“الشتاء وقت العلامة وقصائد أخرى” للفرنسية
تأتي ترجمة أنطوان جوكي لقصائد مجموعة رائد وحش الشعرية “الشتاء وقت العلامة وقصائد أخرى” للفرنسية، والتي صدرت مؤخراً عن دار Plaine page الفرنسية، لتأخذني وتأخذ النقاش النقدي نحو مساحة أخرى أراها فاعلة في تشكيل القصيدة الجديدة وتشكيل الشعر برمته: إنها مساحة “المرئي” من حولنا وتفوقه شبه الكاسح على المقروء الذي ظل طويلاً يسيطر على منابع وَعْينا بل حتى على منابع رؤيتنا. قرابة عقدين من الحياة في كنف وسائل التواصل الاجتماعية ومعها سطوة الصورة وسطوة التواصل المباشر مع الآخرين والأفكار والكتب، وبالأهم الأماكن والموجودات لم تكن قليلة التأثير على القصيدة الجديدة بل هي -في تقديري- دفعت الشعر بقوة استثنائية للتحديق في الواقع والحياة بصورة مختلفة، جديدة بالتأكيد لكن الأهم من ذلك أنها تحمل في طياتها كثيراً من عناصر “التجريد” الأكثر قدرة على التناغم مع روح الشعر وطلاقته، ومغامرته في استكشاف عوالم و”مجاهل” كان الاقتراب منها حذراً وخارجياً غالباً.
هي أيضاً قصائد وجودية تستعيد كينونة إنسانية في حالات شتاتها والقصائد خلالها تكاد تصغي لذلك الرحيل شبه الدائم والذي ينطوي على حزنه الخاص ولكنه ينطوي على رؤاه المسكونة بالوجد لأمكنة بعيدة وبشر بعيدين تتم استعادة حضورهم دوماً كما يتم بعثهم في صور أخرى قد لا تشبههم تماماً ولكنها تشير إليهم وتحكي عنهم وعن عذاباتهم الكبرى في البلاد القديمة والجديدة معاً.
ينتمي رائد وحش لهذا الزمن بالذات: أعني زمن الولع باللحظة لا باعتبارها مساحة خاطفة في الحياة والوقت، ولكن بالذات باعتبارها عالماً متكاملاً، يكمل ما قبله لكنه يكتمل به أيضاً. هي لحظة استعادة كبرى تتوغل في الذاكرة كما تتأمل في الراهن بأدوات رؤية وأدوات نظر مختلفة تجتهد كي تستعيد الصور والمشاهد ومعها الحياة التي كانت، والتي تبدو قابلة للتفسير من جديد أو إذا شئنا الدقة قابلة للحياة على نحو مختلف. هي جولة أخرى في الشعر بعد بدايات رأيناها له في “دم أبيض”، “لا أحد يحلم كأحد”، “عندما لم تقع الحرب”، و”مشاة نلتقي.. مشاة نفترق”؛ وفيها جميعاً حافظ رائد وحش على صداقته الحميمة مع ذاكرته التي رأيناها تحضر في سطوره الشعرية لا باعتبارها وقائع وأحداث عاشها صاحبها ومضت عنه ومضى عنها بل عوالم حية تتماهى مع الراهن وتحاوره وتقود في اتجاه مشاهدات ومشاهد تصبح قوام الشعر كله وهي تبني شعريتها الخاصة، المثقلة بوجدها، والمنتمية لفضاءات فيها الكثير من حرقة وانكسارات تعلو وتنخفض ولكنها تظل حاضرة وتثير لواعج الأسى مثلما تثير رغبة كبرى في مواصلة العيش والحياة رغم كل شيء.
“- قابلت فيك أول شيخوختي
– قابلت فيك آخر شبابي
تفعل اللقاءات ذلك دوما
وتجعل البشر مرايا
ما دامت تحدث في شتاء قاس
كأنه تعريف الزمن”.
هي اللغة في بحثها عن “مشهد” أو ما يشبه المشهد، والقصيدة إذ تفعل ذلك ترنو إلى أفق شعري يعيد تركيب الحياة على نحو مختلف: شيء من هذا رأيناه في مجموعتي رائد وحش السابقتين “لا أحد يحلم كأحد” و”عندما لم تقع الحرب” ولكنه كان في المجموعتين “يسرد” ويسترسل في سرديته لما رأى، لكنه هنا يقترب أكثر من الرسم للمشهد ويضيف إلى ذلك حيوية في المشهد تلامس الدراما دون أن تغرق فيها. درامية سطور رائد الشعرية مفتوحة على ذاكرته وعلى راهنه، وهي لهذا تأتي حيوية، ساخنة ومفعمة بالوجد. هو في ذلك يوظف ذاكرته لتأسيس شهادته الروحية بلغة شعرية تزدحم بالأحداث والمعاني وتضطرم سطورها بتناقضات الماضي والراهن وسنرى اللغة “تتباسط” حد اليسر لكنها تترك للمعاني والمضامين أن تطلق خيول الشراسة على نحو جميل لا يغافل المعني لكنه يتوحد مع الشعر ويؤنس وحدته وغربته.
يقارب رائد وحش روح البدوي بل هو يستعيد ذاكرته حيث الأشياء بسيطة تماماً، لكن جهده الشعري ينصب على رؤية البدوي في العواصم الكبرى وأيضاً في حالات التواصل الكلي مع العالم:
“جلسنا في البار
مع استعادة الدفء رحت تقول:
ثمة حياة وضعت من قبل لا يسعنا اكتناه أسرارها قبل أن تغدو النهاية وشيكة”
في قصائد المجموعة اقتراب أكبر وأوسع مدى من فكرة الشعر اليومي لا بمدلوله “التدويني” ولكن باعتنائه بتقديم شهادات روحية تضع حيويتها في نسيج الشعر، وهي شهادات تراهن على قوَة المشهد وتركيبيته فنحن أمام اجتهاد فني لا يخفي رغبة الشاعر في القبض على لحظة الدراما واستخدامها في استعادة ما كان من خلال الراهن أولاً، ولكن أيضاً من خلال سطوة الشعر الحي وقدرته على بناء معمار فني فسيفسائي فيه الكثير من العناصر التي تتصارع ولا تتناقض، وتؤلف بمجموعها وصراعها حياة شعرية تشبه الحياة الواقعية ولكن ليس تماماً، وتشبه الأفكار المجرَدة ولكن ليس تماماً أيضاً.
أهم ما في قصائد هذه المجموعة يقع في البنائية الفنية ذاتها، وهي بنائية تقوم على سرد المديات القصوى للمشهد ومدلولاته، كما استدراج اللغة إلى مساحات النظر المباشر والمتخيل معاً: سأقول أن المخيلة سيدة هذه القصائد حتى حين يحكي الشاعر عن وقائع حقيقية مضت وانقضت، فهو يستعيدها من حدقة مخيلته ويعيد تركيبها على نحو مختلف فيه الكثير من ولع الفن:
“رأيتك تمشي حافياً
تحت الشمس
وعلى كتفيك عباءة مقصبة الأطراف
وعند الأفق تصبح جملاً”
في “الشتاء وقت العلامة وقصائد أخرى” يبدو الترحال بمعنييه المكاني والزماني حاضراً بحيوية خصوصاً وأن صاحب القصائد يجعل هذا “التجول الحر” في الأمكنة البعيدة عن “مضارب أهله وعشيرته” لوناً من تأمُل قصي في الحياة بكل تعرجاتها، تأملاً يستبيح القول والسرد على نحو جارح وان ظهر بسيطاً وسردياً وأتى بما يشبه اللامبالاة. هي قصائد وجع تترسخ في ذات الشاعر وروحه وتشتبك مع الأفكار والتأمل والرؤى المعاصرة للأشياء. هنا بالذات نتحدث عن رؤى فادحة لعالم بالغ الفداحة إذ يبدو للمهاجر المتجول نوعاً من رحلة إجبارية تدعو للقلق وتدعو للحنين معاً، ورائد وحش يصيخ طيلة الوقت لهتافات روحه الداخلية وينشدها في سرديات شعرية فيها الكثير من حكمة الشعر وفوضاه:
“يمضيان معاً إلى الوداع
فيقول الأول لقرينه:
ستحيا لأجل لقاء شخصك الآخر،
يمكن أن يكون اثنين أو أكثر،
كن سعيداً بذلك،
فشخص واحد في المرآة
أكذوبة اختلقها فتى أرعن”
تجربة رائد وحش الشعرية في هذه المجموعة تشبه قليلاً بداياته الأولى كواحد من أبناء الشعرية الجديدة في فلسطين وسوريا معاً، أولئك الذين قرأنا بداياتهم في تلك المجموعات التي صدرت عن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية وعرفنا من خلالها مجموعة من الأسماء الجديدة التي واصل أصحابها -بمسارات مختلفة- سعيهم الدؤوب لتأثيث قصائدهم بما في الحياة من وهج يحث الإبداع على التقصي والانتباه ويحثهم هم أنفسهم على تجاوز تجاربهم والارتقاء بها.
راسم المدهون: شاعر فلسطيني من مواليد 1948، صدرت له المجموعات الشعرية التالية: “عصافير من الورد (1983)”، “دفتر البحر (1985)”، “ما لم تقله الذاكرة (1989)”، “حيث الظهيرة في برجها (2002)”، “أغنية للذبول (2018)”، “نامي لأحلم (2022)”.
عمل في الصحافة الفلسطينية والعربية وكتب في “الحياة الدولية” منذ 1988 وحتى توقفها عن الصدور.