ديواني الأوّل أو الوعد تحت طائلة الأحزان..
«خطوة على طريق النشر».. زاوية تُخصصها مجلة «قناص»، بشكلٍ دوريّ، حيثُ تستضيف أحد الكتّاب للحديث عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر، الشائك والمُتعب في الآنِ معاً.
منذ أن تفتّقتْ ملكتي وشرعتُ في نَظْم الشِّعر، وأنا دون العشرين من عمري، كنتُ أحلم أن يصدر. ديوانٌ لي مدبوغاً بحرّ أنفاسي، وعليه صورتي واسمي، إسوة بالشعراء الحديثين الذين بدأتُ أقرأ لهم. كُلّما تأخّر الحلم عن التحقٌّق، عاماً بعد عام، مثّل ذلك بالنسبة لي حافزاً للإصغاء إلى يفاعة تجربتي وتطويرها باستمرار، مثلما مثّل توُّرطاً، قاسياً وغير مفهوم، في الشعر الذي يُنادي عليك من أمكنة بعيدة. كان الحلم، في أحيان كثيرة، يتحوّل إلى يوتوبيا، ولاسيما في بلدٍ لا مكان فيه للشعر والشعراء تحت الشمس، مثل المغرب. والّذي أذكره، قبل أن يُطبع كتابي الأوّل، أنّ هناك مشاريع كتب دالّة كنتُ أصمّمها بنفسي وأضع أغلفتها وعناوينها بمناسبة أو بدونها، ثُمّ سرعان ما ضاعت منّي إلى الأبد. كان ديوان ‘عرائس الصبا’ الذي جمعتُه وأنا طالب في الثانوية، هو كتابي الأوّل حقّاً؛ ففيه آثارٌ مجروحة ٌبأنفاس حبّي الأوَّل، ومتاع ذاتي الشحيح، ودهشتي الأولى بالأشياء والعالم، كما نثرتُها في قصائد وجدانية وعاطفية، منظومة بين شكلي القريض والموشّح. كان مجمل هذه القصائد قد أُذيع في برنامج ‘مع ناشئة الأدب’ الشعري. لكن هذا الديوان الذي هيّأْتُه للطبع، وأرسلْتُه إلى البرنامج بعدما سمعْتُ ـ أنا وآخرون ـ وَعْـداً بذلك من مُعدِّه الشاعر وجيه فهمي صلاح، لم يكن إلّا حلماً في الكرى، ولا أعرف أين هو الآن؟
هكذا، بعد عقد ونصف من ملازمتي الشِّعر وعذابه، وبعدما لم يتحقّق الوعد من أيّ جهةٍ، ظهر كتابي الأوّل مطبوعاً على نفقتي الخاصّة التي دبّرتُها بِدَيْنٍ مع شقّ النفس، في أواخر العام 2005. كان عنوان الديوان في بادئ الأمر هو ‘فراديس العزلة’، ثُمّ استقرّ رأيي، بمشورة صديقي الكاتب محمد بازي، على عنوان أكثر دلالةً: ‘لماذا أشْهَدْتِ عليّ وعد السحاب؟’. بعد الطبع، بدأت قصّة توزيعي للديوان، بغلافه الأبيض الذي تخترقه صورة تجريديّة لصديقي الرسام محمد حستي، من مكتبة إلى أخرى، ومن كشك إلى آخر؛ ولمّا كان أصحابها يعلمون أنّي أحمل إليهم شعراً، يرفضون استلام النُّسخ منّي، أو يأخذون أقلّها بمضض، تحت نظرات الفضوليّين المشفقة، بذريعة أنّ الشعر بضاعة كاسدة.
لقد آلمني أن أسمع مثل هذا الكلام أكثر من مرّة بما يشبه إجماعاً. ساعاتٌ طويلةٌ قضيْتَها في الشعر وعلى حوافّه تبدو لك كأنّها هباء. وُوجِهْتُ بمثل هذا السؤال: هل أستمرّ في الكتابة أم أنقطع عنها إلى شأنٍ آخر؟ ـ لكن سرعان ما انفتح أمام عينيّ أفقٌ مثل هِبة، حيث وجدْتُ نفسي، داخل الثانوية التي أعمل بها، مُحاطاً بِتلقائيّة تلامذتي ودهشة عيونهم المُشعّة وانطباعاتهم العفويّة عن ديواني الذي ناقشوني في لغته وفضاءاته، وأثارهم ما وجدوا فيه من حزن، فتأثّروا بذلك جميعاً. صار الشعر، من هذه اللحظة بالذّات، التزاماً إنسانيّاً لا رجعة عنه. وأمّا الذين قرأوا الكتاب، من أصدقاء ونقّاد، فقد أثارهم تصميم الكتاب، ولغته، وغموضه المُشْبع بالرمز والخيال، مثلما بالجوع والخيبات. لكن أنّى لهم أن يعرفوا أنّ “وعد السحاب” لم يكن، في حقيقة الأمر، كتابي الأوّل، بل كان استئنافاً للوعد باللُّغة ومعنى الذّات. ضمّ الديوان بين دفّتيه حوالي أربعة وعشرين نصّاً شعريّاً متفاوت الطّول. كانت النصوص التي اخترتُها كُتِبتْ في خضمّ السنين الخمس الماضية، ونُقّحتْ ورُتّبتْ في خريف 2005م، وهي تنتسب إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر معاً. وممّا جاء في كلمة صديقي الناقد رشيد يحياوي على ظهر الغلاف: «تفتح اللغة في هذا العمل موطنها لمأساة عارية (…) وكأس الشاعر راودتها الطريق نحو آبار المعنى». صحيح، لقد أهرقْتُ في الديوان حبراً عن ملامح من سيرتي الحزينة عبر ذاتٍ تعيش تجربة العبور في ترحالها بين الأمكنة الهاربة، بمقدار ما عمّقتُ فيها ملامح من شعريّتي الخاصة.
بعد سبعة عشر عاماً من ذلك التاريخ، فإنّ الذي تبقّى لي من ديواني الأوّل هو ذلك الوعد لا يزال يُنْبئ به ويتطلّبه منّي باستمرار. وعد السحاب. ليس السحاب حيث مكمن الماء والضوء إلّا الأمل من نقطة التماسّ تلك، بين ما كان وما سيكون، وهو ما يجعل المعنى في رؤيتي إلى الذات والعالم يتشكّلُ مُعانياً دبيب الأدخنة من كلّ مكان.
عبداللطيف الوراري: شاعر وناقد من المغرب