حاورته هدى فخر الدين في مجلة الميشيغن كورتارلي ريفيو*
ملاحظة: هذا الحوار نُشر على جزءين في الميشيغن كورتارلي ريفيو بتاريخ 25/06/2022 و 1/07/2022، تترجم قنّاص هنا الجزء الأول، وسوف يليه الجزء الثاني في الأيام القادمة.
__
أدونيس هو الاسم المستعار الذي اعتمده علي أحمد سعيد إسبر. من مواليد عام 1930 في قرية قصابين السورية، عرف البالغ من العمر 13 عامًا أن قدره أن يصبح شاعراً. عندما سمع أن الرئيس شكري القوتلي كان قادمًا للزيارة، سافر سيرًا على الأقدام إلى البلدة المجاورة لإلقاء قصيدة. بأعجوبة، انتهى به الأمر بقراءة قصيدته للرئيس الذي وعده في المقابل بالتعليم. المستحيل دائمًا في متناول اليد في قصة حياة أدونيس.
انتقل إلى دمشق ثم إلى بيروت حيث أسّس مجلة شعر، التي كانت منبرا لبعض الأفكار والمواقف الأكثر راديكالية في مشروع الحداثة العربية في القرن العشرين. يُجَسّر أدونيس دائمًا بين القديم والجديد، بين التقاليد والطليعية، ويكون على حدود التغيير والجدل. ألّف قائمة طويلة من المجموعات الشعرية التي يُغازل فيها الأشكال العربية ويَكْسر قوالبها لبناء قصيدة دائمة التطور. بعض هذه العناوين هي أغاني مهيار الدمشقي، وقت بين الرماد والورد، كونشيرتو القدس، وغيرها التي لم تترجم بعد مثل مفرد بصيغة الجمع والكتاب أمس المكان الآن. مساهمته في النقد والنظرية الشعرية في اللغة العربية هي مساهمة شاعر يعيد تَخيّل الكلاسيكي باستمرار على أنه جديد. ديوان الشعر العربي (1964-1968) هو قراءته الشخصية في هذا التراث مُصنفاً فيه مختارات من الشعر العربي من عصور ما قبل الإسلام إلى بداية القرن العشرين. كتابه «الثابت والمتحول» (1974) هو رواية للتاريخ الأدبي والثقافي العربي من الداخل إلى الخارج. رواية تضجّ بأصوات مهمشة وموصومة ومُصْمتة تاريخياً، ويَخْلص فيه إلى أن ما يدفع أي تراث إلى الأمام ويبقيه على قيد الحياة هو الأصوات التخريبية التي تتحداه باستمرار وتهدد مؤسساته.
سافرتُ إلى بيروت في صيف عام 2019 للقاء أدونيس. وفي كل عام تستعد بيروت للصيف ببعض الأمل والكثير من الترقب. كان الجو في عام 2019 مليئًا بالاحتمالات بخلاف الحرب من أجل التغيير. نزل الشباب اللبناني من مختلف أطياف وفصائل المجتمع اللبناني إلى الشوارع. ما هو غالبًا وقود للحرب الأهلية كان في تلك اللحظة خلاصًا محتملاً، تَحقّقاً لبلد يتخلص أخيرًا من جلده القديم المتحلل.
مشهد لم نعتقد أنه ممكن أبدًا كان يتشكل. لطالما وجد لبنان طريقة لمناورة التغيير دون تغيير حقيقي. لم يخطر ببال أحد أن ثورة ما يمكن أن تحدث في بيروت، في مدينة تفتخر بأنها دائما في ثورة، بأنها دائما ثورة. إنها مدينة لم تأخذ طُغاتها على محمل الجد. الغفلة والسخرية والاستثنائية المتخيلة هي طريقة اللبنانيين المعتادة في المقاومة وليس الحراك الحقيقي في الشارع. كل ذلك كان على وشك التغيير في عام 2019. كانت هناك ثورة حقيقية تستعد للخروج إلى الشوارع، وكنت هناك للقاء أدونيس، الذي نصّب نفسه ثائراً أبداً واتخذ من بيروت نقطة انطلاقه، وولادته الثانية.
منزل أدونيس في بيروت عبارة عن شقة تقع على الجانب الآخر من شارع مبنى العلوم الإنسانية التابع للجامعة اللبنانية، وهما مبنيان سكنيان يضمان قسم الأدب العربي منذ عام 1959. دَرَّس أدونيس في هذا القسم لأربعة عشر عامًا قبل إجباره على الخروج بسبب ما وُصف أنه تأثيره التخريبي على الطلاب. عندما عبر الشارع عائداً إلى شقته للمرة الأخيرة، تبعه طلابه. استمروا في التجمع في غرفة معيشته وظلوا تلاميذه المخلصين. صعدتُ الدرج بقلق. كنت على علم بأن شيئاً ما يختمر في قلب مدينة، على أعتاب بداية جديدة، نهاية جديدة. علمت أيضًا أن حواراً مع أدونيس كان لا بد أن يكون حواراً على حافة اختراق أو توتر، على تخوم الكشف أو خيبة الأمل.
قضينا تقريبا ست ساعات على مدار يومين نتحدث. كان متفائلاً وخائفا، حزيناً وحاسما. كان سعيداً لأن بيروت كانت تتحرك أخيرا، لكنه قلق من أن قلبها قد ينكسر. بيروت هي المكان الذي يتم فيه تخيل المشاريع وإطلاقها، حيث تمتلك الأحلام إمكانية، حتى لو لم تتحقق دائمًا، على تهديد الثابت والمؤسَّس في الحياة العربية، على زعزعته، واستحضار الجديد والحيوي والخلاق. كان من الممكن أن تكون بيروت الثورة التي أمضى أدونيس حياته في تخيلها والتنظير لها. ومع ذلك، لم يكن بمقدوري ولا أدونيس تخيل ما سيحدث بعد ذلك: الانفجار الذي حدث في 4 أغسطس 2020، الذي دمّر قلب المدينة وقتلنا وأحلامنا في بيروت جميعا. بعدها ظل أدونيس متفائلاً كما لو أنه رأى كل هذا من قبل. في كل مرة تحدثنا فيها، وبدا العالم وكأنه ينتهي، كان مشغولاً، إما أنه يتذكر نفسه أو يعيد تشكيلها. كان يكتب مذكرات حياته في النثر والشعر. لا يزال النثر في طور الكتابة، أما الشعر فقد نشر في مجموعة بعنوان «الأدونيادا»، نُشرت أولاً في ترجمة فرنسية في مارس 2021 وتبعتها النسخة العربية في مارس 2022.
واصلنا حديثنا افتراضياً، بالتلفون والزوم، بعد انتشار الوباء وتوقف العالم في عام 2020. من طفولته في ريف سوريا إلى الصدف المذهلة التي أطلقت رحلته الشعرية والفكرية، حياة أدونيس عبارة عن سلسلة من المشاريع المفتوحة، عالم يبدأ ويبدأ من جديد. لقد صاغ لغة داخل اللغة، وتخيل وقتًا موازيًا للوقت، واخترع أسطورة عن نفسه لا يزال ملتزمًا بتحقيقها. الشاعر البالغ من العمر 93 عامًا لا يزال يبحث عن قصيدته ويستعد لبدء رحلته.
ــــــــــــــ
*هدى فخر الدين: ها نحن في بيروت مدينة الولادة الثانية كما وصفتها. كيف أثر وجودك في بيروت على كتاباتك؟
أدونيس: لقد قلت من قبل أنني ولدت ثلاث مرات. ولادتي الأولى كانت في القرية. كانت تلك هي الولادة الطبيعية التي لم يكن لدي خيار فيها. كانت الولادة الثانية في بيروت، مما سمح لي بالانتقال إلى مناخ حضري بكل صلاته وتوتراته. وبيروت ليست مدينة كاملة كما هي دمشق أو القاهرة، فهي تُشعرك بأنها مشروع مفتوح، عمل يتطور. وآمل حقًا أن تظل كذلك، مشروعًا مفتوحًا لجميع العناصر والتيارات والاتجاهات. آمل أيضًا أن يظل المزيج الثقافي الذي نتحدث عنه حاضرًا ومتجذرًا في بيروت. ولدت للمرة الثالثة في باريس. استقبلتني باريس واستقبلت عملي بأذرع مفتوحة وسأظل ممتنًا إلى الأبد على كرم ضيافتها.
*كيف هي العودة الى بيروت؟
أدونيس: العودة إلى بيروت ليست ضرورية فحسب، بل مُثرية أيضًا، خاصة وأنني اعتدت على حياة أسهل. المجيء إلى هنا أمر مزعج وضروري. الحياة هنا صعبة وتزداد صعوبة بمرور الوقت. هناك حُجُب فوق حجب. العودة إلى بيروت مهمة لأنها تضعني في قلب المشاكل. والشاعر يجب أن يبقى على اتصال بقلب المشاكل. لأنه إذا كان الشعر شكلاً من أشكال الوعي وشكلا من أشكال التعبير، فهو بالضرورة شكل من أشكال النشاط السياسي. هذا البعد السياسي للشعر في المجتمع يختلف اختلافًا جوهريًا عن حضوره الأيديولوجي. تقود الأيديولوجيا الشاعر إلى أفكار مسبقة وكل ما يتم تصوره مسبقًا هو ضد الشعر. هذا هو السبب في أنني عارضت دائمًا الالتزام السياسي الأيديولوجي. إنها ليست ضد الشعر فقط، بل هي ضد الحياة نفسها. مثل هذا الالتزام يحول الشعر إلى حجاب بينما الشعر هو الشكل الأكثر مباشرة وحرية للكشف والاكتشاف.
*هل علاقتك بالمدن تنعكس في شكل القصيدة التي تكتبها؟
أدونيس: المدينة شكل يُسهل التواصل، شكل متعدد يثري الرؤية. وبمجرد إثراء الرؤية وتَحدّيها، يتم تعميق البصيرة معها. المدينة عبارة عن شبكة والقرية عش. المدينة عبارة عن سطح وعمق في نفس الوقت بينما القرية مجرد مستوى أفقي. إنْ كان هناك عمق في القرية، فهو عمق فردي مرتبط بطفولة الفرد أو تاريخه الشخصي، وليس بعمق موضوعي. المدينة هي مشروع جماعي بينما يعمل كل فرد في القرية بمفرده، والتجارب المشتركة الوحيدة هي الولادة والموت والزواج والطقوس المرتبطة بهذه المناسبات. لا تقدم القرية ما هو مشترك على المستوى الإبداعي. المدينة عميقة وامتداد في نفس الوقت. إنها أيضًا أفق يتغير باستمرار. وبالتالي تواجه المدن الحقيقية تحديًا يوقظ الحاجة إلى المنافسة وإثبات الذات. المدينة بالنسبة لي هي استفزاز على المعرفة، وعلى مطاردة أفق جديد للمعرفة. المدينة منفتحة على قراءات مختلفة ومتنوعة.
*لكنك نشأت في قرية، أخبرنا عن طفولتك.
أدونيس: نشأت في قرية قصابين، بيئة خاصة للغاية. لم تندرج ضمن النسيج الثقافي النظامي لسوريا في ذلك الوقت أو الثقافة العربية حينها.
*كيف ذلك؟
أدونيس: ولدت في قرية فقيرة صغيرة ليس فيها مدرسة ولا كهرباء ولا سيارة واحدة. رأيت سيارة لأول مرة في حياتي عندما كنت في الثالثة عشر من عمري.
كانت ثقافتنا، الثقافة العلوية، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأرض – بالزراعة، والحياة الجبلية. وكان تاريخنا مليئًا بالأهوال – كنا طائفة دينية راديكالية ضد الشيعة. غالبًا ما ينتقد العلويون الشيعة، متهمين إياهم بالعمل على إرضاء السلطة، والخضوع للأنظمة الحاكمة التي رفضها العلويون تاريخيًا. العلويون متمردون، عبر تاريخهم الطويل، تمَّت مطاردتهم واضطهادهم. حتى يومنا هذا، هم مزارعون حتى النخاع.
ما فعله البعثيون، الذين يسمون أنفسهم علمانيين، منذ وصولهم إلى السلطة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، هو تدمير علاقة العلويين بالأرض التي عاشوا عليها ولم يتم بناء أي شيء حضري أو متطور ليحل محله. لم يكن لديهم مدارس أو مستشفيات أو طرق. باختصار تم تجريدهم من الحياة.
*هل لديك أخوه؟ هل ذهب أي منهم إلى المدرسة؟
أدونيس: لدي ثلاثة أشقاء وشقيقتان. توفيت أختي ليلى، أختي فاطمة رسامة لامعة ومشهورة. كلهم حصلوا على تعليم، كان الأمر أسهل بالنسبة لهم لأنهم كانوا أصغر سناً، وبحلول الوقت الذي ذهبوا فيه إلى المدرسة، كان هناك المزيد من المدارس وكانت الأمور أسهل مما كانت عليه في صغري.
*ما هو الدور الذي لعبته والدتك في حياتك المبكرة؟
أدونيس: لم تكن والدتي تعرف القراءة أو الكتابة. كانت علاقتي معها بمثابة علاقة مع كائن عضوي – شجرة جميلة، نبع بعيد. في بعض الأحيان كانت تبدو وكأنها نجمة. كان لدينا اتصال طبيعي، وليس من خلال التعليم والثقافة. شعرت كأنني امتداد لجسدها، لأحلامها، ويديها، وعقلها، ورأسها. كان والدي هو العكس – الفكر، والشعر واللغة. علمني والدي قراءة الشعر العربي. كان يطلب مني أن أقرأ المتنبي على سبيل المثال، وكان للمتنبي أعلى درجات التقدير. يطلب مني نطق النص، وإعراب كل كلمة. بحلول الوقت الذي بلغت فيه الثانية عشرة من عمري، لم تكن هناك كلمة واحدة في اللغة العربية لم أكن أعرف كيف أعربها نحويًا. كان القدماء مفتونون بالإعراب، وكنت كذلك عندما كنت طفلاً في القرية. كنت معجزة في اللغة العربية.
*ما علاقتك باسم أدونيس بعد كل هذا الوقت؟
أدونيس: أنا أحبه، خاصة وأن والدتي تخلت عن اسم علي وتبنته. كانت تناديني بأدونيس. كانت أميّة، لكن غريزيًا تبنّت أدونيس كاسم لي. إنه اسمي العالمي، وهو يتجاوز اللغات والثقافات والأديان. إنه ارتباط عضوي بالكون، وليس بشعب واحد أو بأرض واحدة أو بثقافة واحدة.
أدونيس مع أمه؛ حَسْناء
Courtesy Archives Arwad Esber
*ماذا كان يعمل والدك؟
أدونيس: والدي لم يعمل حقًا. كان مزارعًا، لكنه لم يقم بالعمل بنفسه. لقد أجّرَ الأرض التي ورثها، وكنا نعيش على الدخل. لقد كان متعلماً ذاتيًا. علم نفسه كل ما يعرفه وخاصة الشعر العربي.
*من أين أتى حبه للشعر؟ هل كان اهتمامه باللغة والشعر غير معتاد في سياقه؟
أدونيس: نعم، لقد كان استثنائيًا إلى حد ما في سياقه. كان جيله من جيل خرج لتوه من تحت الحكم العثماني و «مشروع التتريك». بالنسبة لهم، كانت علاقتهم بالقرآن وبالأدب العربي وبالأخص الشعر العربي وسيلة لتأكيد هويتهم ولهذا السبب كان لديه هذا التفاني الخاص للغة العربية والشعر العربي.
*هل كان متدينا؟
أدونيس: كان متدينًا، لكنه لم يتحدث معي أبدًا عن الدين. لم يفرضه عليَّ قط. كانت له مكانة خاصة في مجتمعنا، وصفه الناس بالشيخ كدليل على الاحترام والمكانة الاجتماعية وليس على المكانة الدينية.
*ما أسباب علاقته الفريدة بالدين؟
أدونيس: لا أعلم، إنه لغز بالنسبة لي. لكن إذا كنت سأحاول تفسيرًا الآن، أعتقد أن له علاقة بانتمائنا إلى أقلية في الإسلام. العلويون، الذين يبجلون الإمام علي، هم طائفة ثانوية ومتطرفة من الشيعة. تاريخياً، دفعوا ثمن ذلك، ورغم الاضطهاد حافظوا على هويتهم وعلاقتهم الخاصة بشخصية علي. وهم معروفون أيضًا باهتمامهم الكبير بالتعلم والتعليم. لقد عوضوا عن فقرهم واضطهادهم بالتعليم واهتمامهم الخاص بالشعر.
لم يفرض والدي إيمانه عليَّ قط ، لكنه أصر على أن أتقن اللغة العربية وأن أتعلم الشعر. لم يجبرني أبدًا على فعل أي شيء وشجعني دائمًا على اتخاذ خياراتي الخاصة. أفكر ثم أتخذ قراراتي الخاصة.
*ما هي الأصوات الأخرى التي أغرتك بالكتابة؟
أدونيس: استطعت أن أميّز مبكراً بين الشعراء الذين كتبوا لأنهم ذهبوا حقًا للكتابة، وبين الذين استخدموا الشعر لأغراض خارجية: للمدح، والهجاء، والمراثي. انجذبت إلى أولئك الذين كتبوا الشعر لذاته، مثل أبو نواس وأبو تمام وامرؤ القيس. حرّرني هذا من ثقل القبة الثقافية المشتركة التي وضع الإجماع تحتها ما أسماه بالتقاليد.
*كيف أمكنك التمييز بينهم في تلك السن المبكرة؟
أدونيس: انقسم الشعراء إلى مجموعات، شعراء المديح، وشعراء الهجاء، وشعراء المراثي، إلخ. وجدت نفسي منذ سن مبكرة أقاوم هذه الفئات وأبحث عن شعراء لم يقعوا ضمنها. كما أنني لم أرفض شعراء هذه الفئات تمامًا، لقد بحثت في أعمالهم عما يُخالف الاجماع المفروض تاريخيًا. لقد استمتعت بالشعر الذي لم يكن مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هو بالأساس ظاهرة فنية أو جمالية، وهذا ينطبق أيضًا على الشعر الحديث والمعاصر. شعراء المديح في العصر الحديث هم الذين يحتفلون بالإيديولوجيات والأفكار التي ينتمون إليها، وشعراء الهجاء هم الذين يهاجمون أفكار الآخرين وأيديولوجياتهم.
*متى بدأت بقراءة الشعر المعاصر؟ من قرأت؟
أدونيس: في الجامعة. مررت بمرحلة التقليد. قلدت بعض كبار شعراء العصر، وخاصة اللبنانيين مثل سعيد عقل وبدوي الجبل كشاعر كلاسيكي. كان نزار قباني اسماً كبيراً أيضاً. لم يكن الشعر الحديث مؤثراً في تَشكُّلي كما كان التراث العربي، لكنني كنت على دراية ببعض الأسماء الكبيرة.
*هل كتبت يوماً الشعر في خدمة الأيديولوجيا عندما كنت عضوًا في الحزب السوري القومي الاجتماعي؟
أدونيس: لا، وهذا هو سبب عدم تميزي في الحزب بوصفي شاعرًا. كنت دائمًا شاعراً فردانياً أهتم بالقضايا الشخصية مثل الحب واليأس والطبيعة وما إلى ذلك.
انجذبت إلى الشعراء الذين تحدثوا عن أنفسهم. لا يوجد شخصان لهما نفس الأحلام. والشعر يأتي من سياق الحلم والجسد وليس من الأفكار. لا يوجد شعر بدون أفكار، لكن هذه الأفكار تأتي عبر الجسد، الجسد الفردي المستقل عن الآخرين. يولد الشعر بمفرده ثم يصبح نقطة تقاطع أو لقاء مع الآخرين.
*لقد كررتَ هذا مرارا – أن الكتابة الحقيقية تنبع من الجسد.
أدونيس: نعم؛
*إذن لابد وأنّ والدتك كان لها بعض التأثير على عملك.
أدونيس: كل شيء «خاص» يأتي من والدتي، وكل شيء «عالمي» يأتي من والدي. لقد أخذت الفكر والمنطق من جانب والدي ومن أمور أخرى في الحياة، بينما الجسد، والطبيعة، والأجسام، والعواطف، والمشاعر – تأتي من والدتي.
*ماذا تتذكر من بدايات تَعرُّفِك بالثقافة الرسمية والتعليم العام؟
أدونيس: تقريباً في عام 1943، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، نالت سوريا استقلالها وعينت أول رئيس لها، شكري القوتلي. كنت جالسًا تحت شجرة – ربما كانت شجرة زيتون – عندما سمعت أن الرئيس قادم لزيارة منطقتنا. كنت على علم بعلاقة الرعاية القديمة التي يوُفرها الخلفاء للشعراء. أقسمت أن أكتب قصيدة للقوتلي وأقرأها عليه. كنت واثقًا من أنه سيحب ذلك ويتيح لي فرصة الذهاب إلى المدرسة.
*هل تتذكر مطلع القصيدة؟
أدونيس: لسوء الحظ لا. لقد نسيتها تماما! أتذكر أنني قرأت القصيدة لوالدي أولاً. حدق بي متفاجئا. سألته عن رأيه. قال: «انظر، لن أوقفك، لكن لا يمكنني حضور هذا الاحتفال الذي ينظمه المسؤول المحلي. فقد كان والدي «ضد هذا الرجل الذي قال إنه إقطاعي».
ارتديت القمباز، رداء الفلاحين التقليدي، وزوجًا من الأحذية البالية. خرجتُ في المطر الغزير. عندما وصلت إلى مكان حفل الاستقبال الرئاسي، اقترب مني الزعيم المحلي، الإقطاعي الذي لم يكن والدي يحترمه. سأل: من هذا الطفل؟ أجاب الناس «هذا ابن فلان». قال «أخرجوه من هنا! لا أريد رؤيته». فَتمّ اصطحابي للخارج.
قررت أن أتوجه إلى المدينة، التي لم تكن بعيدة، وألتقي بالرئيس هناك. لكن عندما وصلت، لم أكن متأكداً مع من أتحدث. رأيت لافتة كبيرة كتب عليها «مختار جبلة يرحب بفخامة الرئيس»، فذهبت لرؤية المختار. كنت غارقاً تمامًا في الوحل. لن أنسى اسم المختار ياسين علاء الدين، أحبَّ الشعر، وخاصة الشعر العربي الكلاسيكي، وسمح لي بقراءة القصيدة عليه، ثم قال لي أن عليّ أن أُلقيها على الرئيس.
أرسلني إلى قصر الوالي، حيث اجتمع الوالي ومسؤولون آخرون. طلبوا مني قراءة القصيدة، ففعلت. كانوا سعداء جدا. . طلبوا مني أن أنزل إلى الطابق السفلي وانتظر حتى ينادوني. عندما وصل الرئيس، حصل كل مسؤول على دوره في استقباله، ونسي الجميع أمري. في اللحظة التي صعد فيها الرئيس إلى المنصة التي تطل على الساحة العامة لإلقاء خطابه، لاحظني أحد المسؤولين. سألني بجدية شديدة لماذا لم أقرأ القصيدة؟ قلت له إنني لا أعرف. ما زلت أتذكر وجهه، وهو غاضب وأحمر عندما بدأ يُقسم: «هذا الكلب! هذا المحتال! هذا خطأ الوالي». أخذني من ذراعي، وصرخ بصوت عالٍ قدر استطاعته «أيها السادة! أيها الحضور! فخامتك!» صمت الجميع. «هذا الصبي الصغير الذي جاء من قرية في الجبال هو هنا لتقديم التحيات نيابة عن سكان القرى الجبلية. من فضلك اسمع ما سيقوله!». حملني الرجل ووضعني أمام المنصة المواجهة لحشد الناس في الساحة العامة. ألقيت القصيدة. انفعلَ الحشد. وماذا فعل الرئيس؟ كرر نهاية البيت الأخير: «أنت سيف ونحن غِمده». ثم التفت إلى الحشد وقال «كما قال هذا الطفل، لا أستطيع أن أفعل شيئًا بدونكم جميعًا».
بعد أن انتهى الرئيس من الكلام، سألني واضعاً يده على كتفي وقال: «يا بني، كان ذلك رائعًا. هل هناك شيء يمكننا القيام به من أجلك؟» أخبرته أنني أريد الذهاب إلى المدرسة. قال: «تَمَّ هذا؛ أنت ذاهب إلى المدرسة». بعد حوالي أسبوع، جاء ضابطا شرطة إلى منزلي ليخبراني بأن والي طرطوس لديه تعليمات لي بالبدء في المدرسة. قلت: ما هي طرطوس؟ كانت طرطوس مدينة تبعد ساعة ونصف بالسيارة. كانت فيها آخر مدرسة فرنسية في سوريا، Lycée Français، مدرسة للنخبة البرجوازية. ركبت الحافلة لأول مرة في حياتي. اعتقدت أنني كنت متجهًا إلى الفضاء الخارجي. وصلت إلى هناك وما زلت أرتدي القمباز.
*كانت هذه بداية تعليمك باللغة الفرنسية. وهل واصلت دراستك للشعر العربي؟
أدونيس: لم يكن هناك الكثير من الفرص في تلك المدرسة لأن معظم المواد قُدمت باللغة الفرنسية. كانوا أحيانًا يعطون درسًا باللغة العربية وقد تفوقت في ذلك. كنت أتجادل مع أساتذتي وأناقشهم حول مواضيع كنت على دراية بها. لقد احترموا المواقف التي كنت أتخذها، وقمت بتطوير علاقات هادفة معهم جميعًا. أصبحت شخصية بارزة.
لكن بعد عام، أغلقت الحكومة مدرستنا وفتحت مدارس متوسطة (اعدادية عامة). لم أكن قد حصلت على شهادتي الابتدائية بعد، لكنني أخبرت مدير المدرسة بأنني أريد أن ألتحق بالمدرسة الإعدادية. قال، «هذه ثلاث سنوات من الدراسة وتريد تخطيها كلها؟» قلت له نعم. رفض. فأخبرته أنه لن تكون هناك مدرسة ولا دراسة إذا لم يُسمح لي بالتسجيل.
*هل هَدّدته؟
أدونيس: لقد حشدت الطلاب وأغلقنا المدرسة. بعد أن تراجع وسمح لي بتخطي السنوات الثلاث، عدنا جميعًا إلى المدرسة. لقد كانت ملحمة.
في النهاية، تخرجت من المدرسة الاعدادية بمرتبة الشرف. ووفقًا لسياسة المدرسة، يحصل الطالب الذي يتخرج بمرتبة الشرف على منحة دراسية. لذلك، قلت لنفسي إنني سأذهب لأشكر الرئيس لأنني علمت أن المبلغ الذي أنفقه على تعليمي كان يخرج من خزينة القصر. لماذا يتعين عليه الدفع، طالما أتيحت لي الفرصة لمواصلة تعليمي رسميًا على نفقة الدولة؟ كان حقي. فكتبت رسالة إلى الرئيس أشكره فيها وبأدب قلت له أني لن أحتاج مساعدته بما أن نفقات دراستي تمول الآن من قبل الدولة. فردّ على رسالتي متمنياً لي الأفضل! وهكذا، ذهبت إلى المدرسة الثانوية في اللاذقية ودرست للحصول على الدبلوم.
*حدثني عن علاقتك بالحزب السوري القومي الاجتماعي.
أدونيس: بدأ الأمر برمته عندما كنت في مدرسة الليسيه في طرطوس. كانت الحامية الفرنسية لا تزال متمركزة هناك. ذات يوم رأينا أن بعض الطلاب قد طُردوا. علمنا أن السبب هو أنهم أعضاء في الحزب القومي وقد نظموا احتجاجًا ضد الجيش الفرنسي. لذا، ذهبت أنا وأربعة أو خمسة أصدقاء إلى الحزب وسألناهم عما هم عليه. قالوا لنا إنهم علمانيون ضد الطائفية. لقد تأثرنا حقًا. علاوة على ذلك، كانوا أناسًا أخلاقيين وصادقين وصالحين. كانت علاقاتنا جيدة للغاية، وكنت معجبا بهم؛ كانت هناك صداقة. بعد ذلك، بدأت في كتابة القصائد لاحتجاجاتهم وأصبحت زعيم الوقفات الاحتجاجية.
بدأ الناس في التعرف على اسمي – كان بعض الفتيان حينها يؤلفون بأسلوب تقليدي لكنه تقدمي أيضًا. مكثت معهم حوالي ثلاث أو أربع سنوات. كتبت عن فلسطين. في الواقع، كانت أول قصيدة نشرتها عن فلسطين. كان ذلك في عام 1948 وقت النكبة. كان اسمها «المشردون».
*أين نشرتها؟
أدونيس: نُشرت في جريدة أسبوعية تُدعى الإرشاد في اللاذقية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أستخدم فيها الاسم المستعار أدونيس.
*أخبرنا المزيد عن ذلك؟ من أين أتى اسم أدونيس وكيف اتخذت هذا القرار؟
أدونيس: عندما كنت في المدرسة الثانوية، كنت أكتب باسمي الحقيقي علي أحمد سعيد وأرسل إلى الصحف والمجلات غالباً في لبنان مثل الصياد والأنوار وغيرهما. لم يرد أحد علي ولم ينشر أحد قصائدي. ذات يوم، صادفت أسطورة أدونيس في مجلة في المدرسة. كان هذا هو المكان الذي عرفت فيه لأول مرة عن أدونيس الإله الذي وقعت عشتار في حبه، وتعرّفت على قصة قتاله مع الخنزير البري الذي قتله وسفك دمه الذي يعود كل ربيع عندما تزهر شقائق النعمان ويتحول نهر العاصي في لبنان إلى اللون الأحمر.
لقد انبهرت بهذه القصة، وقلت؛ هذه المجلات التي لا تنشر أعمالي هي خنزير بري. إنهم يحاولون قتلي ولذا سأسمي نفسي أدونيس. كتبت قصيدة «المشردون» ووقعتها باسم أدونيس. نشرتها صحيفة الإرشاد – التي علمتُ لاحقًا أنها كانت متعاطفة جدًا مع الفلسطينيين – في الصفحة الأولى مع ملاحظة تقول: «نطلب من السيد أدونيس زيارة مكتبنا لأمر مهم للغاية».
*طلبوا منك أن تُفصحَ عن نفسك.
أدونيس: نعم. كنت طالباً فقيراً في المدرسة الثانوية. لم أترك انطباعًا مؤثرا. ذهبتُ مباشرة إلى مكاتب الصحيفة. سألني الرجل في مكتب الاستقبال: من أنت وماذا تريد؟ عندما قلت له إنني أدونيس، قام وقال: الآن أنت أدونيس! وأسرع إلى مكتب رئيس التحرير، كانوا جميعًا مندهشين للغاية. أتذكر اسم رئيس التحرير أديب عازار.
*ما علاقتك باسم أدونيس بعد كل هذا الوقت؟
أدونيس: أنا أحبه، خاصة وأن والدتي تخلت عن اسم علي وتبنته. كانت تناديني بأدونيس. كانت أميّة، لكن غريزيًا تبنّت أدونيس كاسم لي. إنه اسمي العالمي، وهو يتجاوز اللغات والثقافات والأديان. إنه ارتباط عضوي بالكون، وليس بشعب واحد أو بأرض واحدة أو بثقافة واحدة.
*ديوانك الشعري الأول دليلة. ما الذي ألْهَمه؟
أدونيس: قرأت الكتاب المقدس ووجدت قصة شمشون ودليلة. لقد تأثرت بشخصية المرأة القوية الماكرة. كتبت عنها قصيدة بطول كتاب. كانت بسيطة وطفولية. نُشر الكتاب في دمشق حوالي عام 1948. كتابي الثاني هو قالت الأرض، نُشر أيضًا في دمشق حوالي عام 1950. فيما بعد قمت باختيارات من هذين العملين وأدرجتها في مجموعة «قصائد أولى» التي نشرها يوسف الخال في بيروت عام 1957، كما تضمنت القصائد الأولى قصيدة «المشردون».
*كان هذا في اللاذقية. كيف كان المشهد الأدبي هناك؟
أدونيس: كانت اللاذقية مركزًا أدبيًا رئيسيًا في ذلك الوقت. لديها أول مجلة شعرية في العالم العربي: القيثارة. نشرت فيما بعد عدة قصائد فيها. الناشرون الذين قدموا لي منصة وشجعوني على الكتابة، كانوا مجموعة من الشعراء والكتاب اللامعين: كمال فوزي الشرابي، وعبد العزيز أرناؤوط، وعيسى علامي. عندما التقيت بهم، علمت أنهم جميعًا مرتبطون بالحزب السوري القومي الاجتماعي، مما شجعني على الانضمام للحزب. لقد انجذبت إلى هذه المجموعة من المثقفين الذين كرسوا أنفسهم لبناء مجتمع علماني غير طائفي ومقاومة القوة الاستعمارية الفرنسية.
*كيف كان رد فعل عائلتك على انضمامك إلى الحزب؟
أدونيس: كان رد فعل والدي رائعًا. قال: «انظر هنا، يا بني. لن أجيب بنعم أو لا. لكن قبل أن تتخذ قرارًا، ادرس واسأل وجرب. خذ وقتك ثم قرر». لم يمنعني، بل شجعني. لسوء الحظ، توفي والدي بعد فترة قصيرة. لم أدرك إلا لاحقًا أنه كان صديقًا أكثر من كونه أبًا.
*متى قابلت أنطوان سعادة؟
أدونيس: كانت المرة الأولى عندما كنت طالباً صغيراً في اللاذقية، لكن اسمي كان معروفًا حينها. لا أتذكر حتى إذا كنا قد تحدثنا. سلمتُ عليه وجلست. كل ما أعرفه عنه أنه يتمتع بشخصية كاريزمية.
التقيت به مرة ثانية عندما دخلت في مسابقة شعرية نظمتها الجامعة الأمريكية في بيروت. أرادوا قصيدة في موضوع اليتم. وكان رئيس اللجنة في ذلك الوقت محمد يوسف نجم. كما كان هناك إحسان عباس من قسم اللغة العربية. عندما سمعت الإعلان، قمت بتأليف قصيدة بعنوان «اليتيم» وأرسلتها بالبريد إلى الجامعة الأمريكية. حصلت على الجائزة الأولى. فطُلب مني الذهاب لرؤية زعيم الحزب. هكذا ذهبت إلى مكتب سعادة واستقبلني هناك. مرة أخرى، شعرت بالذهول. لست متأكدًا حتى من أنني تحدثت معه. لابد أنني كنت في الثامنة عشر أو السابعة عشر من عمري. لقد فتنت به. صدمة خالصة. لقد كان اجتماعاً قصيراً جدا. دون التحدث معه أو إجراء حوار. لا شيء.
بعد ذلك، بدأت في القراءة عن الحزب. ما زلت أؤمن بجوهر فكر أنطوان سعادة: نحن مجتمع ينتمي إلى أرض تسمى سوريا. نحن لا ننتمي إلى طائفة أو عرق أو دين، إلخ. المسيحيون، المسلمون، الأكراد، كل سكان البلاد الذين يعيشون على هذه الأرض ينتمون إلى بعضهم البعض. معا نحن كلنا سوريون. ولأن العرب كانوا الموجة الأخيرة التي وصلت إلى هذا البلد، فقد تم تعريبنا منذ ذلك الحين، ولذا فنحن عرب سوريون. اللغة العربية هي ثقافتنا. وهذا أولا. ثانيًا، نحن منفتحون على بقية العالم. حضارتنا هي حضارة الإغريق والرومان وخاصة السومريين والبابليين والفينيقيين الذين اخترعوا الأبجدية وأسسوا حضارة عظيمة. أما المبدأ الثالث فهو ترجمة مفهوم «الشعب» من خلال فكرة تاريخ طويل من السلالات. كل هذه المبادئ التي ذكرتها تؤكد على «استمرارية تاريخية موحدة» ولهذا السبب لدينا تاريخ مشترك.
*المصدر: