هذا حوار مع ويليام تامبلن، مُترجم «صراخ في ليل طويل» رواية جبرا إبراهيم جبرا التي كتبها في الأصل بالإنجليزية، في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وكانت المخطوطة الأصلية -الانجليزية- قد دمرت عام 2010م في تفجير استهدف السفارة المصرية قبالة منزل عائلة جبرا بشارع الأميرات.
يترجم الزميل عاطف الحاج سعيد هذا الحوار مع ويليام تامبلن، الذي ترجم رواية «صراخ في ليل طويل» من نسختها العربية إلى الانجليزية. وكان الحوار قد نشر في Arablit & Arablit Quarterly، وهي مجلة تعنى بالأدب العربي المترجم.
= = =
كتب الروائي الفلسطيني المحبوب جبرا إبراهيم جبرا (1919م-1994م) رواية “صراخ في ليل طويل” باللغة الإنجليزية وأطلق عليها أسم (Passage in the Silent Night). ووفقاً لما ذكره ويليام تامبلن (William Tamplin) في مقدمته لترجمة الرواية إلى الإنجليزية، التي ظهرت بالأمس من دار (دارف بوكس) تحت عنوان (Cry in a Long Night: And Four Stories)، (صراخ في ليل طويل، وأربع قصص)، فإن هذه الرواية ربما تكون الثانية التي يكتبها جبرا باللغة الإنجليزية، الأولى كانت (Echo and the Pool). لكن جبرا أعاد كتابة الرواية باللغة العربية بين عامي 1952 و1954، ثم نشرها تحت اسم (صراخ في ليل طويل).
واحتفاءً بنشر الرواية في ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، تحدث تامبلن عن “المهمة الخرقاء” المحتملة في القيام بترجمة رواية إلى اللغة الإنجليزية وهي قد كُتبت في الأصل باللغة الإنجليزية، وعن الذي حدث للمسودة الأولى للرواية، وعما جذبه إليها.
ما الذي قادك بصورة شخصية إلى انشاء علاقة مع هذه الرواية وترجمتها في آخر الأمر؟ كيف يغير ذلك من عملية الترجمة وأنت تشعر أن بعض دعائم الرواية – بعض عظامها – قد كتبت في الأصل باللغة الإنجليزية؟ وأنه لو كان الروائي على قيد الحياة، لكان لديه آراء حول ترجمتك؟
ويليام تامبلن: سواء إن كنت سعيدا بذلك أم لا، فإن خوارزميات الشيخ “غوغل” هي التي أوصلتني لهذه الرواية. كنت أبحث عن روايات عربية “رؤيوية” لأكتب أطروحتي عنها، فظهر لي مقال عن الأدب الفلسطيني كتبه ماتيتيهو بيليد (Mattityahu Peled)، وهو جنرال إسرائيلي تحول إلى حمامة سلام وباحث في الأدب العربي. وصف بيليد في مقاله أجواء (صراخ في ليل طويل) بأنها “رؤيوية”، فأصبح بذلك لدي عمل ينبغي القيام به، ثم ما أن شرعت في قراءة الرواية لم أتمكن من التوقف.
ترجم ويليام تامبلن «صراخ في ليل طويل» رواية جبرا إبراهيم جبرا من نسختها العربية إلى الانجليزية.
الصورة: غلاف الطبعة العربية من الرواية (دار الآداب)
في السنوات الأولى التي أعقبت تخرجي كنت أقرأ الكثير من الروايات العربية الحديثة، لكن رواية (صراخ في ليل طويل) كانت مختلفة، لم تكن عاطفية ولا مغرقة في السياسة، وهما مشكلتان واجهتهما في الكثير من الروايات العربية التي كنت أقرأها. كانت (صراخ في ليل طويل) قصة رمزية كتبت ببراعة، أمين سماع، الراوي، كان حميمياً وصادقاً للغاية. إنه شديد الإدراك لذاته، عميق التفكير، متأمل، ومتناقض، ومتأدب. كان بمقدوري أن أسمع أفكاره وتأملاته طوال اليوم، فهو مفكر وكاتب وكان وحيداً. بوصفك طالب دراسات عليا، فأنت تنفق كثيراً من الوقت في الكتابة والتفكير وحيداً، ربما لهذا السبب فقد خاطبتني الرواية بصورة شخصية. كما يعالج أمين، الراوي، الانفصال ويعيد تركيب الأجزاء الممزقة من هويته وشعوره بذاته. عندما بدأت قراءة هذه الرواية لأول مرة كنت أمر بفترة انفصال، لذلك استطعت التواصل معها على أكثر من مستوى.
تسبب علمي بأن الرواية كتبت في الأصل باللغة الإنجليزية بأن أشعر، على الأقل في البداية، بالقلق من أنني سأمضي في “مهمة خرقاء”، فبمجرد العثور على المخطوطة، أينما كانت، فستضيع كل جهودي، هذا ما كنت أفكر فيه، لذا أردت قبل أن أبدأ في الترجمة التأكد من أن النص الأصلي لم يكن موجودا في مكان ما ويستعد للكشف عن نفسه بعد ان أكمل الترجمة. سألت أصدقاء جبرا والعلماء الذين درسوا أعماله، روجيه آلان (Roger Allen) وبشير أبو منة وعيسى بلاطة وكذلك (صادر) نجل جبرا إذا ما كانوا يعلمون شيئاً عن المخطوطة الأصلية فأكدوا لي جميعاً بأن المخطوطة دمرت في العام 2010م عندما فجر تنظيم (القاعدة) السفارة المصرية الواقعة قبالة منزل عائلة جبرا بشارع الأميرات، وتسبب الانفجار في حرق أوراق جبرا أو نهبها لاحقاً.
الترجمة الانجليزية لرواية «صراخ في ليل طويل» التي أنجزها ويليام تامبلن.
الصورة: غلاف الترجمة الإنجليزية من الرواية
إن وجود نسخة أصلية باللغة الإنجليزية في وقت ما في الماضي جعلني بالطبع أتساءل كيف بدا ذلك النص الأصلي (من الممكن أن تنظم سمنارات الترجمة يوماً تطبيقاً تقارن فيه الأصل مع الترجمة والترجمة العكسية)، هل سيبدو النص الأصلي (في اللغة الإنجليزية) مثل نص (Hunters in a Narrow Street) الذي كتبه جبرا باللغة الإنجليزية في الخمسينات من القرن الماضي والذي يغمى على الشخصيات فيه وهي تهتف بحماس “حبيبي”؟ وهل تبدو النسخة الأصلية من “صراخ في ليل طويل” على هذا النحو؟ وهل ينبغي عليّ أن أعيدها عبر الترجمة مستخدماً ذات اللغة؟ أم أنه من حق القراء عليّ أن اترجمها مستخدماً لغة العام 2022م؟
كان سيكون لجبرا آراء حول ترجمتي لو كان على قيد الحياة، وكنت سأتمنى أن أسمعها منه. في مقدمة ترجمتي، كتب روجر آلين أنه بينما كان هو وعدنان حيدر يترجمان روايتين رئيسيتين لـ جبرا – (السفينة) و (البحث عن وليد مسعود) – قرأ جبرا الترجمتين وقارنهما بالأصلين وقدم لهما اقتراحات، ورغم ذلك ترك القرارات بشأن الترجمة الإنجليزية لهما. سأمدح نفسي بأن أظن أنه كان سيسمح لي بنفس الشيء.
