بارنيا عباسي
في صباح الجمعة، 13 حزيران 2025، سقط مبنى سكنيّ في شارع ستّارخان بطهران. لم يكن السقوط بسبب زلزال، بل بفعل صاروخ إسرائيلي، كما قالت الأخبار. لكننا نعرف أن الصواريخ لا تُخطئ الشعراء… إلا حين تقصدهم.
بارنيا عباسي، الشاعرة التي لم تُكمل عامها الرابع والعشرين، كانت تعيش حياة مزدوجة. تعمل في بنك «ملي إيران»، تُدرّس الإنجليزية، وتكتب الشِعر. تتنقّل بين قزوين وطهران، وتنتظر قبولها في مرحلة الماجستير، وتُحضّر لورشة شعرية جديدة. كانت تحلم بلقاء أصدقائها قريباً، لتقرأ عليهم نصّاً كتبته ليلاً، على عجل، كما اعتادت أن تفعل.
لكن لم يبقَ شيء من تلك الخطط. في اليوم الذي سبقت فيه الحياة الموت بخطوة، خرجت بارنيا من البيت، ثم عادت باكراً، لأن والدتها تأخرت عن العمل. بعد دقائق، انفجر كل شيء.
الشِعر يمنحني السلام
ماتت بارنيا، ومات والدها، ووالدتها، وأخوها الصغير «برهم؛ 16 عاماً». دفنتهم المدينة بترابها وصمتها. لم يبقَ من الشاعرة سوى صور، ودفتر صغير، وعبارات منشورة، لم تكن تعرف أنها ستكون وصيتها الأخيرة، في أحد نصوصها القصيرة، كتبت بارنيا: «أنا أحترق، أذوب، أصير دخاناً في سمائك».
لم تكن تعرف، أو ربما كانت تعرف، أن هذا الدخان سيعلو من تحت الأنقاض. لم تكن مجازاً حين كتبت، بل كانت تمهيداً صادقاً للنهاية.
وُلدت بارنيا عباسي عام 2002. درست الترجمة في جامعة قزوين. كتبت شعراً منذ سنوات المراهقة، وظلّت تكتب دون صخب. كانت تحب اللغة البسيطة، وتفضّل القصائد القصيرة، المشغولة باليوميّ والعاطفيّ والخفيف مثل حكايات الهواء. لم تنشر ديواناً، لكن قصائدها كانت تتنقّل بين الدفاتر وصفحات الأصدقاء، وعبر الرسائل القصيرة.
أحبت الورش الشعرية. لم تكن تشعر بأن الجامعة تكفي. في مقابلة نادرة قالت: «كلّ ما يحدث لي أشعر أنه مادة صالحة للكتابة، فحين ينتابني التعبير عن الشعور في لحظة ما يأتي الشعر ويمنحني السلام».
كانت صادقة. وكان الشِعر عندها طريقة للبقاء، ومكاناً آمناً للهروب من تعب الوظيفة وضجيج الحياة.
عائلة كاملة تُمحى.. ودفتر ينجو
بعد الانفجار، لم يعثروا على كثير. جسدها كان أوّل ما انتُشل. شقيقها برهم كان قريباً منها. الوالدان ظلا تحت الأنقاض. البيت اختفى. وبقي سرير ملطخ بالدم. وصورة.
لكن أحد دفاتر بارنيا نجا. دفتر أخضر بغلاف بسيط، عليه اسمها وتاريخ. فيه نصوص غير مكتملة، وقصائد قصيرة. فيه كلام عن أخيها، عن ضوء الصباح، عن قلقها من الوحدة، وعن السماء التي لا تُجيب.
حين انتشر خبر مقتل بارنيا، لم تتأخّر الأصوات في الكتابة عنها. موقع «بامنار برس» نشر رثاءً عاطفياً وصفها فيه بأنها «الزهرة التي لم تعرف الربيع»، وقال إنها لم تكن ضحية فقط، بل كانت «شاعرة في طريقها إلى النضج». أما صحيفة «طهران تايمز» فاختارت صورة من موقع الحادث تُظهر بقايا السرير وأثر الدم كأنها تقول: «هذه ليست نهاية. هذا نصّ».
لم تكن بارنيا شهيرة، لكنها كانت حيّة. كانت تكتب. كانت تخطّط. كانت تشتهي الحياة. رحلت فجأة، لكنها تركت ما يشبه القصيدة المفتوحة، التي لم تُختم بعد.
في بلاد تعرف الشِعر، تُصبح الكلمات مثل شموع في مهبّ القنابل. لكن شمعة بارنيا، التي تحوّلت إلى دخان، صارت جزءاً من الهواء الذي نتنشّقه حين نكتب، أو نحلم، أو نحزن.
بارنيا عباسي، الشاعرة التي لم تُمهَل، لكنها قالت كفاية، وربما أكثر، في حياة قصيرة. تركت أثراً يشبه الهمس، لكنه سيظلّ يسمع طويلاً.
هنا قصيدة للشاعرة الراحلة، من صفحة الشاعر العراقي أحمد عبد الحسين:
نجمة صامتة
بكيتُ من أجل الاثنين معاً.
بكيتُ من أجلي
وبكيت من أجلك.
أنت تنفثُ نجوم دموعي في سمائكِ، في عالمكِ،
وتطلق النور في عالمي.
حين تنتهي لعبة الظلال في مكان ما، ننتهي أنا وأنت،
وأجملُ قصيدة في العالم تُصبح صامتة.
أنت تبدأ في مكان ما،
بهمسٍ تصرخ للحياة،
وأنا في ألف مكانٍ
أنتهي
أحترق،
وأصبح تلك النجمة التي انطفأت في سمائك
كالدخان.
الشاعر السوري عماد الدين موسى














