تتَّسِمُ الفنون بالتَّجدُّد المُستمرّ، والانفتاح على إمكانات جديدة على مرّ العُصور، ومن بين هذهِ الفنون ينطوي (فنّ الزَّخارف) منذُ أقدم الأزمنة، حتّى وقتنا الحاضر، على قُدراتٍ وطاقاتٍ كبيرة وخلّاقة، تفتحُ الباب، باستمرارٍ، لتجارِب لا تخلو من الإضافة.
ويُعرَّفُ فنُّ الزَّخارفِ بأنَّهُ: “أحدُ علوم الفُنون التي تهدفُ إلى البَحث في فلسفة النِّسبة والتَّناسُب والتَّجريد والكُتلة والفراغ والتَّكوين والخطّ واللَّون”[1].
حولَ توظيف مادَّة (الرّيزين) في فنّ الزَّخارف لأوَّل مرّة
تعودُ علاقتي مع مادَّة (الرّيزين) إلى العام 2018، وكانَ عمَلي عليها يقومُ على صبِّ منحوتاتٍ وتماثيل، وتلوينِها وتعتيقِها، كما درَجتِ العادةُ في استخدامِها.
والرّيزين أو “الإيبوكسي”، كما عرَّفتُهُ في مقالةٍ كُتِبَتْ عن تجرِبتي في هذا المضمار في تلفزيون الخبر[2] هوَ: “مادّة شفّافة تُضاف إليها موادّ خاصّة لتُصبِحَ مادّة صلبة تُشبِه الحجر، وتُوضَع في قوالِبَ خاصّة من السِّيليكون حصراً لتأخذ الشَّكلَ المطلوب”[3]، فالرّيزين “مادّة لزجة تُستخرَجُ من نبتة الخروع، وتدخلُ في صناعة سائل الكوابح والصّابون والحبر، ولكنَّها عندما تُخلَطُ مع موادّ أُخرى كالرَّمل والبودرة تصيرُ كالرُّخام، ويتمُّ تلوينُها بعدَ تشكيلِها”[4].
وفي الحقيقة، إنَّ “تلكَ المادّة الشَّفّافة تصعبُ صناعتُها إلاّ بواسطة معامل كيميائيّة مُتخصِّصة، حيثُ إنَّ أوَّل من قامَ بصُنعِها واختراعِها هوَ العالِم الكيميائيّ (وورتز) مُستخدِماً مادَّة الإيبوكسي، وأفادتِ الدِّراسات أنَّ صناعة الرّيزين تتمُّ عبرَ أكسدة خفيفة لمادَّة الهيدروكسي كلوريد الإيتان في وسطٍ قلويّ، كما تدخلُ الآن العديد من الأشجار في صناعة تلكَ المادَّة باستخراج الموادّ الصِّمغيّة من شجر الصَّنوبر والتّنوبيات لتصنيع مادَّة الرّيزين الصّلبة”[5].
لكنَّ عمَلي على مادَّة الرّيزين، قادَني في العام 2020 إثرَ تجارِب طويلة نسبيّاً، إلى ابتكار عجينة نافِرة جديدة (تتألَّفُ من مادَّة الرّيزين مع موادّ خاصّة تدخُل في تشكيل تلكَ العجينة)، حيثُ قمْتُ بتوظيفِها في (فنّ الزَّخرفة) لأوَّل مرّة.
ولعلَّ هذا الاستخدام المُختلِف، بما هوَ الأوَّلُ من نوعِهِ لمادّة الرّيزين، ينطوي على مُحاوَلة لتقديم نزعة تصميميّة جديدة تكونُ رافِداً تقنيّاً وفنِّيّاً يُغنِي، إلى حدٍّ ما، فنَّ الزَّخرفة، ويسعى إلى الحفاظ على فنٍّ يدويٍّ أصيلٍ برُؤيةٍ مُعاصِرة.
وقد اقترحتُ أنْ أُطلِقَ عليهِ تسميةَ: فنّ (زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ)؛ لمَا عُرِفَ، أوَّلاً، عن غِنَى دمشق التّاريخيّ بفنّ الزَّخارف، ولا سيما ابتكار الفنّانين فيها لفنّ (الدِّهان الدِّمشقيّ/ العجميّ) الشَّهير عالَميّاً في العصر الأمويّ، فضلاً عن كوني، ثانياً، قد ابتكرتُ هذهِ العجينة وهذهِ التَّجرِبة في فنّ الزَّخرفة في مدينة دمشق نفسِها.
حولَ اقتراح (فنّ زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ) على المُستوى التِّقنيّ
أستطيعُ أنْ أشرَحَ، من حيثُ المبدأ، المَراحِلَ التِّقنيّة لإنجاز (زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ) انطلاقاً من ذكر المَراحِل التي يقومُ عليها فنّ (زخارف الدِّهان الدِّمشقيّ/ العجميّ)، وسببُ هذهِ المُقارَنة يكمنُ، أوَّلاً، في صِلَة النَّسَب الفنِّيّ التَّأصيليّ بينَ زخارف الرّيزين وزخارف الدِّهان الدِّمشقيّ، ويكمنُ، ثانياً، في أنَّ العجينتيْن هُما عجينتان نافرتان تتكوَّنان من موادّ خاصّة مُتعدِّدة، فضلاً عن التَّشابُه، إلى حدٍّ ما، بخُطوات العمَل في الفنَّيْن، وإنْ كانت مَراحِل زخارف الرّيزين أكثَر سُرعةً واختصاراً من مَراحِل الدِّهان الدِّمشقيّ، مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ موادّ العجميّ نباتيّة، في حين أنَّ موادّ الرّيزين كيميائيّة، وتتَّصفُ بالصَّلابة وبعدم تعرُّضِها للخدش أو الكسر إلى حدٍّ كبير.
مَراحِل إنجاز زخارف الدِّهان الدِّمشقيَ بالتَّرتيب[6]:
(تقطيع الخشب _ تأسيس الخشب بموادّ نباتيّة _ حفّ الأساس _ التَّغطية بطبقة قماش _ تأسيس الخشب بالنَّباتيّ السّائل _ تحضير التَّصميم _ طباعة التَّصميم ببودرة الفحم _ تنزيل المادَّة النّافِرة/ النَّباتيّة _ دهان المادَّة النّافِرة/ النَّباتيّة _ تنزيل الأرضيّات الرَّئيسيّة _ تنزيل الألوان الرَّئيسيّة/ الفضِّيّ والذَّهبيّ _ تنزيل الألوان الثّانويّة _ القطع _ التَّسطير والتَّحليّة _ التَّلكير والتَّعتيق).
أمّا مَراحِل إنجاز زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ:
(تقطيع الخشب _ تأسيس الخشب بموادّ كيميائيّة _ حفّ الأساس _ تحضير التَّصميم _ طباعة التَّصميم _ تلوين المساحات والأشكال المُراد تلوينُها _ إضافة اللَّون المُرغوب بهِ للمادَّة النّافِرة/ الكيميائيّة _ وضع المادَّة النّافِرة/ الكيميائيّة في عصّارة _ تنزيل المادَّة النّافِرة/ الكيميائيّة (وهوَ الأمرُ الذي يتطلَّبُ مهارةً خاصّة لإنجازهِ) _ لصق أشكال مصبوبة حسب ما يتطلَّبُهُ الشَّكل: (نستطيعُ إضافةَ قطَعٍ مصبوبة من الرّيزين تُساعد في استكمال الشَّكل بلصقِها على سطح العمَل بموادّ خاصّة) _ التَّلكير والتَّعتيق: إذا تطلَّبَ الأمرُ ذلكَ). _ مُلاحظة: يُمكنُ صبُّ الإبوكسي (وهيَ طبَقة شفّافة) على سطح اللَّوحة.
مدخل أوَّليّ مفتوح لاقتراح (فنّ زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ) على المُستوى الفنِّيّ
إنَّ تجرِبتي في فنّ زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ حتّى الآن، تقومُ على استخدام خلطة زخرفيّة جميلة تجمعُ بينَ الشَّكل الهندسيّ والنَّباتيّ، حيثُ اعتمدتُ من النّاحية اللَّونيّة على مجموعة لونيّة تميلُ إلى أنْ تكونَ قليلةً، نوعاً ما.
كما اعتمدتُ، كذلكَ، في اختيار مُعظَم أرضيات لوحاتي على اللَّون الكُحليّ والخمريّ والزَّيتيّ، وعلى تطعيمِها باللَّونيْن الذّهبيّ والفضِّيّ، فضلاً عن وجود بعض الألوان الأُخرى إلى جانبِ تلكَ الألوان المذكورة هُنا.
وعلى كُلِّ حالٍ: يبقى هذا وصفٌ أوَّليّ خاصّ بتجرِبتي حتّى هذهِ اللَّحظة، وهوَ عمَلٌ مفتوحٌ على مُحاوَلاتٍ قادمة تتعلَّقُ بتناسُق الألوان وتناغُمِها، وعلى تجارِبَ قد تكونُ أكثَر حُرِّيَّةً في الشَّكل والرَّسم والألوان، حيثُ تدخلُ، بطبيعةِ الحال، في فنِّ العمارة والدِّيكور والأثاث، وقد كانتْ لي تجرِبةٌ في هذا المِضمار بتوظيف زخارِف الرّيزين في تزيين بعض الموادّ الصِّناعيّة، ممّا يُضيفُ قيمةً جَماليّة للأعمال التِّجاريّة.
ولذلكَ، فالأمرُ يعني أنَّ اقتراحي هذا يُوضَعُ تحتَ إطار المُمكِن فنِّيّاً، والمُحتمَل جَماليّاً؛ ذلكَ أنَّ هذهِ التَّجرِبة مفتوحة، رُبَّما، على إمكانات مُستقبَليّة جديدة ومُعاصِرة، سواء كانَ ذلكَ عبرَ السَّعي إلى استلهام روح الزَّخارِف الدِّمشقيّة والعربيّة وتطويرِها، أو كانَ ذلكَ عبرَ السَّعي إلى الانفتاح على روح الزَّخارف الغربيّة والعالَميّة.
ولعلَّ هذا التَّوجُّه يطمَحُ إلى أنْ يقَعَ في باب العمَل الجادّ لمُحاوَلة إعادة الاعتبار لفنِّ الزَّخارِف بما هوَ إنتاجٌ يدويٌّ أصيل، يجمَعُ بينَ الحِرفة والفنّ، وهذا ما نسِيَهُ وأهمَلَهُ الكثيرون، في غمرة الاهتمام بالفُنون البصَريّة الطّاغية في عصر ثورة الرَّقميّات والاتِّصالات ووسائل التَّواصُل الاجتماعيّ.
أخيراً، وليسَ آخِراً: أُشيرُ، في هذا السِّياق، إلى أنَّني سأُشاركُ، خلالَ هذا العام (2022)، بعددٍ من تجارِبي في (فنِّ زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ) في مَعرضٍ سيُقامَ في (مدينة نيويورك) في الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة في صالة (Agora Gallery)، والجهة المُنظِّمة لهُ هيَ: (Agora Gallery International). _ مُلاحظة: اللّوحات المُرفَقة بهذهِ المقالة تنتمي إلى تجارِب (فنّ زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ)، وهيَ من تصميم ريَام الحاج وتنفيذها.
الهوامش:
[1] أنواع الزَّخارف الإسلاميّة: موسوعة طبّ 21، 15/ 12/ 2019.
[2] يُنظَر: هل سمعتَ بمادّة “الريزين” التي تُصنَع منها المنحوتات والإكسسوارات وأحجار الشطرنج؟: رنا سليمان (تلفزيون الخبر: 20/ 9/ 2019).
[3] المقالة نفسُها.
[4] المقالة نفسُها.
[5] كيفَ تُصنَع مادّة الرّيزين: المرسال، 20/ 7/ 2020.
[6] يُنظَر: Stages and Steps of Ajami Handmade Art (Damascene art) _ مراحل وخُطوات.