أرخبيل النصوصجسدُ السرد

قصة قصيرة لـ حمزة الذهبي: خائب الأمل يتحدث

موجز الأخبار: الهجمات الإرهابية، حوادث السير، الزلازل، عمليات القتل، فيضانات، أعاصير، مظاهرات، قنابل مسيلة للدموع... الكارثة نفسها كانت تتكرر أمامي، الدمار نفسه يتجدد كل يوم متخذا ألف شكل وشكل!!

خائب الأمل يتحدث

أيقظني رنين الهاتف، فتحت الخط، كان المتصل إبراهيم وهو خمسيني يملك سُحنة حفاري القبور المتجهمة والمتوعدة دائماً، أعلن بصوته التسلطي بأنه ينتظرني في سيارته التي هي من نوع Mercedes موديل قديم، قرب مكتب البريد الواقع غير بعيد عن الحي الذي أقطن فيه، دقيقتين مشيا على الأقدام، وذلك من أجل أن يُقلني إلى مكان العمل كما جرت عليه العادة.  فمنذ أكثر من ثلاثة أشهر وأنا أعمل معه داخل إحدى الفيلات الفارهة والتي لا نراها عادة إلا في الأفلام السينمائية، والمسلسلات التركية، يوصلني هناك ويتركني أجز العشب وأعتني بالأزهار وأجمع الأوراق المتساقطة التي لا تكف عن الهطول من على الأشجار، ولكم أن تتصوروا، فقط حجم الألم الذي تسببه تلك الحركات الرتيبة والمتكررة اليوم كله، في حين تراقبك من حين لحين عجوز لعينة، صاحبة هذا القصر، بعيونها التي تشبه عيون الصقر وهي تجلس على أريكة مريحة. كأن لا هم لها سوى مراقبتك في انتظار أن تنسى ورقة لعينة على ذاك العشب اللعين لتنهال عليك بملاحظاتها اللعينة التي لا ترحم. 

قلت له أنا قادم وعدت إلى النوم. وبعد ثلاثة دقائق اتصل بي وسألني:

«أين أنت»

قلت له:

«لن آتي»

فرد علي مستفسرا:

«لماذا لن تأتي»

أجبته ببرود حاولت اصطناعه دون جدوى:

«لأنك يا ابن الكلب مصاص دماء أنت وتلك الشمطاء الملعونة»

ثم أغلقت الخط في وجهه. وبقيت مستلقيا في مكاني، مُحدقا إلى سقف الغرفة الذي تقشر طلائه وحال لونه إلى الأصفر. ومفكرا في أني خيرا فعلت، أحسست بالانتصار، وتسليت بتخيله يرغي ويزبد، يرسل لعناته، قبل أن يتصل بأحدهم ليحل مكاني.

ماذا سأفعل الآن؟

 لم أحر جوابا، فنمت لساعتين حلمت فيهما حلما مزعجا ومشوشا إلى أبعد حد، فقد طاردتني مخاوفي إلى أحلامي أيضا، رأيت نفسي أنحني، محاولا إلتقاط الأوراق المتساقطة من على الأرض، بيد أنها كانت تنزلق من بين يدي مثلما ينزلق شيء لزج، كانت عصية على الإمساك، بينما إبراهيم، يمسك في يده بسوط وينزل به على جسدي، أما صاحبة القصر، آه على صاحبة القصر، فقد كانت تبدو مثارة وهي تراقبه يفعل ذلك.

صحوت مرعوبا، ثم تنفست الصعداء بعد أن أدركت أنه كان مجرد حلم بائس يذكرني بعبوديتي في عصر نتوهم فيه أننا أحرار.

نفضت عني غبار هذه الأفكار، نزعت عني الغطاء وتدحرجت خارج السرير المفرد، أزحت الستائر وفتحت النافذة على مصراعيها ليتسرب الهواء إلى الداخل مُبددا رائحة النوم التي لا تطاق، نظرت إلى الخارج فبدا لي بضعة أطفال من أبناء الحي يلعبون في هذا الطقس الممطر وهم يضحكون بدون تفكير بالمستقبل الذي ينتظرهم، يفكرون فقط في اللحظة التي يعيشونها..

تنهدت عميقا، لكم وددت أن أعود طفلا.

 لكن هيهات أن يحدث ذلك.

رددت في نفسي مقطعا افتتاحيا من قصيدة وداعا للغزل للشاعر رالاي:

«كأحلام وهمية، تلاشت أفراحي، وأضحت أيامي الهانئة كلها من الماضي»

ثم تركت النافذة مفتوحة وتوجهت صوب الحمام غسلت وجهي ويدي بالماء الباردـ ثم مسحتهما بالمنشفة المعلقة على مسمار مدقوق على الجدار الأبيض، أوصدت باب الحمام وولجت إلى الصالة، ألقيت التحية على أمي وأخي الصغير، جلست في الزاوية بالقرب من رأس أبي، المندس تحت غطائه والمستلذ بأحلامه. كان أخي يمسك بـ«التيلكوموند» ويبحث عن قناته المفضلة لمشاهدة الرسوم المتحركة. صبت أمي الشاي في الكؤوس، حملتُ كأس الشاي من الصينية ذات اللون الفضي وارتشفتُ منه رشفة، كان ساخنا جدا، لسع لساني، كاد أن يتدفق على ملابسي، نفخت فيه كي يبرد، شاهدتني والدتي أفعل ذلك، فقالت لي:

«قلت لك ألف مرة أن النفخ في الكأس عيب لكنك لا تسمع»

أجبتها قائلاً:

«العيب هو أن يمص العالم دماءنا، أما الأمور الأخرى فهي فقط ألعاب اجتماعية  ينبغي إتقان لعبها من أجل رسم صورة زائفة حولنا لدى الآخرين».

لا، لم أقل لها ذلك، لأنها ستخبرني بأن أتوقف عن هذه الفلسفة الخاوية، وستضيف بأن الكتب التي أقوم بقراءتها قد خربت عقلي. واكتفيت بأن أقول لها:

«ماذا أفعل؟ انه ساخن»

**

زحفت الساعة نحو الخامسة ونصف، وضعت كتاب روائيا في حقيبة الظهر، علقت الحقيبة على ظهري، فتحت باب شقتنا الخشبي ونزلت مع الدرج، ليتلقفني الشارع، سرت مع رصيفه، موزعا التحية على بعض الجيران الذين ألتقيهم، ومتجاذبا أطراف الحديث مع بعض أصدقائي، لأجد نفسي، مرتخيا على مقعد في مقهى الأندلس، ذا الأرضية المملوءة بأعقاب السجائر والأوراق المضغوطة..

برغم بؤسه الذي لا يمكن إخفائه، وبعده عن الحي الذي أسكنه، يبقى مقهى الأندلس مكان محبب إليّ، لا أجد راحتي إلا فيه دون غيره من المقاهي المنتشرة هنا وهناك مثل الجراد.  طلبت فنجان القهوة، أخرجت من جيب سروالي علبة السجائر، أخذت سيجارة، أشعلتها، سحبت نفسا بتلذذ، نافثا بعد ذلك الدخان الذي تصاعد إلى سقف المقهى مشكلا سحابة صيف عابرة تبددت لما اقتربت سميرة، نادلة المقهى، وهي تحمل المشروبات، وضعت فنجان القهوة وقطعتين من السكر فوق الطاولة بجانب الطفاية الطافحة برماد السجائر وانصرفت بعد أن شكرتها..

أضفتُ قطعة من السكر في الفنجان وحركته بالملعقة جيدا ثم ارتشفت منه رشفتين، سحبت نفسا آخر من سيجارتي، رميت العقب في الطفاية، أسندت ظهري للخلف وبدأت أشاهد التلفزيون الذي كان يعرض موجز الأخبار: الهجمات الإرهابية، حوادث السير، الزلازل، عمليات القتل، فيضانات، أعاصير، مظاهرات، قنابل مسيلة لدموع… الكارثة نفسها كانت تتكرر أمامي، الدمار نفسه يتجدد كل يوم متخذا ألف شكل وشكل!! 

المقهى كان شبه فارغ، شابان يجلسان على بعد عدة طاولات يلعبان بهاتفهما، ورجل أربعيني له عينان ثاقبتان يشاهد بهما الموت والظلام والحزن، ذلك كل ما يمكن للمرء مشاهدته على التلفزيون!!   

ولأني، كما قال الكاتب الصربي «جيفكوفيتش» قد اكتشفتُ منذ زمن أن القراءة أكثر نفعا ومتعة من تجميد عقلي وحواسي أمام التلفزيون، فتحت الحقيبة التي أحملها معي دائما، أخذت كتابا روائيا تحت عنوان «بيريرا يدعي» للكاتب أنطونيو تابوكي وبدأت تقليب صفحاته والتبحر في فصوله.

مع الانهماك في القراءة بدا لي أن الزمن قد توقف، وأن رواد المقهى قد تلاشوا جميعا وصاروا سرابا، وأن صمت مطبق قد خيم على المقهى، بل يمكن القول أنه خيم على العالم. حتى أنه راودني إحساس بأنه لم يعد هناك أحد سواي في هذا الوجود.. في تلك اللحظة عرفت أني قد تخلصت من سلطان الزمن ومن ضجيج العالم وخبثه ودماره وقذارته، وأن السحر قد فعل ففعله، سحر الكلمات الذي يجعلني أنسى، ولو مؤقتا، أني بلغت السادسة والعشرين من عمري، حاصل على الإجازة من نظام تربوي لا هدف له سوى إعادة إنتاج نفس الطبقات بدون السماح لأحد بالارتقاء. وأنتقل من عمل سيء لآخر أسوء. فالعثور على عمل ملائم هنا في هذه الحفرة أمر مستحيل استحالة العثور على إبرة صغيرة في كومة القش. سحر الكلمات الذي يجعلني أنسى – ولو مؤقتا – أني أنام نوما قلقا تتخلله أحلام مزعجة وأن النادلة تعاملني بوقاحة بسبب البقشيش الذي لا أتركه لها وأن صديقي ينتظر مني أن أدفع له نقوده التي أقرضني إياها. وأن المستقبل لا يبشر بالخير، هناك غيوم كثيرة في الأفق، وعواصف. وليس هناك مخرج ولا مهرب. لهذا الأسباب يمكن القول، أن الكتب، تتحول الى ترياق، مخدر يخفف الألم ولو بشكل نسبي، هدنة مؤقتة، قارب يبتعد بي عن شاطئ مشاكلي. نافذة مفتوحة منها أحلق عاليا هربا من سجن الواقع، باب يشرع أبوابه لي للولوج الى عوالم زاخرة بالوهم والخيال والغموض والإثارة، عوالم تتكشف أمامي وتتشكل بتواطئي.  فمؤلفي الكتب، الذين هزموا الموت عبر فعل الكتابة، يتحولون الى منقذين، يعطون جرعة من الأمل، ولو كان زائفا، لأشخاص يشبهونني، حكم عليهم المجتمع بالبقاء في نفس الوضع عبر ميكانيزماته الخفية.

**

بعدما دب التعب في جسدي، خرجت من المقهى، اتجهت صوب شقتنا في عمارة السعادة التي نقطن فيها تقريبا منذ ست سنوات، بعد انتقالنا من الحي الصفيحي، الحي المتاهة، بأزقته الضيقة الملتوية، والتي يصعب أن يمشي فيها المرء بدون أن يتملكه شعور بأنه قد ضل الطريق.

دفعت باب العمارة الذي علاه الصدأ، فأحدث صوتا آلمني في أسناني.

دائما ما يحدث لي ذلك عند احتكاك شيء ما.

صعدت الأدراج إلى شقتنا المتواجدة في الطابق الثاني، فتحت باب الشقة الخشبي ودلفت إلى الداخل، كانت جارتنا زاهية وابنتها ربيعة، جالستين مع والدتي في غرفة الجلوس، تدمدمان في موضوع ما وصلتني منه فقط بعض الهمهمات.. فمنذ تزوجت أختي إذ تصادف زواجها مع انتقالنا مباشرة الى هذه الشقة، عانت أمي عزلة مؤلمة، أضحت لا تجد من تتحدث معه، كأنها بذلك دفعت ضريبة الانتقال الى هذا المكان الموحش…

فالناس في الحي الصفيحي كانوا على الرغم من بؤسهم الانساني، يعيشون متحدين، يتعاطفون مع بعضهم البعض، يخرجون مقاعدهم أمام بيوتهم ليجلسوا ويثرثروا معا، متقاسمين قدرهم وأحلامهم بكل فخر واعتزاز. أما في هذه المباني التي تشبه مخلوق أسطوري يلفظ أنفاسه الأخيرة فلا أحد يتحدث معك باستثناء تحية يتيمة عند كل لقاء.. لذا عندما انتقلت زاهية وزوجها محمد وابنتهما ربيعة منذ سنة ونصف الى الشقة المحاذية لشقتنا وجدت أمي أخيرا إنسان تتحدث معه.

وجدت تلك الحرارة الإنسانية التي افتقدتها لوقت طويل!!

ألقيت عليهم التحية، بدلت ثيابي المبتلة بثياب أخرى. كان أبي منغمسا بتقطيع عشبة الكيف على لوحة خشبية بسكين من الحجم المتوسط، تهاويت إلى جانبه على الكنبة. تحدثنا حديثا مكررا، وعم بيننا صمت، صمت قاتل، قطعته بفتح التلفزيون، كان يعرض برنامجا كوميديا تافها ينشطه أحمق يتخذ السخرية من الآخرين مادة له.. 

ثم رحت إلى غرفتي مغلقا الباب ورائي، تمددت فوق السرير المفرد، شابكا أصابعي خلف عنقي، مفكرا بينما أحدق في السقف بأننا بانتقالنا الى هذه الشقة فقدنا حياة بأكملها… لكن سرعان ما شرد ذهني الى شيء أخر، فجأة وجدتني أقف منتصبا، أغلقت علي الباب بالمفتاح، جلست على حافة السرير، وشرعت بفعل شيء غير أخلاقي بمعنى من المعاني على صورة متخيلة، وما إن انتهيت حتى ندمت ندما شديدا، وتملكني شعور بأني اقترفت شيئا وسخا.

وبينما يستحوذ على هذا الشعور بأني وضيع، أخرجت هاتفي من جيب سروالي الباهت واتصلت بإبراهيم، قلت له بأني نادم على ما تفوهت به. غير أن ابن اللعينة قال لي أن أذهب الى الجحيم، وأغلق الخط في وجهي.

ارتميت على السرير يساورني شعور بالوهن، أصغيت لوقع ارتطام المطر بالنافذة، وغفوت وأنا أتوسل النسيان!

***

قصة قصيرة لـ حمزة الذهبي: خائب الأمل يتحدث

القاصُّ المغربي حمزة الذهبي

خائب الأمل

خاص قنّاص – جسد السرد

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى