جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

الموسيقى والزمن وغلو الصورة في رواية «الشتاء في لشبونة» للروائي الإسباني أنطونيو مونيوث مولينا | جينا سلطان

متى يتحول الآخر إلى ذكرى وواقعة تؤسس للإشباع النفسي الذي يقوم عليه التحقق من ملكة الإبداع، المؤطرة بثلاثية الزمن والموسيقى والصورة، التي تعد تلتقط المشاعر عند لحظة معينة وتجمدها؟ وكيف تتناغم خارطة العواطف الأكثر سرية مع الغموض الذي توحي به موسيقا الجاز، حين يعزفها مبدع، تتشظى ذاته بين القلق الوجودي والتوق الى الحب القائم على تقدير الموهبة؟ ولماذا تبعث ثيمة “الحياة هي في مكان آخر” لـكونديرا صوت “فلوبير” في التربية العاطفية، وتُذكر بتلك اللحظة في الانفصالات، حينما يفارقنا الشخص المحبوب رغم وجوده الفيزيائي بيننا؟

في روايته “الشتاء في لشبونة”[1] يقارب الروائي الإسباني “أنطونيو مولينا” مفهوم الحاضر الخالص عبر لغة النغم، لإثبات مقدرته على التجدد مع كل نص يؤلفه، لتصبح كل رواية بمثابة خطوة مضافة إلى طريق الألف ميل، التي يقطعها المرء نحو معاينة ذاته، ضمن مساحة الحوار الإنساني الخلاق بين الـ أنا والـ أنت. وبالتالي، تنهض مسافة معينة إزاء المنجز الإبداعي المنتهي، تبدأ فور انتهاء العمل، فتغدو الرواية أثناء كتابتها تجسيدا لماهية المؤلف الآنية، وتعبيرا مباشرا عن صخب الأفكار والمشاعر في أعماقه، فيحيا فيها ومن خلالها مغامرة الوجود، وفي الوقت نفسه يتوق لإنهائها. لذلك لن يعود إليها طواعية إلا في لفحات من خلال ردود أفعال بعض القراء، الذين يجعلونها جديدة حين يكتشفونها.

عبر أغنيتي “لشبونة” و”بورما” اللتين تعبران عن غرق الأمكنة في تيه الأزمنة المؤطرة بالانتظار، يعلن سنتياغو بيرالبو أن “أي موسيقي يعرف أن الماضي غير موجود”. وهو ما يشكل مدخلا أمام “مولينا” للمقارنة بين الارتهان للماضي ومراكمته كثقل متزايد في حالة الرسامين والكتّاب، مقابل الخفة التي يدركها الموسيقي حين يعزف وكأنه معلق في الفراغ، فتكف موسيقاه عن الوجود في اللحظة نفسها التي ينتهي فيها من عزفها، في تجسيد لـ”الحاضر الخالص”.

يمنح “مولينا” الموسيقى قيمة مطلقة حين يعتبر السكون حقيقتها، وفي الوقت نفسه يدرك على لسان الراوي، الشاهد على تحولات بيرالبو، قابليتها للتفسير، والتي تنطوي على احتمالية الحكاية بكل ما تتضمنه من عناصر النمو والتطور نحو تكثيف المعنى وترميزه. فتصله أغنية “بورما” مفعمة بالظلمة وبتوتر شديد الشبه بالخوف ومتصل حتى أقصاه، يدفعه بشكل دائم نحو تكشف ذكرى.. ومع نبضات الاضطهاد والرعب، يلمح فيها كل الأشياء داخل ذاته، ويجد فيها، كلمات أخرى سابقة من لغة عُهد بها بخشونة للنقوش الحجرية وألواح الصلصال؛ كلمات مفرطة الغموض لا يمكن حل شفرتها دون تدنيس.  

بالمقابل، تشير أغنية لشبونة إلى طموح بيرالبو لأن يكون مثل أبطال الأفلام الذين تبدأ سيرتهم الذاتية بالتزامن مع الحدث، فلا يملكون ماضيا بل صفات طاغية. لذلك يعتبر مدينة لشبونة وطن روحه، باعتبارها الملجأ الوحيد الممكن لمن يولدون أجانب، وكذلك لمن يختارون العيش والموت كمنشقين. ففيها يدرك للمرة الأولى في حياته الانعزال المطلق لأفعاله، ويغدو غريبا تماما عن ماضيه وعن مستقبله، وهو ما ينعكس في اللحن كإحساس خالص بالزمن، شفاف ولم يمس، يتزامن بيقين يجعل من الموسيقا عاطفة باردة ومطلقة.

وبعبارة مقتضبة؛ “هي اخترعتني”، يختزل “مولينا” سجالات لا نهائية حول أهمية التشجيع والدعم العاطفي للموهبة الوليدة عند مشروع المبدع، والتي تثبت صورته في عيون الآخر، وتكرس دوره في حوار الأنا والأنت. لذلك، لم يدرك بيرالبو الحياة الحقيقية التي أعلنتها له الموسيقا دوما كتجسيد مسبق لشيء لم يعرفه بصورة ملموسة، إلا حين كشفته له عينا لوكريثيا المتحمستان. وقرن تعلم عزف البيانو برغبته في أن تسمعه هي وترغبه، لذلك جعل من تحقيق امتياز الكمال ولاءً للمستقبل الذي تنبأت له به لوكريثيا في أول ليلة تسمعه يعزف. وكان قبل ظهورها في حياته “يوجد فقط حين يفكر فيه شخص ما”!

كانت المدينة والموسيقا وذاكرة بيرالبو وحياته قد اندرجت، مذْ عرف لوكريثيا، في لعبة تناظرات ورموز يدعم بعضها بعضا بصورة بالغة الرهافة. ليستيقظ عقب رحيلها على مفاجأة، تتجاوز بكثير سطوة الألم أو الوحدة، وتتجسد في عالم وزمن يفتقدان إلى الأصداء. بالمقابل، تحيا لوكريثيا في انعدام الطمأنينة والشك الذي يربط حياتها الحقيقية بمدينة أخرى وبين أناس مجهولين، فتتنكر للأماكن التي وجدت نفسها فيها، وتكرر أمامه بأنها مجرد عابرة، وأن وجهتها تتمثل في مدينة لشبونة. وحين يتجدد لقاؤهما في لشبونة بعد ثلاث سنوات من الانتظار العبثي يرتسم وجهها أشد مجهولية وأكثر جمالا من عهده السابق بها، بسبب انطوائه على علامات اكتمال جعلت حب بيرالبو يتكشف أمامه. فيتعلم عندئذ أن الشيء الوحيد الذي سيربط بينهما دوما، ليس الرغبة ولا الذاكرة، بل الهجران، واليقين من كونهما وحيدين ولا يملكان حتى عذر الحب الفاشل، فيتحرر من ابتزاز السعادة المقترن بوجودها ومن الكمال.

وأمام صورة مستنسخة لإحدى لوحات الرسام الفرنسي بول سيزان، يدرك بيرالبو أنه يتحتم عليه عزف البيانو مثلما رسم الأخير مشهده ورؤيته الوجودية؛ بامتنان وحياء، بحكمة وبراءة، كأنه يعرف كل شيء ويجهل كل شيء، بالرهافة والخوف اللذين يتجاسر بهما المرء لأول مرة على تربيتة، على كلمة ضرورية. وبالتالي جعله هذا النمط من الرسم يفهم الإمكانية الأخلاقية لعدالة غريبة لا تلين، لنظام سري لا ينتمي إلى هذا العالم، يصوغ المصادفة ويجعل العالم قابلا للعيش. ثم يتيقظ إلى مدى تشابه ذلك الزخم المقدس والملغز والمقترن في الوقت نفسه بالطابع اليومي المذاب في الهواء، مع موسيقى شريكه المبدع بيلي سوان؛ “الإحساس لا بفك شيفرة معنى الموسيقا أو بقع الألوان أو اللغز الساكن للضوء، بل بكون المرء مفهوما ومقبولا من تلك الأشياء”.

تعود بيلي سوان على تذكير بيرالبو بأن ما يهم في الموسيقا ليس البراعة، بل الصدى، سواء في فضاء خال أم في مكان مليء بالأصوات والدخان، أو في روح شخص. فذلك الصدى الخالص يحمل بين طياته غريزة بالزمن، وبالتنبؤ بما يجري داخل الراوي، كلما استمع إلى الأغنيتين اللتين عزفهما بيلي سان وبيرلبو معا: بورما ولشبونة. وهو ما كان يعني أن العالم لن يعود مجدداً نسقا من الرموز التي تشير إلى لوكريثيا، المتحولة إلى ماض، فكل إيماءة ورغبة وكل أغنية يعزفها بيرالبو ستستنفد في ذاتها مثل لهب ينطفئ دون أن يترك رماداً.


[1]  ترجمة أحمد حسان، إصدار دار سرد 2021

جينا سلطان: كاتبة من سوريا

خاص قناص

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى