تُخصص مجلة «قناص» هذه الزاوية، بشكلٍ دوريّ، حيثُ تستضيف أحد الكتّاب للحديث عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر، الشائك والمُتعب في الآنِ معاً.
هناك مرحلة تكتب فيها لأصدقائك.. ولأعضاء نادي الأدب القريب منك، فيقولون لك: “جميل.. كمّل”. عبارات التشجيع تخفف عنك وطأة ثلاثة أسئلة تشغل عقل كل كاتب في بداياته: هل أنا موهوب أم لا؟ هل ما أكتبه يضيف إلى ما كتبه أدباء كبار مثل تشيخوف ويوسف إدريس ونجيب محفوظ؟ ولمن أكتب؟
أسئلة مهمة ويترتب عليها أن تكمل مشوارك أم تنسحب وتكتفي بمهنة ما. خصوصًا أن الكتابة في العالم العربي ـ احترافًا وهواية معًا ـ هي فعل ميئوس منه.
حاولت أن أحصل على إجابة عن أسئلتي الثلاثة من أصدقائي ومن نادي الأدب. لكن لم أهتم بنشر قصصي الأولى ـ وكما هو رائج آنذاك ـ في الصحف والمجلات. كنتُ أكثر كسلًا في “المراسلة”.
في مرحلة ثانية عندما التحقت بكلية دار العلوم وحسمتُ قراري أنني أرغب أن أكون كاتب قصة قصيرة أولًا وأخيرًا، بدأت المشاركة في كل المسابقات التي أسمع عنها ونلت جوائز تجعلني محظوظًا، منها أفضل كاتب قصة قصيرة لثلاث سنوات متتالية من كليتي الأدبية العتيدة، وكذلك أفضل قصة على مستوى جامعات مصر.
اكتفيت بالمسابقات لبضع سنوات، وغالبًا لا تنشر النصوص بل كانت تضيع مني. وبعدما فزت في أكثر من مسابقة على مستوى الجمهورية مثل نادي القصة وجائزة هيئة قصور الثقافة ومسابقة اقرأ.. افترضتُ ـ وهو افتراض خاطئ ـ أنني أصبحتُ كاتبًا محترفًا. ومن حقي أن أحظى باعتراف وتنشر نصوصي تلقائيًا. غلبني هذا الوهم بأن العالم ينتظر إبداعاتي!
واكتشفت أن النشر في مصر متاح عبر مسارين: إما انتظار دورك مع تزكية من أحدهم للنشر في سلاسل حكومية بائسة الطباعة، أو دفع مبلغ مالي لناشر خاص، وكان عددهم محدودًا.
لم تعجبني فكرة “انتظار الدور” الحكومية، ولا “دفع نقود” لناشر خاص، لأنه من العبث بعد تعب سنين أن أتوسل لناشر كي يطبع كتابي الأول وأدفع له بدلًا من أن يدفع لي.
أصبت بإحباط شديد، فوضعت نصوصي رغم فوزها في كذا مسابقة، على ملف في الكمبيوتر (بدايات ظهور الكمبيوتر) وتركتها للنسيان. ثم تضاعف إحباطي مع صعوبة البحث عن عمل بعد انتهاء الدراسة وأداء الخدمة الوطنية.
الحياة ليست وردية. ولن تكون وردية على ما يبدو.. لذلك اتخذتُ قرارًا بالانسحاب والتوقف عن القراءة والكتابة والمشاركة في الجوائز. كان قراري تعبيرًا عن هشاشة ومشاعر عدمية تجاه الوجود.
استمرت هذه الحالة معي لأكثر من ست سنوات، كنتُ حينها قد سافرتُ إلى الكويت وتحسنت أحوالي نسبيًا، فبتُ قادرًا على إخراج مجموعتي الأولى من قبرها ونشرها لدى ناشر خاص، لكنني رفضت أن أفعل ما لم أقبل فعله قبل سبع سنوات.
فعرضت عليّ أم أولادي أن تتولى دفع المبلغ، وبالاتفاق مع الصديق الفنان التشكيلي مجاهد العزب الذي صمم غلاف مجموعتي الأولى “إصبع يمشي وحده”.. وبالفعل صدرت عن ناشر خاص عام 2006 متأخرة عن ميعادها قرابة عشر سنوات.
لم يكن هذا حدثًا مبهجًا لي.. لأنها نصوص بدايات لم تعد تمثلني تمامًا.. ولأنني لم تتح لي فرصة مراجعة “البروفات” وتصحيح الأخطاء اللغوية، الكثيرة نسبيًا.
ولا أظن أن أحدًا يتذكرها الآن غير كاتبها. فلأنني لا أملك “فيسبوك” وقتها، ولا علاقات مع صفحات أدبية، ولا مع صحافيين.. صدرت المجموعة في صمت تام.. خرجتْ من القبر الضيق داخل الكمبيوتر إلى القبر الواسع في العالم العربي.
*شريف صالح: كاتب وصحفي من مصر.