أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

تغريبة القافر تفوز بالبوكر العربية 2023 | عمادالدين موسى

رواية «تغريبة القافر»: كيمياء الأساطير في حياة الناس

فازت «تغريبة القافر» للروائي العُماني زهران القاسمي بالجائزة العالمية للرواية العربية 2023، والتي جرى الإعلان عن نتائجها في احتفالية نظمت في أبوظبي 21 مايو الجاري. هنا إبحار في تغريبة القافر وأسطورتها المائية؛ بقلم عماد الدين موسى:

….

يغرف زهران القاسمي في روايته « تغريبة القافر » من المخيلة الجمعية للعُمانيين، ليكشف عن سبب الألم، وهي مخيلة إنسانية مُشتركة مع الآخر، ثمَّة عالَم علوي وعالَم سفلي – العالَم السفلي ومخلوقاته؛ جنياته، ساحراته، هي ما يحرِّك أحداث الرواية، عالمٌ يباغت مريم بنت حَمد ودّْ غانم حتى في أحلامها، وقد سبَّب لها من الآلام التي لا تفارقها وما لا تطيقه: ظلَّ الحُلمُ ذاته يتكرَّر كلَّ ليلةٍ فتصحو ورأسُها يكاد يتهشَّم، ولا تكاد تقوى على حمله، ثمَّ لاحظت أنَّ صداعها يخفُّ إذا أغمضت عينيها، وعندما نزلت مرَّة إلى حوض الماء بجانب البئر وغاصت تحت الماء لاحظت أنَّ الصداع اختفى، لكنَّه كان يزداد كلَّما جلست إلى خياطتها، فتحوَّلت اليدُ التي كانت سريعة ومتقنة إلى يد بطيئة وضائعة في أشهر الحمل.

هكذا تبدأ رواية « تغريبة القافر » الصادرة عن دار مسكيلياني في تونس 2021؛ بسقوط مريم بنت حَمد ودّْ غانم زوجة عبد الله بن جميل في البئر مع صوت المنادي وهو يصيح: غريقة…غريقة. تسقط مريم وفي رحمها جنينٌ، تسقط وقد داهمها فعل اغتصاب الوعي، وعيها؛ فلا هي عاقلة ولا هي مجنونة، ألمٌ فظيع، وكأنَّ قوّة قهرية لا تعرف مصدرها تغتصب وعيها بالوجود فتسبِّب لها الآلام.

ثمَّة سِرّ في الماء، وكأنَّ قوى جهنمية تسكنه، تحرِّك الصراع في الرواية، قوى على جهنميتها وخلخلتها للمعرفة والحقائق العلمية وخصوصيتها في المكان والزمان الحكائي، إنَّما يصيِّرها زهران القاسمي لخلق التوازن النفسي بينها وبين شخصياته. فالماء لا يفارق مريم حتى وهي في الطريق إلى المقبرة: ما إنْ مشت جنازتها في الدَّربِ الضيِّق الطّويل، حتَّى بدأت السماء تصبُّ على الرؤوس مطراً ناعماً استمرَّ يُرطِّب المكان والوجوه. ماءٌ يلاحق مريم، لا يكفي أنَّه سَكَّن أَلَمَها- كمن كان يدسُّ السُمَّ بالعسل، فيُغريها، إذْ كانت كمن يسمعُ صوت الماء وهو يناديها: «تعالي تعالي» فيشدُّها وتسقط في البئر، وتموت غرقاً، بل إنَّه بعد ذلك وقد ماتت سيودِّعها: حُملت الجثَّة وأُنزِلت ببطء، وزاد انهمارُ المطر فكادت تُفلتُ من أيدي حامليها، وما عادوا يستطيعون الرؤية، وكأنَّ السماء قد اندلقت بحراً على المكان في تلك السَّاعة. هل كان الماء يعتذرُ منها، أم إنَّه لمَّا كادت تفلت من أيدي مودِّعيها إلى القبر كان يبعثُ فيها الروح ولكنَّ أهلَها ومُشيِّعيها لم يفطنوا لذلك لاعتقادهم أنَّ مَنْ يموت لا يحيا، وهي التي لمَّا غرقت/ ماتت، قامت خالتها عايشة بنت مبروك وصارت تصيح أنَّ في بطن بنت أختها جنينٌ حيّْ، فيما الشيخ حامد بن علي يأمر بدفنها مع الجنين؛ ويجيئه من يعترض: إذ كيف تدفن إنساناً حيَّاً في التراب وتحكم عليه بالموت وتقول شرع؟ وإذا بكاذية بنت غانم تشقُّ بطنَ الغريقة وتُخرِجُ الجنينَ حياً، وحين تسمع صوت بكائه تردِّد كاذية والدموع تملأ عينيها: يُخرِجُ الحيَّ من الميِّتْ، والذي سيكون اسمه سالم ابن مريم وعبد الله بن جميل.

يأخذنا الروائي زهران القاسمي في روايته « تغريبة القافر »، حيث يخلط العجائبي والغرائبي بالواقعي، حكايات مشوِّقة، ينزل ويصعد من العالم العلوي إلى السفلي وشياطينه وغِيلانه ووحوشه التي يعتقد بها الناس، ولكنَّه لا يُسلِّم بها، حتى الرياح والعواصف والزلازل وهيجان المياه فإنَّها ليست من غضب السماء، إنَّما هي ظاهرة طبيعية، زهران مع ذلك يحفر ويغوص عميقاً في الاتكاء على هذه الظواهر كسندٍ لتقوية الدراما / الصراع، ذلك لأنَّ عهد التخريف قد انتهى مع قيام الفكر العلمي بالتصدي لهذه الظواهر، ولكنَّه الروائي الذي يُفَرْجي قارئه كيمياء الأساطير التي تفسِّر الحياة وتسيِّر الناس على هواها.

سالم الطفل ابن الغريقة سيُلصق أذنه بالأرض كأن أحداً يناديه من الأعماق، ثمَّ يصيح: ماي ماي. وتخاف عليه آسيا من المَسِّ والمرض. وقد صار الناس يتحاشونه، كأنَّ فيه مسٌّ من جن، ولمَّا يكبر ويتزوَّج من نصرا، والتي لمَّا رآها أوَّل مرَّة وهي صغيرة مع أمِّها في بيت كاذية بنت غانم: سكنت في داخله مثل سكون الينابيع في قلب الحجر. وسيُلقَّب بـ «القافر» لموهبته في اقتفاء أثر الماء، تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية، لكنه يختفي بعد زواجه بنصرا، فيُقال لها إنَّ أهل الأرض السفلية أخذوه من الفَلَج (الجمع أفلاج؛ قنوات تعبر بالماء من الجوف إلى السطح)، وقيَّدوه في بلادهم حيث لا موت ولا حياة. ولمّا يطول اختفاء سالم ابن الغريقة، سنرى أهل نصرا يطالبونها بالزواج، فهي في حلٍّ منه، ولتعتد؛ أي تدخل في العدة كأرملة، فترفض، وتقوم بغزل الصوف، وتسمِّي كلَّ خيطٍ باسم واحدٍ من الأفلاج التي دخلها زوجها سالم، ولا تنتهي الخيوط التي تغزلها، وكانت ترد على منتقديها بأنَّ العدَّة طالت بالقول: من يقولْ لي المغزل خَلْصتْ، تكون عدَّتي خلصت، وأكون أنا جاهزة- والمغزل لن يخلص.

تُعيدنا الرواية إلى الأجواء السحرية، وإلى تلك العوالم السفلية عن اللصَّة الجنيَّة الخفية، والقاتِلة الصامتة التي كانت تشغل الحياة الاجتماعية للناس. إلاَّ أنَّ الروائي زهران القاسمي يمزِّق هذه العوالم ويخترقها ويحوِّلها إلى عوالم ساحرة، إلى أرضٍ لتخصيب الحياة، فما من ماءٍ في الأرض إلاَّ ويُجذَب سالم إليه، هو الذي ارتبطت حياته منذ الولادة بالماء، أمّه الغريقة، والده الذي طُمر تحت قناة أحد الأفلاج -هذا غير ماء السماء؛ والذي يجذب إليه الروائي أيضاً، ويتجاذبه مع القافر سالم وكأنّ «أناهيد Anahita» الربَّة العظيمة للمياه هي من يسكن الرواية ويحرِّك أحداثها.

الشاعر والروائي العُماني زهران القاسمي

تغريبة القافر

زهران القاسمي في رواية « تغريبة القافر » يفتح ويغرف حكاياته من خزَّان المعتقدات الإنسانية؛ من الفكر الفولكلوري الذي يتداوى بالتعاويذ والرقى، ويؤمن، ويُدافع عن واقعية الأسطورة، ومن ثمَّ يُفسِّر الروائي ما كان سحراً وأسراراً تفسيراً عقلياً.   

خاص قناص – عروض كتب

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى