مساراتمقالات

خطوة على طريق النشر | د. عزيزة الطائي

عندما تغدو الكتابة ملاذا نحتمي به

في البدء.. وقبل عملية الكتابة عن الكتابة، تتوارد الأسئلة أمام المشهد الثقافي الذي يتوجب عليه احتضان القلم، ودعم الفكرة بروح موضوعية بعيدة عن التعصب، والجاهلية.

لماذا تبتر أصابع الزهر؟! ولماذا أنتَ (أيّها الكاتب) سعيد بوحدتك؟

ولماذا يتقمص الناشر دور التاجر؟ ولماذا تمارس المؤسسة دور الرقيب؟

***

تأتي الكتابة على غير ميعاد، تأتي كطيف يداعب روح الكاتب لتنشرح سريرته، وتنطلق أفكاره ورؤاه التي كانت تلاحقه صوب الفضاء اللامتناهي، متحررا بذهنه ليرفرف بكلماته ناثرا الورد والزهر إلى فضاء العالم الحيّ بكل ما تحمله الذاكرة من بهجة وشجن. تأتي الكتابة كهاجس يمنح صاحبها تجاوز ملهمات الروح بما تطويه من سكون وألم من أجل استمرار الحياة، وتوقد رؤيتها من زوايا أخرى أكثر بهاء وجمالا، سعة ورحابة. تأتي الكتابة محملة بالحرف والكلمات والجمل لتسافر بنا إلى فضاءات تسكننا بين الإنس والجن/ بين الواقعي والمتخيل/ بين الفنتازي والأسطوري؛ حيث تفاصيل الأرض وسحاب السماء لتفتح باب السؤال عن الأمكنة التي لا يعبرها الضوء، ولا تحدها الأزمنة، ولا تضيق بها الأمكنة التي تكمن وراءها التجربة الفاعلة المثقلة بالشجن والطرب في آن. تأتي الكتابة لتكون انغماسا في لحظة تأزم الذات مع المحيط، وتأسيس وجودها مع العالم الآخر عبر مسافات شاسعة لحضور أرق الهامش، وكسر جدار التابوهات، واستنطاق صمت المسكوت عنه لتخرج الأفكار والرؤى والكلمات بكل شفافية وصدق.

تحضر الفكرة بقوة، وتنسل بعفوية في عناق حميمي مع الحبر والورق، فتتجلى صيرورة الذات الكاتبة؛ لتفتح قوسا بينها وبين المخزون والمغمور في عتمة السلم والحرب بما تحمله من تصريح وتأويل مع تعاقب الليل والنهار على كنه الكون، وحدود وجودها، وعن تأزم الذات وتصالحها مع البشرية جمعاء، وعن الإنسان وسعيه إلى التغلب على الألم، وبحثه في الفراغ المجوف عن الحلم ليقتنص مزيدا من أمنية العمر لأجل سمو الحب، وعدالة الرّب حتى تتوارد الأفكار التي تنم عن تجربة عميقة للحياة، ونظرة سابرة للكون. وقد ترتسم تقاسيم وجه الكاتب في كومة من الثلج حتى يذوب الدمع على ضفاف حرائق مدن الغياب، وعذابات القبر.

إنها الكتابة تغتال الروح والذهن معا بفعل بين رصاصة في القلب وخنجر في العقل. الكتابة التي  ترفرف حروفا فتجول كلماتها بالذاكرة حتى تتوارد عناقيد الروح متدلية بأرواح البشر. فيغدو صدى الجُمَل الصاخبة يعبق بسراب عبارات الغيم بين الجدب والمطر مصافحة كل البشر. وعندما تهدل حمامات الروح بالسلام في مرايا الظلام ناظرة لصباح توقظ النيام على مدى السفح حتى لا تخالفهم الريح فيتراسل الحبر ليوقظ الحواس، حتى تهطل الكلمات كرذاذ المطر لتخصب صمت الورق، فتؤول خطوط الورقة إلى أغصان رانية بالأمل.

هكذا تغدو الكتابة منسابة على هام البشر، متكئة على رحم الأرض؛ كي تنير الكون على حبل مشنقة تائهة بين الكاتب والناشر ليلونها المتلقي بوعي، أو دون وعي بين سراب وماء على تيماء بياضها لا يعرف مواويل العشاق في ليلة قمرية حالمة بالعشق، وتعزفها رائحة الثمر بين ظلال الشجر فهنالك ليل يولج النهار، وهناك نجمة تغازل القمر. فيمر الصباح ناثرا أشعته لتنير أوراق الحبر الذي كتب بالدم.

هكذا تعجن كتابة القلب والروح بين الحبر والورق لتتناسل الحكايات في القص، أو تغرد الأغنيات بالشعر، أو تشرق الأسطر برؤى الفكر. فأين الكاتب/ الإنسان عنها عندما يفكر أن يطويها بين دفتي كتاب لترى النور بعد أن تزهر الكلمات نابضة بحب الحياة، وتصدح بروعة الفكر؛ والأهم دعمه وتشجيعه وتذليل الصعاب له جزاء كل ذلك  الجهد والعناء الذي تتكبل بهما نفسه. أمام تلك الإشكالات كلها نقف أمام تساؤل كبير أين جهود الكاتب؟ وما حقوقه؟! وما أبرز التحديات التي يواجهها؟ لتأتي الإجابة لا شيء له. فيتناسى الكاتب مجبرا ، وقد يحبط، أو يعتزل أمام أزمة النشر والناشرين وفوضاهما في الوطن العربي المسكون بسهام الوجع.

ولأني كاتبة أصدرت حتى الآن اثني عشر كتابا، كل عنوان فيها متنوع في اتجاهاته وموضوعاته، مررت بعدة عقود للنشر، وكلها -لها ما لها وعليها ما عليها-. فأنا لم أستلم منها عائدا ربحيا عند البيع، أو معرفيا مؤكدا بعدد النسخ المطبوعة.

غلاف كتاب «شعر صقر بن سلطان القاسمي: دراسة نقدية»، دار جرير للنشر، الأردن 2009م

ولأني أزعم أني كاتبة أصدرت حتى الآن اثني عشر كتابا، كل عنوان فيها متنوع في اتجاهاته وموضوعاته بين (الدراسات الأدبية، والنصوص السردية، وقصيدة النثر) مررت بعدة عقود للنشر، وكلها -لها ما لها وعليها ما عليها-. فأنا لم أستلم منها عائدا ربحيا عند البيع، أو معرفيا مؤكدا بعدد النسخ المطبوعة. وربما هذه أكبر إشكالية يتلقاها الكاتب مقابل جهده لسنوات قضاها في إعداد كتابه، وتنضيده ليرى النور، وينتفع به المتلقي، ويجد الباحث فيه تربة للدرس؛ ناهيك عن اختلاف جودة الطبعات، وحقيقة الكمية المتبقية من الطبعة الأولى؛ لتبقى هذه الطبعة الأولى ملكية للناشر ووشم نهائي لعدم رواج موضوع الكتاب أو قبوله أو استحسانه، أو الإقبال عليه من القراء. حتى تهيمن المصلحة النفعية، وتتصاعد روح الصراع بين قطبين هما (الكاتب والناشر) وبينهما ثالث وهو (القارئ) لتكون هذه الأقانيم الثلاثة حلبة الدفع للـ(الكتاب) الذي يبقى حبيسا بين أرفف الناشر والكاتب.

وإذا سلمنا أن الإصدار بمثابة ميلاد وليد جديد يأتي بفرحة غامرة للكاتب، مهما كان ترتيبه بين أخوته عندما يرى جهده وتعبه طيلة سنوات قضاها داخل صومعة الكتابة؛ متصالحا مع ذاته لتخرج أفكاره التي طالما أرقته ولاحقته في السر والعلن متحررا من عبء الزمن، متجاوزا حدود المكان؛ ليجد حرف روحه يتهادى من حبر أوراقه الذي بقي حبيسا في عتمة الوجود حتى ظهر إلى النور بعد معاناة ورحلة شاقة متناسيا كل العبقات والعراقيل، والمبلغ المادي الذي دفعه لدار النشر؛ ليصطدم -أحيانا- برائحة الحبر الرديء من رداءة الطباعة أو التغليف، أو الإخراج.

ومع مرور الوقت يفقد الكاتب شفافية العلاقة بينه وبين الناشر، بل بينه وبين المشهد التسويقي، وتتحول تلك العلاقة التبادلية إلى علاقة ربحية تخلو من الثقة والتفاهم والانسجام. فيجد الكاتب نفسه محاصرا، مهمشا، حزينا لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية. فأما الذاتية فهو إحساسه بالغبن المادي والاستغلال التسويقي؛ بينما الموضوعية حين يرى كتابه بين مجموعة من الصناديق المحشوة عليه أن يتكفل -هو- بكافة الأدوار للتعريف بكتابه وأهميته، وتجربته الجديدة التي تتراكم سنة وراء أخرى. ومع ظهور قنوات التواصل الاجتماعي تجلى أمر آخر، فقد أصبح الكاتب هو من يقوم بعملية التسويق والتعريف بكتابه، وتزاحمت على المتابعين مصداقية عمق الكتاب، وجمال طرحه، وتقنية أسلوبه؛ الأمر الذي أضاف إشكالية أخرى، وتحدٍ آخر قوامه الثقة بين الكاتب والمتلقي من جهة، وبين الكتاب وأصالة دار النشر من جهة أخرى.

