أعود إلى المرسم وأكتفي بالجلوس والتأمل كما يفعل الشعراء تماماً. الرسّم هو كالغطس بحثا عن السمكة الأضخم، نحن نغطس في الصباغة والشِّعر يأتي.

الإدريسي: كلاهما عمل فردي، بطيء وصعب كما تقول. وربما نخبوي أيضاً، هل توافق على الكلمة الأخيرة؟

الهيطوط: شرط الفنّ الجيّد في عصرنا الحديث هو النخبوية. أي أنه يخص فئة معينة. فنُّ الأقلية حتى نكون أكثر دقة. كان الفن والفنان تابعان للكنيسة في القرون الوسطى وعصر النهضة حتى جاء مارسيل دي شان الذي حرّر الفن إلى حد ما من سطوة الفكر الديني (…). نعم، الفنّ الجيّد نخبويّ والا سنسقط في الفن «الشعبوي». حاولتْ الاشتراكية إنتاج فنٍّ للشعب وللطبقة الشعبية لكنها فشلت فشلاً ذريعاً. وبعدها جاء «البوب آرت» ولم ينجح وكان منبوذاً من طرف أكبر الكاليريهات وجامعي الأعمال الفنية. ثم لماذا ننظر إلى الصباغة أو إلى الرسام على أنهما يمتلكان منفعة أو دوراً في المجتمع؟ الصباغة والفن بصفة عامة غير نافع ولا طائل نجنيه منه، وكذلك الفنان الذي دوره الوحيد هو عمله الذي عليه أن يُنهيه. أما مفهوم الالتزام الذي جاء به «غرامشي» فقد باء بالفشل الذريع. المسألة هنا تتعلق بالجمال ومفاهيمه.

الإدريسي: هذا ما يَحكم على الفنان بالعزلة، ويضع الفن في سؤال الجدوى منه، أليس كذلك؟

الهيطوط: الفنان كائن متناقض، وهو غير اجتماعي وغير سياسي كذلك. الفنان ليست له مسؤولية تجاهَ أي أحد.

الإدريسي: أتفق معك، في أن مسؤوليته الوحيدة هي الفنّ. لكنّ الفنّ موقف سياسيٌّ بالضرورة؛ أحبّ أن أسميه موقف ما قبل السياسة أو ما بعدها؟

الهيطوط: كلامك صحيح. أعتبر الفن أيضا كمضاد حيوي ضد أشياء كثيرة قد يكون أبرزها القبح والجهل والتخلف. أما المجتمعات التي حاربت الفن أو تخلت عنه فقد عاشت مريضة وعقيمة.

الإدريسي: عودة من صخب الخارج، أعني السياسة وجدوى الفن، إلى هدوء لوحاتك. حين أتأمل فيها أشعر بتقشفك وتحفظك على إشباع المساحة البصرية بألوان دافئة وحارّة؛ ما سبب هذا الخفوت؟

الهيطوط: أنا رسام يرغب في رسم ما يرى. وربما بسبب أنني بدأت عنيفًا وكان عملي يتسم بكثير من الحركة وصخب الألوان، شعرت بعدها بالحاجة إلى الصمت والهدوء. أصبحت اليوم لا أريد قول الشيء الكثير. حتى صارت صباغتي فارغة وأكثر صمتاً وهدوءاً… لعلّها أضحت أكثر حكمة مني. عندما أكون في مرسمي أقول في نفسي دائماً: «عليَّ أن أبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات وإمكانيات التغيير وهذا يتطلّب تركيزاً». كنت فيما مضى أحبُّ النّظر طويلاً إلى الصباغة، اليوم أصبحت عندما أنظر إليها أدوخ. ربما هذا بسبب الاستغراق في التفكير. فأنا كما تعرف أتردّد طويلا أمام اللوحة. وحين أحيك مفردات صباغتي، أسعى إلى أن أكون فيَّ.

الإدريسي: أتساءل إن كانت هناك علاقة بين الفلسفة ورسوماتك؟ لقد درستها أكاديميا كما درست الفنّ كذلك، وثمة كتب فلسفيّة هنا في مرسمك إلى جانب لوحاتك؟ هل هناك تصورات فلسفية محدّدة عمقت نظرتك إلى الصباغة؟

الهيطوط: تذكرني هنا بشيء فريد يُشبِعُ الرّسم: العزلة والتأمل والاكتشاف والقراءة. حياة الصّباغة هي حقّاً حياة إيجابية بامتياز إذا تعمّقت بالفهم. أنت تعرف أن الرسام نوعاً ما صانع فرجة، وبالتالي عليه أن يكون مثقفًا، بل هو كذلك. والخلفية الفكرية والفلسفية للفنان تجعل منه فناناً ثقيلا وعميقاً. شغل الصّباغة شُغْل ذاتي جوّاني يقتضي نهجا روحانيا وفكريا مختلفا. شغل يتوقف كثيراً على الإحساس الجيد والمزاج القوي والرؤية المتبصرة. لذلك كنت أميل إلى الفلسفات الشرقية الروحانية. الفكرة تحارب كي تقنعنا بأنها الحقيقة. بينما أنا مع العمل الفني الذي يتموقع في المنطقة بين الفكرة والإحساس. المنطقة التي تترك للمتلقي مساحة لحرية الارتجال، هو الآخر. أعتقد أن الرسام سيظل يسعى إلى البحث عن الكيفية التي يزن بها كل ذلك داخل المتلقي بطريقة سديدة.

الإدريسي: في أحاديثنا في المقهى أو في ورشة عملك ردّدتَ كثيرا مفردة «القيمة». لكن أين توجد من وجهة نظرك قيمة العمل الفني؟ وما الذي يجعل هذا العمل الفني ذا قيمة أكثر من غيره؟

الهيطوط: العمل الفنّي يستمد قيمته من فرادته، وقدرته على إثارة الدهشة والتساؤل والغموض وفي آن مخاطبته للشعور الجمعي حتى لو استغلق وتأشكل وصعب تفسيره.

الإدريسي: في هذه اللوحة أو تلك لا أشعر بتغيير كبير في أسلوبك، كأنك تقدّم عملا واحدا، ولكنّه متعدّد. مثل رسم وجوه كثيرة لرجل واحد. لكنّ ثمة تعدّداً وقراءات مختلفة. هل يريحك الوضع الأفقي الهادئ المطمئن، بدلا عن القطائع المفاجئة، والقفزات العمودية؟

الهيطوط: كنت دائمًا أطرح على نفسي سؤالاً محدداً، ما الصباغة؟ وقد خلصت إلى شيءٍ واحد هو أنه لا يجب عليك أن تعرف إلى أين تقودك اللوحة؛ بل عليك أن تضع نفسك في ورطة. أن تجرّب الذهاب إلى أبعد مما تعرِفَ أو عرفت. لذلك أُبْقي على نفسي مفتوحة على كل الإمكانيات والتغييرات مهما كان حجم هذا التغيير. في الحقيقة، أنا أسير في خط بصري تتخلله قطائع صغيرة وغير مرئية، كل صباغة تقذفني إلى صباغة أخرى. كل صباغة سابقة هي بذرة لصباغة جديدة. القماش تربة فارغة، أُرسُم لِأسقِي البذرة. وأنت تشتغل على لوحة ما، يحدث أن تتعثر باكتشاف عبارة، لقية جميلة. طبعا يجب أن يكون لديك هيكل في ذهنك للوحة قبل أن تحرّك يدك على تلك المساحة. لكن في الصباغة كما قلت، عليك أن تضع نفسك في ورطة وأن تخاطر، أن تخاطر دون هوادة. ففي وسط العملية الإبداعية يفتح باب هائل اسمه باب الحيرة. كثيرًا أيضا ما أعثر على الخطوة التالية للوحة ما، بينما أشتغل على أخرى. الشيء المهم هو كيف سيبدو شكلها؟ والأمر هنا لا علاقة له بالتقنية. غالبًا أفضّل أعمالي الأخيرة، وهذا التفضيل لا يدوم طويلا. إذ سرعان ما يتلاشى وأتراجع عنه، ثم أعتبرها أعمالا عادية. لديّ ميل إلى حذف شيء أو دفن لون ما، هناك دائما سبب للقيام بذلك. أضع لونًا ثم أشطبه، قد أضيف شيئًا ما؛ أما عندما يتعلّق الأمر بالحذف فإنني أقوم بذلك على الفور ثم أدفنه حتى يصبح بارزا أكثر.

الإدريسي: وماذا عن مواد رسوماتك هل هي نفسها التي تشتغل بها في الغالب؟ أم تجرّب أشياء مختلفة؟

الهيطوط: أحب ان أجرّب وأختبر كثيراً في الصباغة. أنظر، لا شيء يضاهي التجربة في الفن. أحاول أن أستعين بكل شيء تصل له يدي، لم أقم بالصباغة كما لو أنها مهنةً أو وظيفة، جئت الى الصباغة بحب وشغف وفضول طفولي. كنت دائما ببساطة أصبغ بمتعة واهتمام، رغبة في تجريب أشياء ما. الفن يشبه الحياة. تتعلم وأنت تتقدم في العمر. عندما أبدأ صباغتي لا أعرف أين سأنتهي ولا إلى أي محطة يمكن أن أصل، أبقى مستعدًا دائمًا لتدمير عملي إذا لم يعجبني. نعم، ما أسميه الجانب أو الشق البارد في الصّباغة؛ هو شكلها غير الجواني، بمعنى التقنية. بإمكان أي أحد أن يعلمك هذه الخطوات. أما الأشياء التي تعطيك نفسا عميقا وروحا جديدة وطريقة لاستشعار الكون تبقى أشياء شخصية ذاتية، لا أحد يمكنه أن يمنحك إياها كيفما كانت مهارته. الكيلومترات التي نقطعها مشيا على الأقدام هي ما يعني أننا أصحاء وأقوياء وكذلك هذا هو لحم الصّباغة وجانبها الجواني، لعلّ كل واحد منا يملك قسطا من ذلك في داخله.

الإدريسي: قمت بمعارض عدة داخل المغرب وخارجه، كيف تقيّم علاقة المتلقي بمنجزك وبالفن التشكيلي عموما؟

الهيطوط: أفترض أن التفكير في المتلقي ادعاء كبير، لانه يفترض أن أحداً حاضر دائماً في ذهنك. قد أتريث في الحكم على الأشياء، يعني ذلك أن تساورني بعض الشكوك. ولأن الصباغة لا تحتمل الشك، يصبح هذا الشك ثقيلًا عليّ ويستحيل الرسم في وجوده. الصّباغة تقتات من روحي وتجعلني أقلق. المهم ليس البيع ولا المال هو الذي يؤرقني. فالصّباغة نظيفة والمال قذر. عندما لا تبيع هذا لا يهم، ليست مهمة الرسام الأولى أن يبيع أعماله، ولا ينبغي له أن يكون مستعداً لتغيير صباغته من أجل عيون المتلقي أو إغراءات المال. ينبغي له عدم الاستسلام للضعف من أجل البيع. عندما نرسم فنحن لا نريد أن نبهر المتلقي في المقام الأول، لكن وأنا أرسم أفضل أن أرسم لنفسي أولا، أفضل أن أكون أول من ينبهر أو يتفاجأ في المقام الأول. وهذا مهم جداً في حياة الفنان ويشكّل متعته. أحيانا الصّباغة تفاجئني بتكوينٍ أو وهْم أو نتيجة ما، لأنها – في اعتقادي – تريد أن تذهب بي إلى مكان مغاير لما خطّطت له أو توقعته، وما عليَّ سوى الاستسلام لها واتباع إملاءاتها بدون أدنى مقاومة. وحينها أكون سعيدًا جدًا بذلك، مثل طفل. أعتقد أنه مع مرور العمر، يتعلّم الرسّام كيف يمتصُّ كل شيء يراه. الصباغة تملأ كل شيء حولنا.

معرض شفافيات لـ عبدالله الهيطوط (@alarabytv2)

*****

منير الإدريسي شاعر وكاتب مغربي. أصدر شعريا: مرايا الريش الخفيف 2007، انتباه المارّة 2017، بنظارة أشف من الهواء 2021.

عبد الله الهيطوط

خاص قنّاص – فوتو تشكيل

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى