أحبار التُرجُمانمكتبة بورخيس

كيف أصبحتُ كاتبًا لـ بول أوستر | ترجمة: ريم غنايم

قصة واقعية من كتاب «الدفتر الأحمر» للأمريكي بول أوستر

قصة «كيف أصبحت كاتبا» من كتاب «الدفتر الأحمر» للأمريكي بول أوستر, ترجمتها ريم غنايم

ولد بول أوستر عام 1947، وهو روائي أمريكي، وناقد، وشاعر، ومترجم، وسينارست ومخرج وممثل ومنتج سينمائي. يعيش حالياً في بروكلين في نيويورك. يعتبر بول أوستر من أبرز الشخصيات في الأدب الأمريكي والعالمي المعاصر. يُنسب إلى أدب ما بعد الحداثوية.

اثنا عشر كتاباً لـ بول أوستر كانت الكتب الأكثر مبيعاً في العالم، كما أن كتبه تُرجمت لمعظم لغات العالم.

صدرت الطبعة الأولى من الدفتر الأحمر (The Red Notebook) عام 1993، ويجمع في مجلد واحد جميع قصص بول أوستر القصيرة الواقعية، وهي مجموعة رائعة من الحكايات التي توثق المنعطفات الغريبة والمعجزة والكارثية في بعض الأحيان للواقع اليومي. في هذه المجموعة البهلوانية والمبدعة من القصص، يتتبع بول أوستر الإلحاح القاهر لصنع الأدب. يتأمل في أعماله الأدبية الخاصة، وعلى الحاجة إلى كسر الحدود بين العيش في الواقع اليومي والكتابة، وعلى استخدام بعض عناصر الأنواع الأدبية والفنية المُتَفق عليها لاختراق مسائل الذاكرة والهوية. يَكشف الدفتر الأحمر مفاهيمنا المُسبقة حول الأدب، وفي نفس الوقت يُقوّضها، ويرشدنا نحو فهم أدقٍّ للمجازفة عالية المخاطر التي تنطوي عليها الكتابة. كما يتضمن الدفتر الأحمر مقال بول أوستر العاطفي «صلاة من أجل سلمان رشدي»، بالإضافة إلى مجموعة من الذكريات المذهلة والحلوة والمرة التي تم جمعها تحت العنوان المناسب: لماذا أكتب.

بول أوستر

بول أوستر في شبابه

goodreads.com

كيف أصبحتُ كاتبًا

كنتُ في الثامنة من عمري. في تلك المرحلة من حياتي لم يكن هناك ما هو أهم من البيسبول بالنسبة إليّ. نيو يورك جيانتس كان فريقي المفضل، وقد تابعت أداء هؤلاء الرجال ذوي قبعات البيسبول السوداء-البرتقالية، بإخلاص مؤمنٍ حقيقيّ. حتى اليوم، عندما أتذكر هذا الفريق الذي لم يعد موجودًا، والذي لعب في ملعب لم يعد موجودًا، يمكنني أن أردد غيبا أسماء اللاعبين. ألفين دارك، وايتي لوكمان، دون ميولر، دوني أنطونيلي، مونتي إرفين، هويت فيلهلم. لكن لم يكن أيّ منهم أكبر، وأكثر كمالا أو محطّ إعجاب، أكثر من ويلي مايز، أفضل لاعب بيسبول في الولايات المتحدة، الملقّب بـ “ذا سي-هي كيد”.

في ذلك الربيع اصطحبوني للمرة الأولى إلى مباراة في الدوري الممتاز. كان لأصدقاء والديّ مقاعد جيدة في بولو غراوندز، وذات مساء من مساءات نيسان ذهبنا سوياً لنرى فريق الجيانتس يواجه ميلوكوي بريفيس. لا أعرف من فاز، لا أذكر شيئا من اللعبة، لكنني أذكر جيدا أنه بعد نهاية اللعبة ظل والدايَّ وأصدقاؤهما جالسين على المقاعد يتحدثون إلى أن غادر من تبقّى من المتفرجين. تأخر الوقت إلى حد أنه كان علينا أن نقطع الملعب ونخرج من الباب الوحيد الذي ظل مفتوحا، في مركز الملعب. شاءت الصدفة أن كان باب الخروج تحت غرف تبديل ملابس اللاعبين.

عندما اقتربنا من الحائط، رأيت ويلي مايز على حين غرّة. لم يكن هناك شك في الأمر. كان ذاك ويلي مايز وقد خلع زيه الرسمي ووقف بملابسه المدنية بعيدًا عنّي مسافة مترين لا أكثر. تمكنت من تحريك قدمي باتجاهه، وفيما أنا أجاهد في حشد كل ذرة جرأة داخلي، أرغمت نفسي على التفوه ببضع كلمات. قلت: “مستر مايز، هل تسمح بتوقيع؟”

وقتها، كان يبلغ أربعة وعشرين عاما ليس أكثر، لكنني لم أتمكن من التفوه باسمه الشخصي.

كان رده على سؤالي جافًا وسريعًا. قال: “بالطبع يا فتى. هل تملك قلم رصاص؟”. أتذكر أنه كان يفيض بالحياة وفورة الشباب لدرجة أنه كان يثب صاعدا هابطا أثناء كلامه.

لم أملك قلم رصاص، وطلبت من والدي أن يعيرني قلمه الرصاص. لم يملك هو الآخر واحدا. ولا حتى أمي. واتضح أيضا أن أيّا من الكبار الآخرين امتلكَ واحدا.

وقف ويلي مايز العظيم ونظر في صمتٍ. عندما تبين له أن ما من شخص من أفراد مجموعتنا يحمل قلما، التفت نحوي وهز كتفيه وقال: “متأسف يا فتى. لا قلم، لا توقيع”. ثم أخذ يبتعد عن الملعب باتجاه الليل.

لم أرغب في البكاء، لكن الدموع انهمرت من لقاء نفسها على وجنتي، ولم أنجح في كبتها. والأنكى أنني بكيت في السيارة طيلة طريق العودة إلى البيت. نعم، كنت محطما من فرط الخيبة، لكنني حنقت على نفسي لأني لم أنجح في كبت هذه الدموع. لم أكن طفلا. كنت في الثامنة من عمري، ولا يفترض أن يبكي الأولاد الكبار من هكذا أمور. لم أحصل على توقيع ويلي مايز، ولم أحصل على أيّ شيء آخر. لقد وضعتني الحياة في اختبار، وكان واضحًا لي أنني أخفقتُ من جميع النواحي.

بعد ذلك المساء صرت أحمل قلم رصاص في كل مكان أذهب إليه. طورتُ عادة ألا أخرج من البيت دون أن أتأكد من أنني أحمل قلم رصاص في جيبي. لم تكن لدي خطط خاصّة لهذا القلم، لكنني لم أرغب في أن أكون غير مستعدّ. يكفي أنني ضُبِطتُ مرّة بيدين خاويتين، ولم أكن على استعداد لأن يحدث هذا مجددا.

علّمتني السنوات على الأقل ما يلي: إذا كنت تحمل قلم رصاص في جيبك، ثمة احتمال جيّد بأن يأتي يوم تشعر فيه بفتنة الشروع في استخدامه.

هكذا، كما أحبّ أن أروي لأولادي، صرتُ كاتبًا.

ريم غنايم؛ كاتبة ومترجمة من فلسطين

بول أوستر ، ريم غنايم

خاص قناص – سرد

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

‫2 تعليقات

  1. ليس القلم الذي جعله كاتبا…و إنما هذا الأسى الذي اعتصر قلبه حين لم يجد قلما…

  2. نعم الكتابة موهبة، تولد مع الشخص، فإن انتبه لها وطورها، وسقاها، وشحد الهمة بوسائل تحسينها وتأصيلها جنى المراد ووصل للمبتغى، وإلا ضاعت كما تضيع كثير من فرص اخرى في الحياة اليومية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى