الشاعر اليهودي روني سوميك (بغداد 1951)، والذي هاجر من العراق مع عائلته إلى “إسرائيل” عام 1953 ومن ثمَّ درس الفلسفة في جامعة تل أبيب، صدرت له مختارات شعرية باللغة العربية من مجموع أعماله بعنوان “أحبُّها وليحتَرق العالَم” (دار راية 2022، ترجمة: ريم غنايم) ذلك عن دواوينه: المنفي 1976، صولو 1980، إسفلت 1984، سبعة خطوط على عجب ياركون 1987، فهد 1989، مريم دموي 1994، جنَّة للأرز 1996، خواجا بياليك 2004، قوَّة الحصان 2013 وغيرها. فتراه وهو يحفر، يُنقِّب عن الجوهري في الحياة؛ عن التآخي الإنساني لا العرقي، ولا الديني من ثنايا غير الجوهري بنقرة واحدة على القلب، وبمعرفة حدسية عاصفة. فاليهودي؛ أو بدقٍّةٍ أكثر، ليس عدواً للعربي؛ كان سورياً أو مصرياً أو جزائرياً، أو الفلسطيني- هنا فلسطين التي لم يرَ في أشعاره كغيره من الأدباء الإسرائيليين بأنها الحلم الأبدي لبني دينه من يهود العالم فهو ما يزال يحنُّ للعراق: في بغداد العراق وُلِدتُ. اسمي مدوَّنٌ بالعربيَّة على شهادة ميلادي، وعلى ظهر أوَّل جواز سفر لي، شَعَرَ أبي وأمي بالفخر والاعتزاز بالعراق الذي وُلِدا فيه، لكنَّهما لم يعلِّماني يوماً أن أكتب وأقرأ بلغة أمي.
الشاعر روني سميك في مختاراته هذه (أحبُّها وليحتَرق العالَم) مع رسالة كُتبت بمثابة مقدمة خصيصاً للمجموعة من الشاعر السوري أدونيس هو رسَّامُ الحقائق، رياضي الإرادة، تراه وقد أشرع الأشرعة لسفينة الشعر ليكون شعره حارس القيم الأخلاقية والسياسية والجمالية للإنسان. فبدا شاعراً جريئاً ذو إرادة عملاقة ضد اللص، ضد اللصوص الذين لا يسرقون ليأكلوا ما سرقوا ردءاً لجوع. بل لتعزيز مفهوم الاحتياز والتملك- سرقة فلسطين: الأحمرُ في عَلَمٍ فلسطين سُرِق من نار المشاعل، الأبيضُ من جيرٍ قُشِّرَ من الجدار، الأخضرُ من صرخة الشجرة، والأَسْوَدُ ظلامٌ دامس، إذاً يا الله صيروا دولة، وأعيدوا الأخضر إلى الأرض، الأبيض إلى قميص العيد، الأسود إلى القهوة، والأحمر إلى شهوة على شفاه الجميلات، حيث جئن رام الله لمسابقة “ملكة جمال فلسطين” التي ألغوها.
وسنرى في شعره أن العقل لا يبرر للغاية الدينية أن تحتل، تغتصب حقاً ليس لها، مع إن الشعر، والفنون عامة في تخييلاتها- في التخييل، هي خالقة، باعثة للأشباح والظلال. الشاعر روني سميك، وأعتقد أن سبب شهرته العالمية رغم حصوله على جوائز من دولة إسرائيل مثل: جائزة أكوم (جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين الموسيقى في إسرائيل) جائزة اليوبيل الخاصة لإنجاز خاص، 1987، جائزة رئيس الوزراء 1989- 2000، جائزة يهودا أميشاي للشعر العبري 2005، وعلى جائزة الرجل المثالي من “الأسود الدولية” 2016. تعود إلى أنه في قصائده لا يدعو غلى الكراهية والغرور والكبرياء وحب السيطرة والخضوع والخشوع. هو يدعو إلى الحب، إلى التحابُب الذي يولِّد الشعور بالأمن وطلب المزيد من الحياة: بين أسماك القرش السابحة في محيط اللسان، تستترُ سمكة صغيرة اسمها الحب، بحياتها تحمي العالمَ من الطوفان القادم.
فالعقل عنده وإن كان الشعر يكره تدخلاته؛ تدخلات العقل، هو لا يعتدي، وعليه في صوره التي يرسمها في قصائده أن لا تكون صوراً، لقطاتٍ، ومضاتٍ من انفعالاتٍ مرَضية تثير الكراهية: يضعوننا على الكعكة مثل دُمى العروس والعريس، حتى لو حضرت السكين سنحاول أن نظلَّ في ذات القطعة.
صورٌ عابرة تملأ شعره، لكنها تستوطن المشاعر والأحاسيس، فتوقظها مهما كانت الروح خاملة، أو مُصابة بالكسل. بل أكثر من ذلك ترى صوره تحلق فوق جبال الفكر الجليدية، ومن ثمَّ تهبط إلى ينابيع الشعور بإنسانية الإنسان: هل تعرف- قالت الجارة الروسية لأبي، أم كلثوم التي تستمع إليها بصوتٍ عالٍ، قالت إنها ستأتي لتغني في تل أبيب بعد أن يحتلها عبد الناصر. وقفتُ جواره وفي رأس ابن الأعوام السبعة دارت معضلة:هل أنا مع اللون الأشقر والعيون الفيروزية للمرأة التي كانت أيضاً والدة لِيلِـي التي توَّجتُها على قلبي ملكة جمال حارةُ مَنْ تمَّ إخلاؤهم من”المعباروت”. أم مع المطربة التي أرادت أن نعيش في عيون الليل وتنادي للشمس “تعالي -تعالي”!نحن”، خرجت الكلماتُ من شفتي أبي: “نحبها”. وفي عينيه رأيته يحلم بأن يقول: لو كان هذا الكلام صحيحاً، فليكن، يا الله، تعال يا ناصر! ولو لدقيقة احجز لي مكاناً في الصفِّ الأوَّل، ولا تجعلني أخسر لثانية هذه التي يُطيِّر فيها صوتُها حتى البابيونات عن أعناق عازفي الكمان.
الشاعر روني سوميك في قصائده ذات النزعة الإنسانية، كمن يشربُ من نقاء نبع ماء الجبل الرائق، وأن النقاء هو سُلَّمُ صعود الشاعر نحو الذروة البطولية.
عماد الدين موسى؛ شاعر كُردي سوري، مدير تحرير مجلة «قناص».