جاء هذا المقال في كتاب «شهيٌّ خسارة كل شيء»، مختارات شعرية لـِ دونالد هال، ترجمة زاهر السالمي، والصادر في طبعته الأولى عن سلسلة كتاب مجلة نزوى، العدد 23 يوليو 2014، مسقط. كما صدر في طبعته الثانية إلكترونيا عن دار أبابيل للكتب الرقمية 2016.
«شهيٌّ خسارة كل شيء»، مختارات شعرية لـِ دونالد هال، ترجمة زاهر السالمي، سلسلة كتاب مجلة نزوى، العدد 23 يوليو 2014، مسقط.
ولد الشاعر الأمريكي دونالد هول في عام 1928، في نيو هفن، كونِّكتشاير. بدأ الكتابة وهو مراهق. تخرج من هارفارد في عام 1951، ثم أكمل دراساته العليا في أُوكسفورد عام 1953. نشر عددا كبيرا من المجموعات الشعرية، آخرها «تفاحات بيضاء وطعم حصاة»؛ مختارات شعرية تتضمن أعمالاً أنجزت ما بين 1946-2006.
إنه لمن الصعب تلخيص كل الأعمال والإنجازات والجوائز والتكريمات وشهادات الدكتوراه التقديرية لهذا الشاعر المذهل في أدبه وسياقات حياته. لكننا لا بد أن نذكر أنه الشاعر المتوج باستشارية الشعر لمكتبة الكونجرس الأمريكي في عام 2006؛ بما يعنيه هذا التتويج من قيمة اعتبارية في الأدب الأمريكي. من ضمن أهم أعماله مجموعته الشعرية «اليوم الواحد» الصادرة عام 1988، والتي فازت بجائزة الكتاب الوطني لحلقة النقاد، ومجموعة «الرجل السعيد» الصادرة في 1986، والتي فازت بجائزة لينور مارشال للشعر. مجموعته الشعرية الأولى بعنوان «نَفْيٌ وزيجات»؛ كانت كتاب الشعر المختار من قبل أكاديمية لامونت لعام 1956، وحصلت قصيدة «نفي» على جائزة نيو ديقيت الانجليزية.
أصدر دونالد هال مجموعتين شعريتين بعد موت زوجته الشاعرة «جين كَنيون» جرَّاء سرطان الليوكيميا في 1995. وهما مجموعة «من دون» الصادرة في 1998، ومجموعة «السرير المطلي» الصادرة في 2002. هذه الأشعار اللاحقة؛ (سطعت كمراث تأملية، لتصبح قصة حبهما أسطورة أدبية) حسب توصيف الصحفية باتجيج في حوار لها مع الشاعر نشر في: Narrative Magazine.Com؛ 2010.
سنحاول عزيزي القارئ في هذا المقال قراءة النصيّن الأساسيين والذي عُنونت بهما المجموعتين الأخيرتين، وهما قصيدة «من دون»، وقصيدة «السرير المطلي». وقد ألحقنا ترجمة القصيدتين في آخر المقال، وأضفنا إليها ترجمة قصيدة «إقرار»، والتي أخذنا منها عنوان المختارات الشعرية «شهيٌّ خسارة كل شيئ».
السرير المطلي:
يجعلنا السرير المطلي نستحضر ذكر السرير في قصيدتين أخريين؛ الأول جاء في قصيدة «مرضها الطويل» التي نشرت في مجموعة «من دون» والصادرة قبل مجموعة «السرير المطلي»، حيث يتذكر مع زوجته وهي في مرضها الأخير، أحداثاً سابقة:
…………….
…………….
أيضاً تذكرا
الأيام العادية- أصياف البركة، الاشتغال
على القصائد معاً،
تمشية الكلب، قراءة تشيخوف
عالياً. عندما امتدحَ
آلاف الظهيرات التي جمعتهم
وحملتهم
إلى النعيم والسكينة فوق السرير المطلي هذا،
انفجرت جين دامعة
وصاحتْ «لا غرام ثانية. لا غرام ثانية».
والمقطع الآخر؛ هو ما أقفل به دونالد هال قصيدة «ما بعد الحياة» في مجموعة السرير المطلي. وهي قصيدة فَقْد بالمعنى الخالص، حيث تبرق فجائعية لا تصرخ:
بعد عام حاول
أن يقول لنفسه: الكل يموت.
البعض يموت بعد ثلاثة أيام،
والبعض يموت في السابعة والأربعين.
كم واحد كان قد هلكَ
في هذا البيت المعمر،
أو فوق السرير المطلي؟
جدته وأمه
ولدتا في هذا المكان.
وحده موت جين
ما زال يزدهر.
إذن هو سرير غرفة النوم الرئيسية، لمنزل العائلة، في الحقل الريفي الذي اشتراه جده الأكبر عام 1865، حيث نشأ يعمل إلى جانب جدّه في حقل «بركة النسر»، مربياً الأبقار والماشية، وصانعاً الشراب من حصاد شجر القيقب، وحيث انتقل وزوجته بعد ثلاث سنين من زواجهما، ليعيشا في المنزل الشعري الى أن توفيت جين وهي في السابعة والأربعين. السرير الذي يرمز إلى المكان، إلى تاريخ شخصي وعائلي، يستقطب أزمنة مختلفة ووجوهاً وأحداثاً، يأرخ فيه دونالد هال لسيرة البيت الذي هو سيرته الذاتية، سيرة عائلة ريفية في انجلترا الجديدة، سيرة شعرية. أتذكر هنا «الحب في أزمنة الكوليرا» لماركيز.
إن نص «السرير المطلي» ونص «من دون» يختلفان في لغتهما عن معظم ما كتب في المجموعتين. في حين أن معظم المجموعتين تتسمان بلغة ريفية بسيطة، تفصيلية، فإن السرير المطلي ومن دون؛ يذهبان إلى لغة مركزة، حيث الرموز والاستعارات المركبة، تكَوّن شبكة من المعاني والاستدعاءات ذات السؤال الوجودي. عبر الشعر، وعبر السرير المطلي، الذي يرمز لسيرته وزوجته، فإنه يحاول أن يفعل ما يوازي في غايته وأثره المومياء/الأهرامات. يحاول أن يعيد زوجته إلى الحياة؛ أن يخلدها.
في مجمله؛ السرير المطلي حديث موجه إلى زوجته المتوفاة. في المقطعين الأولين يجمع الشاعر جسده بأجساد الفلاّحين، يُعمّر مدينة أموات، ومتحفاً أبيض. لاحظنا عند ترجمتنا للنص، أن الشاعر استخدم مفردة فلاّحين (fellaheen) في صيغتها العربية وليس مقابلها الإنجليزي. هناك ما يجمعه بالفلاحين، وليسوا أي فلاحين، إنهم الفلاحون المصريون! نشأته وحياته في الحقل الريفي/الفلاحة، نتذكر هنا قصيدته «منجل يحصد» كأول ما نشر له وهو في عمر السادسة عشرة. النيل-الماء الذي يتقاطع مع بركة النسر. هنا يأتي ذكر نهر النيل ودوره في نقل الأحجار الضخمة في عملية تشييد مدينة الأموات/أهرامات، التي تحولت إلى متحف في عصرنا، لكنه متحف أبيض في إشارة إلى الليوكيميا/الموت الأبيض؛ أي سرطان ابيضاض الكريات الدموية. وحين نقرأ مراثيه لزوجته، مثل قصيدة «مرضها الطويل»، نكون كمن يتجول في متحف عن الليوكيميا حيٍ ومرعب، في لغة تفصيلية وبسيطة، لكنها فجائعية، يأخذنا كالدليل إلى مراحل المرض وأهوال العلاج إلى لحظة الموت.
إن الشعر كأثر تخليدي للحياة في إشعاعها وكمالها، وفي انحطاطها إلى درجة الممات، يقوم بفعل الحفظ/التحنيط؛ حيث المومياء هي ذاكرة الفرد/المجتمع، قصيدة تنتظر من يقرأها، ليقوم أهلها إلى الحياة من جديد. وفي نص قديم له –قبل لقائه بجين- بعنوان «ذهب»، نجد هناك إشارة واضحة إلى أن قبره وعشيقته سينبش في أزمنة لاحقة ليخرج جسداهما مشعين وكاملين:
…………
صنعنا في تلك الأيام
غرفتين صغيرتين، متماثلتين داخل
جسدينا اللذين سيجدهما
الرجال الذين سينبشون قبورنا
بعد آلاف السنين،
مشعة، وكاملة.
في المقطعين الثالث والرابع؛ يذكر الشاعر حوارا دار بينه وبين مومياء. حديث مع الموت. حيث تتجلى المومياء في مشهد يعيد صياغة الموت بشكله الحسي الكامل. الموت أمامك، انظر إليه، انظر إلى جسد الفرعون/الإله، المحنط والملقى داخل قفص زجاجي في متحف مصري، ماذا يقول لك…!
في المقطعين الأخيرين من النص، يخاطب زوجته بشكل مباشر. السرير المطلي يشفّر رحلة حياته، منتظراً هجعته الأخيرة، إلى جانب جسدها، في قصر الظلمة، في المقبرة التي تبعد تقريباً أربعة أميال ونصف على الطريق نزولاً من بيت بركة النسر. حيث اشتريا مكانا لهما هو وزوجته بعد انقضاء عامين أو ثلاثة من سُكْناهما هناك، كما ذكر دونالد هال في أحد حواراته الصحفية: (زاد عشقنا للمكان، وعرفنا حينها أننا سنبقى هنا إلى أن نموت، لذلك وكنوع من فعل ارتباط اشترينا مكاناً لنا في المقبرة. أولا دخلت فيه “جين” عام 1995، واسمي موجود هناك على الشاهدة: 1928-….).
إنه قصر الظلمة؛ والأهرامات ليست إلاّ قصوراً ينام فيها الأموات في ظلمة سحرية مدهشة. إن الشعر في إيجاز كهذا؛ محملاً برموز تاريخية وآنية، في كلمات بسيطة، مرتكزاً على جدلية الحياة والموت، مخلداً لنا الحب، الذي هو فعل الحياة، له أثر السحر.
يصور لنا دونالد هال في قصيدة «من دون» الحياة من دون جين، في إيقاع جنائزي له طنين الفاجعة، يهطل من دون توقف. في هذه القصيدة؛ لن تجد أثراً لأدوات الترقيم. لا فواصل ولا وقفات. وهو أسلوب نادر عند دونالد هال، فهو منظر وأستاذ في استخدام الوقفات والفواصل لتشطير الأسطر الشعرية. وهو يشير إلى هذا التجرد من أدوات الترقيم في مقاطع عدة من القصيدة: (كان الكتاب من ألف صفحة من دون فاصلة). إنه لمن المهم والممتع سماع دونالد هال وهو يقرأ على جمهوره هذه القصيدة، والتسجيلات متوفرة عبر الانترنت. طريقة نادرة في القراءات الشعرية، تذكرني بالشاعر الكبير سعدي يوسف في قراءته لقصيدته الشهيرة «أمريكا..أمريكا».
عندما نستدعي الشعر الجاهلي، حيث البكاء على الدِمَن والأطلال، خلّد فيه الشعراء أحبابهم بشعر كَوّن المخيلة والذاكرة اللغوية العربية، والذي كلما قرأناه، يعودون لنا، يعودون إلى اللحظة الراهنة من الحياة. وفي قراءة نفسية؛ تكون الكتابة بحد ذاتها فعل حياة، كتابة القصيدة ربما كان طوق نجاة وحيد من الهوس الاكتئابي، الذي أصاب الشاعر بعد فقده زوجته. ومعروف عن الهوس الاكتئابي أنه في حالاته الحادة قد يؤدي إلى الانتحار!
***
ترجمة القصائد:
إقرار
(AFFIRMATION)
أنْ تكبر في العمر هو أنْ تخسر كل شيء.
أنْ تشيخ، الجميع يعلم ذلك.
حتى عندما نكون صغاراً
نلمحها أحياناً، ونَحْنِي رؤوسنا
حين يموت أحد الأجداد.
بعدها نُجَدّفُ لسنين في بركة صيفية
مُتَجاهِلين وقانعين. لكن زواجاً،
كان قد بدأ دون مكروه، يتبعثر
الى حطام على شاطىء،
وصديق دراسة يقع بارداً
من على جرف صخري.
لو أنّ حباً جديداً يحملنا
بعد منتصف العمر، فسوف تموت زوجاتنا
في ذروة القوة والجمال.
نساء جديدات يأْتين ويذْهبن. الكل يذهب.
عابرٌ هو العاشق الجميل الذي يعلن أنها عابرة. تلك المرأة الشجاعة،
في منتصف العمر، مقابل عمرنا العجوز،
تغرق في شجنٍ لا تحتمله.
صديقٌ آخر من عقود، يُقْصي نَفْسه
بكلمات تلوث ثلاثين عاما.
دعنا نَخْتَنِقُ في الوحل عند حافة البركة
ونُقِرُّ أنَّ هذا مناسب
وشهيٌ خسارة كل شيء.
***
من دون
(WITHOUT)
عِشْنا في جزيرةٍ صغيرةٍ شعباً من الصخرِ
من دون لونٍ تحت الغيومِ الرماديةِ وريحٍ
تقصي المحيط اللامتناههي ليوكيميا
لمفاويةٌ حادَّةٌ من دون نوارسَ
أو نخيلٍ من دون زَرْعٍ
أو حياةٍ حيوانيةٍ فقط دِبْقٌ وطحلبٌ
رصاصيُّ اللونِ يُعْتِمُ كلما أعتمت الشهور
ساعاتٌ أيامٌ شهورٌ أسابيعُ أيامٌ ساعاتٌ
سارت السنةُ من دون ترقيمٍ
فبراير من دون ثلج ثلوج الشتاء
ذابت تعافت إلى لا شيء
من دون سيلانٍ رغم اندفاع لفحات البرد
لا قطرات ثلجٍ أو ورودَ زعفران
لا أوراق قيقفٍ حمراءَ من دون أكتوبر
لا ربيعَ لا صيفَ لا خريفَ لا شتاءَ
لا مطرَ لا رعدَ لعودِ الصليبِ لا طائرَ دُجِّ مُغَنّ
كان الكتابُ من ألفِ صفحةٍ من دون فاصلةٍ
من دون فأرِ بلوطٍ يهربُ من عواصفِ الريح
لا قلاعَ لا ميادينَ لا أعلامَ لا ببغاوات
من دون كرنفالٍ أو موكبٍ لرُفاتٍ
لا يُطاقُ من دون حاصِرَةٍ أو نقطتان
صمتٌ من دون لونٍ صوتٌ من دون رائحةٍ
من دون تفاحاتٍ من دون لحمِ خنزيرٍ للتقطيع للطحن
بلا ترقيمٍ دون كنائسٍ بلا انقطاعٍ
بلا شحاريرَ بأنوفٍ صغيرةٍ بلا أُوبرا بلا
من دون أصابعٍ نرجسٍ برّيٍ عظامِ وجْنَةٍ
كان الجسد شعباً قبيلةً حفرت في الصخر
الدمُ الأبيضُ المفتوك تكسَّر قطعاً
أقاليمٌ مُحْتَلَّةٌ مُفَجَّرَةٌ عُبُوَّةٌ ناسفةٌ
مدفعيةٌ قنَّاصةٌ نارٌ طائرةٌ عموديةٌ مُسَلَّحةٌ
قنبلةٌ يدويةٌ تحرقُ تقتلُ لغمٌ أرضيٌ مجاعةٌ
وقْفُ اطلاق النار صَمدَ ثمان وأربعين ساعةً
ثم انفجرت عُبُوَّةٌ في السوق
وجعٌ قيءٌ ألمٌ عصبيٌ مورفينُ كابوسٌ
فوضى حَمَّالةُ الإرهاب الإثمُ
فِنْكرِسْتين، أرا-سي، ف ب-16*
فقدان ذاكرةٍ فقدان لغةٍ فقدٌ
التهابٌ رئويٌ فِطْرّيٌ التهابٌ رئويٌ بكتيري
بحرٌ بلا زبدٍ مُهَوّنٍ بلا بحرٍ
هذيانٌ علاماتُ سياطٍ من بثورٍ
قروحٌ من هِرْبِسٍ نُطاقِيّ
وكيف حالك اليوم حالي هو
في أحد الظهيرات قُلْ أنّ الشمس طلعت
طُحْلُبٌ ظَهَرَ أوراقٌ مُخْضرةٌ سقطت
السوق فتحت رغيفُ خبزٍ عصفورٌ دُوريٌّ
كلبٌ هزيلٌ جالَ عائداً يتشممُ خَشَبةً
من الممكن التقاط قلمِ رصاصٍ
شطرٌ غير مكتوب التُقِطَ ولُمِسَ
جميلةٌ فظيعةٌ جُمَلٌ غير مكتملةٍ
البحر موجةٌ عنيدةٌ رماديٌ البحرُ
حطام سفينة من دون جزر أقفاصُ شحنٍ محطمةٌ
بنايةٌ بعد بنايةٍ ذاتُ البيتِ المركزِ التجاري
لا كنائسَ لا مُعسكرَ مُشَرَّدين ذاتُ النساء
والرجال اشتاقوا للشرب مروجٌ لا
من دون كلب أو فاصلةٍ منقوطةٍ أو ميدان قريةٍ
من دون قردٍ أو زنبقٍ من دون
***
السرير المطلي
(THE PAINTED BED)
«حتى عندما رقصتُ منتصباً
عند حديقةِ النيلِ
عَمَّرتُ مدينةَ أموات.
عشر ملايين خليةِ فَلّاحين
من جسدي عَوَّمَتْ حجارةً
لتنشأ متحفاً أبيضَ»
مروعٌ، فاحشٌ، وبغيضٌ
هو حديث العظام
أفخاذٌ وسواعدٌ مُنْحَلَّةٌ
إلى أكياسٍ مُجَفَّفَة من اللحم
تتدلّى من هيكل
حيث عضل كان وشحم.
«استلقيت على السرير المطلي
متضائلاً، أفكر
في الرحلة التي اجتزتها
لأستريحَ بلا وجعٍ
في قصر الظلمة
جسدي بجانب جسدكِ».
***
هوامش:
*فِنْكرِسْتين، أرا-سي، ف ب-16: مركبات كيماوية تُحقن في الوريد لعلاج السرطان.
زاهر السالمي؛ شاعر من عُمان، رئيس تحرير مجلة قنّاص الثقافية.
نصوص بديعة. شكرا على المشاركة.