بقلم: ليزا اللارديس
نشر هذا الحوار في صحيفة الغارديان البريطانية بتاريخ 20 أوكتوبر 2022
(أقمار مالي ألميدا السبعة)؛ رواية على لسان رجلٍ ميت، تدور رحى أحداثها أثناء الحرب الأهلية السريلانكية. في جزء منها هي لغز عن جريمة قتل، وفي جزء هجاء سياسي وآخر قصة حب. يتذكر مؤلفها الأحداث القاسية التي ألهمته لكتابة روايته والمحرّر الذي دفعه باستمرار لأن يقدم الأفضل.
هذا الصباح، وحين استيقظ شيهان كاروناتيلاكا من نومه في فندق إقامته بعد فوزه بجائزة بوكر-ليصبح أول روائيّ سريلانكي يفعلها منذ أن نالها مايكل أونداتجيز عن روايته (المريض الإنجليزي) في عام 1992- وجد على جوّاله أكثر من 300 رسالة مستلمة وغير مقروءة عبر تطبيق WhatsAPP، وأيضاً تغريدات تهنئة عبر Twitter من رئيس جمهورية وطنه سيريلانكا، وزعيم المعارضة وغيرهما من السياسيين. هؤلاء قوبلوا برد فعل حانق من سريلانكيين تكدست تعليقاتهم الغاضبة: “لتظلوا بعيدين عن هذا الرجل، إنه يكتب عنكم”، وهو فعلاً ما ردده وعبّر عنه كاروناتيلاكا، حينما تحدثنا إليه في وقت لاحق من الصباح ذاته.
وتدور أحداث الملحمة الواقعية الساحرة والمتقدة جرأةً (أقمار مالي ألميدا السبعة)، في عام 1989 أثناء الحرب الأهلية السريلانكية. ويروي فيها الكاتب بضمير متكلم ثانٍ، قصة مالي ألميدا، وهو “مصوّر فوتوغراف، مقامر وفاسق”، ناهيك عن كونه استحال شبحاً بعد موته، ولديه من الوقت سبعة أقمار- أي سبع ليالٍ- ليعرف من قتله، وليرشد صديقين مقربين اثنين إلى مخبأ لمجموعة من الصور، من شأنها أن تظهر للعالم ما يحدث بالفعل في سريلانكا. وحسبما يُخبر ألميدا في قصاصة مكتوبة بخط يده حول الفصائل المتحاربة في بلده: “لا تحاول البحث عن الأخيار لأنه لا يوجد أيّ منهم هنا”.
اثنا عشر عاماً مرّت عن نشره روايته الأولى الرجل الصيني: أسطورة براديب ماثيو، والتي استثمرت التقصي عن لاعب كريكت مفقود لاستكشاف فترة لاحقة من تاريخ سريلانكا. (فازت الرواية بجائزة الكومنولث للكتاب في عام 2012، فضلاً عن كونها أحد أفضل كتب الكريكت على الإطلاق وفقاً لويسدن) لقد استغرقت رواية الأقمار السبعة -بكل جوانبها التي تجسّد لغزاً غامضاً لجريمة قتل، وقصة شبح، وكذلك الهجاء السياسي فضلا عن قصة حب لمثلي الجنس- وقتاً طويلاً لإتمام كتابتها. ويقول كاروناتيلاكا، البالغ من العمر 47 عاماً، “إن عمر هذه الرواية من عمر ابنتي الكبرى، والتي تبلغ اليوم ثمانية أعوام”. وفيما أنّ إنجاب طفلين صغيرين لم يكن أمراً ليعينه أبداً (في كل مرة يدخلون عليّ فيها من الباب، تتبدد فقرة من رأسك) إلّا أنه لا يمكنه إلقاء اللوم عليهم كلياً. “لقد كانت مجرّد قصة معقدّة”.
لقد شعر “بالغيظ” حين فازت رواية (لينكولن في باردو) للكاتب جورج سوندرز، “وهي رواية أخرى عن شبحٍ يتحدث”، بجائزة بوكر لعام 2017. “لقد مثّل هذا صراعاً بالنسبة لي، بل كانت ورطة، أن يروي كتاب آخر حكاية شبحٍ يتحدث، ويفوز بجائزة بوكر. إنّ هذه الرواية تحفة فنية”. لكن كاروناتيلاكا واصل مسيره في سرد وكتابة قصة شبحه هو. يقول إن الموتى فقط هم من يعرفون حقيقة ما جرى في الحرب الاهلية السريلانكية. “فلماذا لا ندعهم يروون قصتهم؟” وتابع كاروناتيلاكا، “ولقد برهنت تقاليد وأعراف البوليسية بأنها الإطار المثالي لمختلف الفصائل المتنازعة. من قتل مالي؟ ثمة خمسة مشتبه بهم يبتغون جميعاً موته. كما اشتغل المؤلف بجد على مثلث حب أعطى قلبَ الرواية نبضه. لكن يظل كاروناتيلاكا غير متأكد من عدالة وصف الرواية بأنها هجاء سياسي. يقول، “لقد كنت أصف الأحداث بدقة عالية”. وتابع، “لعلّي كنت أفعل هذا بابتسامة متكلفة، لكنّ تلك كانت هي الأحداث فعلا”.

وفيما كنا نتحدّث؛ محاولاً تقديم عرض موجز لما جرى في الأربعين عاماً المنصرمة من تاريخ سريلانكا، أوضح كاروناتيلاكا لمَ شكلت الرواية محنة كتابة بالنسبة له. “فيما لو كنت أختلق قصة بوليسية لكنت قلت: “ثمة الكثير جداً من الحبكات والدسائس”. وتابع قائلا؛ “لكنّ هذا هو ما حدث وجرى بالفعل”.
وفي عام 2019، نُشرت الأقمار السبعة في الهند بعنوان أحاديث مع الموت، لكن ثبت بأنه عنوان شاق للغاية وإشكالي بالنسبة للجمهور العالمي. لذا أرسلها إلى صديقته المحررة ناتانيا يانش، وهي زميلة سريلانكية أسست مع زوجها مارك إلينغهام دار النشر البريطانية المستقلة Sort of books (كما أسسا سلسلة رحلات (Rough guide. يعلّق كاروناتيلاكا؛ “الأشخاص العاملون في مجال النشر مهذبون للغاية”. وتابع وهو يضحك؛ قالت لي: “إن العمل رائع، لكنّي أخشى أن العرض والمقدمة والخاتمة كلتيهما لا تؤديان مهمتهما المطلوبة”. لقد استلمت العمل قبيل الحظر مباشرة، لذا كان ثمة وقت كافٍ لكثير من الرسائل الإلكترونية ومكالمات الزوم إلى لندن. كان بوسعها أن تقول لي، “حسناً، إنها جيدة الآن بما فيه الكفاية” وتدع سيرها نحو النشر يمضي. لكن لحسن الحظ أنها لم تفعل هذا، واستمرت في دفعي نحو الأفضل وتحفيزي. استغرق الأمر عامين من العمل، لكن يبدو جلياً أنهما آتيا بأكليهما.
وإنها لأحدوثة رائعة أن يمضي مؤلف قدماً، لنيل واحدة من أكثر الجوائز الأدبية تميزاً في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وهو الذي اضطر لنشر روايته الأولى بنفسه، كما ورغم نجاحها واجه صعوبة في بيع روايته الثانية. وفيما أن الفوز بجائزة البوكر يعدّ إنجازاً واضحاً على الصعيد الأدبي –”وهو ما يفهم تماما”- إلا أنه لا ينظر إلى ما تبقى من تجربته على أنها فريدة أو استثنائية بالنسبة لمؤلف سريلانكي. يقول كاروناتيلاكا، “لا نتوقع أن يتم النشر خارج سريلانكا”. وأوضح “في حال تمكنا من دخول الهند أو باكستان أو بنغلادش، فالأمر سيمثل إنجازاً لنا، لكنه غير مضمون”. وحينما كان لايزال ناشئاً، كان كتاب مثل أونداتجي وروميش جونيسيكيرا لديهم فعلاً جمهورهم من القراء حول العالم، لكنهم كانوا يكتبون من أماكن كتورنتو ولندن. “بالنسبة لشخص يمارس الكتابة في كولومبو… حسناً، لم أتوقع ذلك”. ولايزال قلة فقط من الكتاب السريلانكيين ممن تُنشر نتاجاتهم حول العالم. نأمل حقاً أن يتغير كل هذا مع الأقمار السبعة”.
وفيما كان منزعجاً وهو يعود سنواتٍ إلى اضطرابات عام 1983 واندلاع الحرب -“أنا لست من الأشخاص الذين عانوا”-إلا أن بوسعه أن يسترجع في ذاكرته أحداث عام 1989. لقد نشأ وترعرع في كولومبو، وسط عائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة في أواخر الثمانينيات، ويوضح كاروناتيلاكا أنه كان “معزولاً” إلى حد ما عن أسوأ أوجه القتال، لكنه يتذكر على نحو متقد حظر التجول، وإغلاق المدارس، وكيف جعلته والدته ذات يوم يشيح بنظره إلى الاتجاه الآخر كيلا يرى الجثث المرمية في الأزقة والإطارات المحروقة. ويقول أن زوجته التي كانت تعيش مع عائلتها في الأحراج الزراعية، قاست تجربة مع الحرب أشد وحشية ومرارة.
ورغم أنه قد تم توثيق تلك الحقبة الزمنية على نحو جيد، إلا أنه يشعر بأن الناس لم يقاربوها بعد عاطفياً. “أولئك الذين لديهم ذكريات لم يبوحوا بها بعد. ينبغي أن نكتب عن ذلك ونحاول أن نفهمه، لأننا لا نميل إلى فعل هذا في سريلانكا، نحن نميل فقط إلى المضي قدماً”. وكما يشرح صاحب رواية الأقمار السبعة، فإن العودة ثلاثين عاماً الى الوراء تبدو “أكثر أماناً” الآن إذ لا يزال عدد قليل جداً فقط من الأشخاص موجودين. ويقول، “لا وجود لأي من الفصائل”. “لن يُساء لأحد لأن أحداً منهم لم يعد موجوداً ليشعر بالإهانة”. ومن ثم فإن كل تلك المحادثات هي مع الموتى.
إن الحياة الآخرة في رواية الأقمار السبعة هي نوع من مكتب التأشيرات المكتظ والمزدحم، ولعلّها صورة أتت من الوقت الطويل الذي كان يقضيه كاروناتيلاكا في قوائم الانتظار والطوابير المختلفة، حيث كان يستثمر وقته لتدوين ملاحظاته. “لكن الفكرة المستعصية حول غموض الحياة الآخرة، وجهلنا تماماً بقواعدها وقوانينها، أضفى مسحة كوميدية عليها، وهو إحساس شخصي إلى حد بعيد”.
يقول كاروناتيلاكا بأنه حاول فعلا أن يكتب بنبرة جادة، لكنه “كثيراً ما كان يشعر بالملل منها”. ولعل روح الفكاهة المعتمة في الرواية لا تعكس فقط وجهة نظره فحسب، بل تعكس أيضا وجهة نظر الشعب. يقول، “ثمة شيء واحد هو الابتسامة”. “نحن نبتسم كثيراً.” لكنه لاحظ “أن الابتسامة ترتسم حينما نكون غاضبين، أو نشعر بارتباك أو انزعاج. نحن لا نحب المواجهات. بل نفضل حفظ ماء الوجه ودائماً بروح الدعابة”. ويتابع أن وسائل التواصل الاجتماعي مكنت المواطنين من تحدي القادة على نحو لم يكونوا ليجرؤوا عليه من قبل. “إن إلقاء النكات حول الوضع مثّل نوعاً من سلب المستبد سلطته. إنه جزء من تجربة سريلانكا. وهو السبب الذي بدد عن البلد غمامة البؤس، رغم أن لديه أسباباً وجيهة ليكون مكاناً بائساً”.
ويقول كاروناتيلاكا أن عمله ككاتب محتوى إعلاني ساعده كروائي. فلن تكون منشغل البال في احتمالية إقصاء واستبعاد أفضل أفكارك، كما ليس ثمة مجال لمنع الكاتب وحظره: “لا يمكنك إخبار العملاء: أنا لست مصدر إلهام”. ورغم فوزه بجائزة بوكر، فليس لدا كاروناتيلاكا أية خطط للتخلي إلى الآن عن وظيفته اليومية. وسيبقى ملتزماً بروتينه في الكتابة من الساعة الرابعة صباحاً والسابعة صباحاً. “إنه الوقت الوحيد المتاح لي. فلا أحد يشتت انتباهك، ووسائل التواصل الخاصة بك صامتة، وأطفالك نائمون”.
إنه يفضّل أن يظلّ منشغلا بمشاريع عدة. فهو كتب ونشر مع شقيقه الرسام سلسلة من الكتب لليافعين أيضاً. “أدركت أن قضاء سبع سنوات في كتابة الروايات الأدبية، والتي من المحتمل أن تقرأ أو لا تقرأ، هو عمل صعب وشاق. ثم رزقت بأطفال واكتشفت أن كلا منهم هو نسخة من كتاب “اليرقة التي تتضور جوعاً” والذي يبيع مليون نسخة كل عام. قلت لأخي ذات يوم، “دعنا نجد يرقتنا التي تتضور جوعاً”. إنهم ينتجون نحو كتابين سنوياً بعناوين مثل: من فضلك لا تضع هذا في فمك. كما قد يكون من الممتع جداً أن تنضم إلى Focus groups في المكان ذاته الذي يتواجد فيه أطفالك.
وحين كان مراهقاً في العشرينات من عمره، أراد كاروناتيلاكا أن يكون نجماً من نجوم موسيقى الروك. “كلنا في سرّنا نرغب في أن نكون نجوم روك”، قال هذا لعدد من الكتاب والموسيقيين هناك. لديه خمسة قيثارات، واشترى لنفسه مؤخراً طقم طبول. لقد تعلّم ذاتياً العزف على الكيبورد أثناء فترات الحجر الصحي والإغلاق. “تكتب لمدة ساعتين، تأخذ استراحة وتعزف على الجيتار. إني أقوم بهذا لنفسي فقط. ولا أعتقد أن يكون لي ألبوم أو أية فرقة يتم تشكيلها”.
لاحظتُ أن أظافر واحدة من يديه مطلية بالأسود. “نعم، هو شيء ما صبياني يخص نجم الروك الذي أتمنى أن أكونه”، ردّ بنبرة اعتراف. “لطالما كنت أطلي أظافري باللون الأسود كي تبدو بمظهر حسن وأنا أعزف على الجيتار. إنها يدي الساخطة”. أما زوجته فتبدو رافضة لما يسميه هو “طلاء رجولياً”. قالت له؛ “سوف تذهب لحفل البوكر، وتلتقي الملكة، لا يمكنك فعل هذا وأظافرك هكذا”. لذا اصطحبته إلى صالون لتجميل الأظافر والعناية بها قبيل مغادرتهم سريلانكا. لقد كانت غلطة، هكذا يقول اليوم. فبينما هو جالس أمام اختصاصي تجميل الاظافر، لم يستطع أن يقاوم رغبته بطلب “بعض الأشياء السوداء”. “أجل، لقد قاطعتني زوجتي ذاك المساء ولم تتحدث معي”. يضحك مجدداً. “لقد كنت فخورا جداً بأني استلمت جائزتي مع طلاء أظافري الرجولي الأسود”.
كاروناتيلاكا فخورٌ أيضاً لتمكنه في حفل بوكر، من إلقاء خطابين مقتضبين باللغتين السنهالية والتاميلية. لقد كان والداه يتحدثان السنهالية، بينما تتكلم أسرته اللغة الإنجليزية في المنزل. فأطفاله يتحدثون ثلاث لغات وهو يتعلم التاميلية معهم. “إن قدرتي على التحدث بهاتين اللغتين يعد أمراً مهماً بالنسبة لي”. أما لجهة خسارة فريق الكريكت السريلانكي الليلة الماضية فقد استخف بالخبر. وأضاف كاروناتيلاكا؛ “إلى السريلانكيين جميعهم: دعونا نستمر في سرد قصصنا. دعونا نواصل مشاركتها مع الآخرين، ونصغي إلى قصصهم أيضاً”.
يحلم كاروناتيلاكا فعلاً أن يعتبر القراء، وفي غضون عشر سنوات، روايته عن الأقمار السبعة ضرباً من الفانتازيا (الخيال)، “لأن سريلانكا التي يعيشون فيها لا تشبه ما ورد في الرواية”. يأمل الرجل أن يقول الناس ذات يوم: “هل جرت تلك الأحداث حقاً؟ أم أنك قمت باختلاقها؟” لكنه تابع بالقول: “من المؤسف حقاً أن يتجه الناس لاستخلاص أوجه التشابه بين الحاضر وما قد يجري بعده”.
إن اهتمامه لجهة الرواية الآن يتمحور بصورة مباشرة حول إتاحة الإمكانية للحصول على أكبر قدر ممكن منها في مكتبات بلده. فالحصول على نسخ يمثّل “مشكلة حقيقية”: عدة آلاف من النسخ “يتم تهريبها”، حسب قوله. كما أنه لم يكن بوسعه أن يقرأ للكتاب الآخرين المندرجين في قائمة بوكر الطويلة نظراً للأزمة الاقتصادية التي تعصف بسريلانكا والتي أوصلتها إلى حال سيئة للغاية، لدرجة أن الكتب لم تعد أولوية هناك. كما تعمّد كاروناتيلاكا في خطابه إلقاء “نكتة” حيال الوضع الاقتصادي الحالي في المملكة المتحدة. “لقد كان لدينا ثلاثة رؤساء للحكومة في غضون ثلاثة أشهر. إني أتساءل ما إذا كان الوضع في المملكة المتحدة مشابهاً”. قالها ممازحاً. لقد بدأ كاروناتيلاكا بكتابة روايته التالية بالفعل. فهو لا يرغب بأن تتكرر ذات الفجوة الزمنية والمدة الطويلة التي امتدت بين الروايتين السابقتين. وهذه المرة “لا يوجد كريكت ولا أشباح”، هذا كل ما سأقوله.
رابط المقال الأصلي هنا
تهاني سكيكر: صحفية ومترجمة، لها ترجمات عدة لدور نشر، فضلاً عن البحث العلمي والترجمة في مجالي الفلسفة وعلم النفس. وعملت لسنوات عديدة في المجال الإعلامي بأنواعه (الصورة: qannaass.com).