كتبت في المقدمة بأن جبرا ذكر بأنه “كتب هذه الرواية باللغة الإنجليزية في القدس في صيف العام 1946م”، وكان هو قد فرّ من المدينة في العام 1948م وانتقل إلى بغداد التي أصبحت موطنه الجديد، ثم ترجمها إلى اللغة العربية خلال الفترة من 1952م إلى 1954م عندما كان يدرس في كامبريدج، ماساتشوستس. ليس لدينا الأصل، لذلك من الصعب الحكم على ذلك. لكن يبدو أنك تشير إلى أن أجزاء مهمة من الرواية قد كُتبت خلال الفترة من 1952م إلى 1954م. هل أوضح جبرا أسباب عدم نشرها في وقتها، وسبب قراره بتحويلها إلى اللغة العربية؟
ويليام تامبلن: قرر جبرا ترجمة روايته ونشرها باللغة العربية لأنه كان يرى أن يتم تحديث العالم العربي أولاً وقبل كل شيء عبر الثقافة (على أن يتبعها عن كثب تحديث سياسي واقتصادي وتكنولوجي)، وهذا موقف محافظ: الثقافة أولاً ثم المؤسسات، (على الرغم من كونه محافظاً إلا أن جبرا كان ليبرالياً في السياسة)، فهو يؤمن بأن التغيير الديمقراطي الليبرالي في المجتمع العربي يجب أن يبدأ بـ “القلم”، كان قد كتب مقالاً بعنوان “لماذا أكتب بالإنجليزية؟” أستعرض فيه الأسباب التي تدفعه لذلك، واستعاد أفكاره في هذا الشأن في مقال بعنوان “الترجمة والنهضة العربية الحديثة”، يوضح جبرا بأنه لا يمكنه المساهمة في التحديث الثقافي للعالم العربي من خلال الكتابة باللغة الإنجليزية، وهي لغة أجنبية، وأنه ينبغي على العرب استخدام لغتهم الخاصة، ينبغي أن يأتي التغيير من الداخل.
أما لماذا لم ينشر جبرا روايته “صراخ في ليل طويل” بعد الانتهاء من كتابتها بوقت قصير فأنا لست متأكداً من الأسباب، افترضت أن جبرا كان مشغولاً بمسائل أكثر إلحاحاً في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات من عمره، كان جبرا قد أصبح لاجئ حرب (وعمره 28 عاماً)، وأمضى السنوات القليلة التالية في البحث عن مسكن وعمل، كان يسعى للحصول على وظيفة في اليونسكو بباريس، وتطلّع لاحقاً لأن يصبح مترجماً في الأمم المتحدة في نيويورك، لكنه لم ينجح في الحصول على أيّ من الوظيفتين. في خريف العام 1948م استقر في مدينة بغداد وحصل على عمل في مجال التدريس (على ما أظن) في ثلاث مؤسسات مختلفة. أتخيل أنه كان يعمل على نحو مرهق، لذلك عند حصوله على زمالة (روكفلر) في جامعة هارفارد للعام الدراسي 1952م-1953م أصبح غير قلق بشأن المال، على الأقل طِوال مدة الزمالة، أتجرأ على التخمين بأن هذه الزمالة وفرت له الوقت والمساحة للعمل على كتاباته وتراجمه، ولهذا السبب خرجت رواية “صراخ في ليل طويل” في العام 1955م وليس في العام 1947م أو 1948م. إنه لأمر مخزٍ أن أقول “أعتقد” و “سأجرؤ على التخمين”؛ لا يزال ثمة الكثير مما لا نعرفه عن سيرة جبرا.
أشك بشدة (لكني لا اعلم) أن أجزاء من الرواية قد تم تأليفها خلال الفترة 1952م-1954م، لا سيما المشهد مع والديّ سمية، اللذين يعارضان تماماً زواجها من أمين ولكنهما في النهاية تقبلا الفكرة خصوصاً بعد هروب العاشقين الصغيرين. لقد هزّ زواج جبرا في العام 1952م من (لميعة برقي العسكري) المجتمع البغدادي، على الرغم من أنه ربما يتحدث مثل لورد إنجليزي، إلا أن جبرا كان لا يزال رجلاً مثيراً للانتباه، فهو مسيحي وفلسطيني وآشوري ولاجئ، أظن ان عائلة (لميعة) كانت تفضل أن تتزوج أبنتها من مسلم عراقي ثري مثلها. يتم استدعاء هذا التوتر في رواية “صراخ في ليل طويل” وفي رواية (Hunters in a Narrow Street) وهي أشبه بالسيرة الذاتية. ظل جبرا أكثر تحفظاً بشأن التوترات العديدة التي أحاطت بزواجه في كتابه (شارع الأميرات- فصول من سيرة ذاتية). لكن في الملاحظات التي دونها جون مارشال (John Marshall) الذي كان يدير قسم العلوم الإنسانية في زمالة روكفلر وأمّن مكاناً لجبرا في هارفارد، فقد تسبب زواج جبرا من (لميعة) بـ “إزعاج” و” استياء عميق” في بغداد في العام 1952م. بالنسبة لجبرا فقد كان من “الأفضل لصحته” أن يغادر المدينة لمدة عام أو عامين. لذا مرة أخرى فإن المشهد في الرواية الذي يعبر عن القلق بشأن قبول أهل زوجته له، كما أتخيل، قد كتب أثناء قيامه بترجمة الرواية من الإنجليزية إلى العربية بعد أنْ غادر المدينة. أنا أضع فرضية كبيرة بأنّ جبرا راجع نص الرواية أثناء ترجمته لها، وعادة ما يراجع الكُتّاب نصوصهم بعد مرور شهور أو سنوات من كتابتها. بالنسبة لجبرا فقد مرت ست سنوات صاخبة بين الانتهاء من كتابة رواية “صراخ في ليل طويل” في العام 1946م وبداية ترجمته لها في العام 1952م، فخلال هذه الفترة هرب من القدس إلى بيت لحم وبيروت ودمشق وبغداد وشغل عدداً من الوظائف، سافر إلى فرنسا صيفاً لدراسة اللغة، وخاض بعض المغامرات الشريرة (فصّلها في كتابه: شارع الأميرات)، وتزوج، وهُجّر نحو 650 ألف من مواطني بلاده، ونظراً لأنه نضج في شخصيته ونضج أدبياً فلا أرى كيف لم يكن بإمكانه إجراء بعض التغييرات هنا وهناك، لكن مثل أشياء كثيرة حول هذه الرواية وعن هذا الرجل، فمن يدري؟!
أي أجزاء من الرواية تبدو أنها وقعت في القدس، وأي منها وقع في بغداد؟ وكيف ستتغير الرواية إذا جاءت هذه الاجزاء في مدينة بلا اسم (مقابل، إذا جرت صراحة في القدس)؟
ويليام تامبلن: لم يرغب جبرا في تخصيص روايته وما تريد قوله. من خلال جعلها تدور في القدس، من خلال ذكر التهديد الصهيوني/الإسرائيلي بالاسم، من خلال تحديد الظروف، كان سيجعلها رواية “فلسطينية” وليست وسيلة تأثير للتحديث الثقافي للعرب، والذي كان، مرة أخرى، يمثل رسالته في الخمسينيات والستينيات. إنه مثل ما قاله مايلز ديفيس (Miles Davis) عن موسيقى الجاز: بمجرد تعريفها، فإنك تَحدّها، ولا يُسمح لها بالتكيف، فتموت في قيدها بلا حول ولا قوة. في رأيي، رواية جبرا الرمزية لذيذة. أنا أعتبر هذه الرواية عملاً فذاً، خاصة لأن الحكايات الرمزية يمكن أن تتحول بسهولة إلى مسرحيات أخلاقية، الشخصيات في الرواية غنية ومعقدة ومتطورة رغم عدم وجود أوقات وتواريخ محددة تؤطرها، كان ينبغي أن تكون رواية عن كل العرب.
وعلى الرغم من أنّ بعض المشاهد الاجتماعية المشحونة، مثل عرض الزواج، ربما حدثت في بغداد، فإن “مدينة” أمين هي 90 أو 95٪ من القدس: بها “مدينة قديمة” بجدران سميكة بناها العثمانيون؛ استعادها صلاح الدين وجيشه، كانت تحكمها لعدة قرون أرستقراطية ناطقة بالتركية ووقعت تحت تأثير محمد علي باشا. إنها مدينة جبلية، مليئة بالحواجز والانفجارات العشوائية، وهي تعج بالبغايا واللصوص، هذه هي القدس قبل عام 1948، قبل نهاية العالم مباشرة.
بعد فترة وجيزة من قراءة هذه الرواية، كنت مهووسًا بتتبع أحداثها في حياة جبرا. بمجرد النزول في حفرة الأرنب تلك، سيصعب الخروج منها. في أحد أيام الصيف في القدس، زرت حي جبرا في القطمون وسرت من هناك إلى فيلا أنطونيوس في الشيخ جرّاح، والتي كنت أظن دائمًا أنها نموذج لقصر عائلة ياسر في (صراخ في ليل طويل). كان جبرا صديقًا وضيفًا متكررًا لكاتي أنطونيوس، أرملة جورج أنطونيوس، التي كانت تقيم حفلات فخمة في القدس في الأربعينيات.
في مسيرتي من منزل إلى آخر، كان من الواضح أن بعض الأشياء قد تغيرت والبعض الآخر لم يتغير. فَرّ جبرا وعائلته من منزلهم بعد أن فجرت الهاغانا فندق سميراميس الواقع أسفل الشارع. عندما زرت الحي، كان موقع سميراميس لا يزال غير مطور ومُحاط، على جوانبه، بسياج متصل بالسلسلة مع قماش القنب غير الشفاف. سألت عامل بناء عربي عن الموقع الذي كان يوجد فيه سميراميس، فأشار إلى الركام. هل كانت تلك هي الآثار الأصلية؟ لا أعلم. لكن التجربة كانت سريالية.
تم تحويل منزل أنطونيوس، الواقع على قمة تل في الشيخ جراح، إلى فندق، ثم تم تدميره جزئيًا لإفساح المجال لتطوير الإسكان قبل بضع سنوات. لقد قرأت مؤخرًا أنه سيصبح كنيسًا يهوديًا. يأخذك الطريق من منزل جبرا إلى فيلا أنطونيوس مباشرة عبر ميدان صهيون، قلب القدس، حيث كانت سينما صهيون موجودة. وفي رواية (صراخ في ليل طويل)، هناك مشهد يمر فيه أمين عبر “قلب المدينة” ليشهد حشدًا من الناس يتدفقون من دار للسينما. قابلت صاحب متجر إسرائيلي قديم بالقرب من ميدان صهيون كانت عائلته تمتلك المتجر منذ ما قبل 1948م؛ وأشار إلى الأرض التي كانت توجد عليها السينما. كان من العجيب السير في هذا الطريق وتخيل أنّ أمين، أو جبرا، يفعل الشيء نفسه في ليل القدس المعتدل قبل 80 عامًا.
لكن بصفتي ناقدًا أدبيًا (وليس معجبًا)، أجتهد لأرتكب خطأ بجانب النقاد الجدد، فأقول: دع النص يروي قصته الخاصة بشكل مستقل عن كاتبه، دعه يصنع عالمه الذاتي المرجعي، علينا على الأقل أن نمنح الفنان تلك الحرية، لأنه في النهاية، أمين ليس جبرا، مهما كانت القواسم المشتركة بينهما. لا أحد من أبطال روايات التخييل الذاتي التي كتبها جبرا هو جبرا نفسه.
الافتتاحية غنية جدًا – الشرطي الذي يحمل بندقية ويتحقق من بطاقة هويته، وتبين أنه شخص يقضي إجازته معه، ثم يتوجه على الفور إلى المقهى، حيث يمسك السرد القارئ من يده ويجره، كما لو عبر الأزقة الضيقة، حول المتاجر والمقاهي المزدحمة على كلا الجانبين. لكن حتى قبل ذلك، يبدأ الأمر بالمرأة: أظافر قدميها المطلية باللون الأحمر، وحذاءها الأنيق، وكلاهما يرفضه. ما رأيك في تلك الفقرة الأولى؟ وبشكل عام، مواقف الشخصيات المشحونة تجاه الشخصيات النسائية في الكتاب؟
ويليام تامبلن: يجب القول أن: الشخصية الرئيسية شوفينية، كارهة للنساء. على الرغم من أنه ليس عذرًا، فقد كان جبرا يكتب في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، عندما لم يكن مسموحًا للمرأة بارتياد العديد من الأماكن الفكرية التي سكنها جبرا في كامبريدج (المملكة المتحدة) والقدس وبغداد وكامبريدج الأخرى (الولايات المتحدة). هذا النوع من الكلام لم يكن مثيرا للدهشة مقارنة بالأوضاع بعد نحو 80 عاما لاحقاً. ومع ذلك، في مرحلة ما، توحي الشخصية الرئيسية، أمين، أنه بسبب فشله في الزواج، فقد أصبح يحتقر كل النساء. من الواضح أن هذا سخيف. لذلك هناك نوع من الاعتراف الضمني بأنه يعلم أن موقفه غير عادل. لكنه لا يصححه. لذلك، أعتقد أن أمين كان سببًا سابقًا: تركته زوجته سمية، والآن هو الديوث يلعق جروحه. إنه رجل لُدغ، رجل تركته زوجته بشكل غير متوقع وجعلته يتجول في “متاهات الماضي المميتة” لمدة عامين كاملين. ولحسن حظ أمين، فقد خرج من تلك المتاهات رجلاً أقوى. لذلك فقد فهمت مواقفه المهينة تجاه النساء على أنها مجرد إسقاط لبؤسه.
بالنسبة للفقرة الأولى، فقد حيرتني دائمًا. الفصل الأول بأكمله عبارة عن خليط من الصور والمشاهد غير المتماسكة. (لطالما شعرت أن خطوات الرواية تتقدم في الفصل الثاني). قد تكون صورة المرأة التي تجرد قدمها من أجله إشارة إلى الدعارة في القدس. تظهر البغايا في وقت لاحق في المقهى وفي ساحة المدينة. أو قد يكون المشهد داخليًا تمامًا في الرواية – يمكن أن تمثل المومس إغراءًا أنثويًا يرفضه بطل الرواية المصمم على أن يكون رجلاً، ليكون غير متأثر بمشاعر النساء وسحرهن وحيلهن. لأنه بعد ذلك مباشرة، قال أمين لنفسه أنه سيتقدم نحو المدينة، نحو “شيء أكثر ملاءمة للرجل”. ما العلاقة بين الذكورة والمدينة، لطالما تساءلت؟ هل هي الفكرة اليونانية القديمة عن البوليس والمجتمع المدني، وكون الإنسان حيوانًا اجتماعيًا (في اليونانية، حرفياً، “حيوان سياسي”) ترتبط طبيعته بطبيعة المدينة (بوليس)؟ ينعكس جبرا على هذه الفكرة في رواية (Hunters in a Narrow Street)، التي نُشرت عام 1959م، لذلك ربما كان يفكر فيها لفترة من الوقت.
يذكرني الشرطي الذي يحمل البندقية بصديق جبرا الإنجليزي الذي أنتهى به الأمر بالخدمة في الجيش البريطاني في فلسطين. يكتب جبرا عن ذلك الصديق، مايكل كلارك، في شارع الأميرات، إحدى سيرتيه الذاتية. في الأيام التي سبقت الحرب الأهلية 1947-48 ثم حرب 1948-49 الإقليمية، تم تقسيم القدس إلى ثلاث مناطق، وأعتقد أن هذه المناطق كانت تحت حراسة الجنود البريطانيين والنواب وكذلك اليهود المحليين والعرب الذين يعملون لصالح إدارة الانتداب البريطاني.
ومع ذلك، فليس من المناسب بالضرورة الاعتماد على الظروف الاجتماعية أو السياسية التي تُكتب فيها الرواية كمفتاح لتفسيرها. إن وجود الشرطي له مغزى كافٍ في سياق الرواية: أمين يتوق إلى التواصل مع صديق قديم، لكن هذا الصديق القديم مشغول جدًا بحيث لا يمكن أن يلتقي به. في سياق الفصل الأول، يمثل لقاءً شخصيًا فاشلاً آخر لأمين، ومحاولة فاشلة أخرى للاتصال. بعد فصول قليلة، وصف بعض أصدقائه، على محمل الجد، أمين بالناسك الذي يعيش على تَلّه دون رفيق سوى طاقمه. ثم في الفقرة الأخيرة – في الواقع، لن أفسدها من أجلك. لكن الأمر يتعلق بالرجل ومدينته.
إذا كنت ستنشئ قائمة تشغيل موسيقية لتتماشى مع الرواية، فماذا ستدرج؟
ويليام تامبلن: لست متأكدًا من مدى أهمية الموسيقى في الرواية. يذكر جبرا الموسيقى، كما يحدث عندما يستمع هو وسمية إلى الغراموفون على الأريكة في رواية (صراخ في ليل طويل). لكني لا أعتقد أن هناك أي ذكر لأغاني أو ملحنين معينين في الرواية. ربما سأقوم بتضمين الأغنية الشعبية “على دلعونة” من قصة “مطربين في الظل” التي غناها صباح فخري. تلمح قصة “الغراموفون” إلى الخراب الشخصي والمالي لأحد الشخصيات لأنه وقع في حب المطربة المصرية الشهيرة “منيرة التركية”، ربما في إشارة إلى المطربة المصرية الفعلية (والمعاصرة) منيرة المهدية.
في الوقت الذي كتب فيه هذه الرواية، كان جبرا مهتمًا بالموسيقى الكلاسيكية الغربية في الغالب: تشايكوفسكي، موسورجسكي، ديبوسي، سوب، بورسيل، موزارت، بيتهوفن، شوبان، فيلد. أسس جبرا “نادي الفنون” في جمعية الشبان المسيحيين في القدس عام 1944م، ويظهر التقرير السنوي مسار النادي والموسيقى والشعر والأفلام التي قدمها النادي. كان لجبرا الكثير من الانتقادات للموسيقى العربية التي طرحها في مقال صحفي بعنوان “الإبداع والمدينة” كتبه عام 1947 للمنبر: كان يعتقد أن الموسيقى العربية عالقة في الماضي، بطيئة الابتكار، الاعتماد فيها بشكل كبير على “شكوى الحبيب” كموضوع.
من الناحية النغمية والأسلوبية، ماذا عن الأصل الذي كنت ترغب في الحصول عليه وإعادة إنشائه في ترجمتك الإنجليزية؟
ويليام تامبلن: الغنائية، مثل نابوكوف وبورجس والعديد من مصممي النثر العظماء، بدأ جبرا كشاعر. قال توفيق الصايغ إن رواية جبرا والقصص القصيرة التي كتبها في مجموعته الأولى “أراك” تشبه القصائد في مدى تماسك الصور وتجانسها. هناك مقاطع في رواية (صراخ في ليل طويل) – عندما يتذكر أمين الليلة الممطرة التي قضاها مع صديق طفولته في المدينة القديمة، عندما يتذكر جنازة في قرية طفولته، عندما قام هو وصديق بزيارة والده الذي كان يعمل في دير – آمل أن أكون قد التقطت منها بعض تلك القصائد الغنائية.
وليام تامبلين هو مترجم مستقل (عربي-إنجليزي) يقيم في شارلوتفيل بفيرجينيا. حصل على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة هارفارد في العام 2020م، حيث كتب أطروحة عن الروايات العربية “الرؤيوية”.
نشر الحوار بتاريخ 30 مايو 2022م، الموقع الأصلي هنا
عاطف الحاج سعيد: مترجم وروائي سوداني.
جبرا ابراهيم جبرا مركزي، نفض الغبار عن أعماله وإعادة قراءته وترجمته سياق أساسي في ثقافتنا المعاصرة
حوار جميل أصدقائي في قناص، سوف أقرأ هذه الرواية المهمة