ولعل أبرز ما يمكن الحديث عنه حول طبيعة هذه العلاقة، خاصة بين الكاتب العربي ودور النشر العربية تتجلى في أربعة علاقات:

أولها، علاقة خفية بينهما وسيط، تبني المؤسسة الثقافية الإصدار، التي بدورها تتعاقد مع دار النشر. وهنا يمنح الكاتب حقه المعنوي والمادي (عدد النسخ، وربما هناك مبلغ مادي) وفي هذه الحالة يبتعد الكاتب عن مواجهة الناشر، ولا يستطيع محاسبته بأي شكل من الأشكال.

ثانيها، علاقة واضحة، يتعاقد الكاتب مباشرة مع الناشر مقابل مبلغ مادي، وقد يحصل على عقد معاييره واضحة بعدد النسخ دون الأرباح.

ثالثا: علاقة ملتزمة، يبرم العقد بين الكاتب والناشر المناصفة في قيمة الطباعة والأرباح مقابل طباعة عدد (1000) نسخة، ويحصل الكاتب على (100-200) نسخة، إضافة إلى الأرباح.

رابعا: علاقة مرضية، يتم العقد دون دفع أي مبلغ من قبل الكاتب، مقابل استلام نسخ محدودة لا تتجاوز (20-50) نسخة حسب عدد النسخ المطبوعة.

إن هذه العقود الأربعة من خلال تجربتي مع مجموعة من الناشرين نجد الكاتب فيها مغبونا أمام عقود الكثير من الناشرين يستلب تلك الأرباح، ولا يفي بالتزامه مع الكاتب؛ بل كثيرا ما يسلبه عدد النسخ المتفق عليها، وفي كل ذلك تتراءى معضلات تواجه العلاقة بين الناشر والكاتب، لعل أبرزها كما بدا لي:

  • الكاتب العربي رهين واقع بائس، ومشهد تحكمه السلعة التجارية، فيتساوى مقام الفكر مع سلعة تجارية ثمينة أو زهيدة.
  • أبرز سمات الناشر العربي اهتمامه بالكسب المادي لا الترويج للفكر، ودعم بذور المعرفة.
  • صحيح أن هناك ناشرين يأخذون بقيمة الكاتب وجودة منتجه المعرفي، إلا أنهم يتوارون حال خروج الكتاب إلى النور مقابل استلام مبلغ العقد.
  • تنتهي طبعة الكتاب الأولى، وتبقى لسنوات تتجدد على أنها طبعة أولى دون إخطار الكاتب، وهو ما نلمحه عند الأغلبية.
  • يروج الناشر للكتاب الذي تحت مظلة معرفته؛ مما يؤدي إلى عدم مصداقية قيمة الكتاب عند المتلقي.

وأخيرا، هناك أسباب جلية تفرض نفسها بقوة أمام مشهد الواقع الثقافي، فالكاتب يعاني من مجموعة من الإحباطات التي تقوده إلى العزلة، وتدفعه إلى الشعور بالنبذ؛ الأمر الذي كثيرا ما يجعله يفضل الخلود إلى صومعة الكتابة الصامتة، أو التخلي عنها فيجد في ذلك نفسه متصالحة مع ذاته، أو نافرة من محيطه. مقابل حقيقة الواقع الثقافي العربي الذي يكرس التمييز بين صدور كتاب جديد. فيقصى كاتبا مقابل تبجيل كاتب آخر؛ مما يضعف الأدوار المنوطة بعملية النشر أمام المشهد الثقافي الذي يلزم الناشر بتبعات لا تسهل العقبات والتحديات التي تمر بها حقيقة النشر في معارض الكتب؛ خاصة إن لم تستوعب ذلك المؤسسية لتذلل حضور دور النشر، وتسهيل شؤون مبيعاتها بدعم حضور الكتاب في أرفف المكتبات لتصبح الأسعار في متناول جميع القراء؛ تحتضن الكاتب بالتعريف به وبمنجزه؛ لتصبح معارض الكتب علامة فارقة تصقل عملية النشر، وتلفت الباحث للإصدارات الجديدة، وتدله على الخيارات الجيدة من العناوين، وتعمق العلاقة من أجل الكتاب بين الأقانيم الثلاثة (الناشر، والكاتب، والقارئ). وبهذا كله نستطيع الأخذ بيد الناشر والكاتب والكتاب.

 

عزيزة عبدالله محمد الطائي: كاتبة وباحثة في النقد الأدبي، حاصلة على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث. صدر لها: شعر صقربن سلطان القاسمي: دراسة نقدية، ثقافة الطفل بين الهوية والعولمة، الخطاب السردي العماني: الأنواع والخصائص، السرد في قصيدة النثر العمانية: أشكاله ووظائفه، الذّات في مرآة الكتابة، “أرض الغياب” رواية، “أصابع مريم” رواية، “ظلال العزلة” قصص قصيرة جداً، “موج خارج البحر” قصص قصيرة جدا، خذ بيدي فقد رحل الخريف، نجمة الليل الأخيرة.

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى