قبل الشروع فى قراءة رواية «رابطة كارهي سليم العشي»، للروائي المصري سامح الجباس، الصادرة عن دار العين للنشر (٢٠٢١)، تعمدت ألا أطلع على أي معلومة تخص الشخصية الحقيقية التى تدور حولها الرواية. أيضا، ولا أظنها من نفحات صاحب “العقيدة الداهشية” فقد كنت قبل قراءة هذه الرواية بوقت قصير جدا أعمل على كتابين محورهما الموضوع ذاته، الروح وأبدية عيّشها وعن الوساطة الروحية والماورائيات، وكلا الكتابين ذكرا أيضا في هذه الرواية، فيالا الصدفة!.
تدور اواية سامح الجباس حول الأديب اللبناني”سليم موسي العشي” والذى ألف عشرات الكتب الأدبية، آلف تقريبا فى كل الأجناس الأدبية، والإجتماعية والفلسفية أيضا. وقد وصفته بالأديب لآنها حتى الأن الصفة الأوضح أو المعترف بها من مريديه ومعارضيه، من محبيه وكارهيه، قبل أن يكون مؤسس لمذهب وعقيدة جديدة “الداهشية”.
فى آواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أنتشرت العقائد الروحية فى العالم أجمع، من كل الجنسيات والأديان، وكأنما فجأة أكتشفت البشرية المذاهب الروحانية وكُشفت الحجب عن العالم المتوارى عن أنظارنا المادية. وعلى العكس مما يظنه البعض من انخراط أصحاب العقول المحدودة إلى هذه الحركات الروحانية، فقد أنضم بل وكانوا من أكبر المجرّبين فى هذا المجال، علماء كان لهم أكبر الأثر فى العلوم التطبيقة. علماء فيزياء وأحياء وأطباء، ممن يُحتّم عليهم تخصصهم تصديق ما ينطبق عليه المنهج العلمي من التجريب والملاحظة. ولم يتخلف العرب عن اللحاق بالايمان بهذه المذاهب بل كان لهم تاريخ طويل فيها قبل الجميع.
من بين أسماء كثيرة ذاع صيتها فى الإيمان أو الإنخراط فى هذه المذاهب الروحية الأديب “سليم موسي العشي” أو من أطلق عليه فيما بعد اسم روحي هو “داهش”. وكما جاء بالرواية والمعلومات من “ويكيبيديا” أن مريديه هم مَن أقترعوا بعدة أسماء أختير داهش من بينها. وقيل أنه سمي داهش لكثرة ما أدهش الناظرين بخوارقه.
تأثير ابن بيت لحم على كبار الأدباء العرب
من أهم ما يلفت النظر فى الرواية الأسماء الحقيقية المذكورة فى مصر ولبنان بالأخص. فقد أنخرط فى العقيدة الداهشية كبار الشخصيات الأدبية والعلمية فى لبنان بل وتحمّلوا السجن والتعذيب والتضيق من أجل هذه العقيدة.
وكان لسليم العشي تأثيراً، أو كما أبرزت الرواية، على قامات روائية مصرية عظيمة كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، وفنان كيوسف وهبي وغيرهم. وقد جاءت صورهم على غلاف الرواية. فمثلا أديب عملاق كتوفيق الحكيم الذى كتب روايته “الدنيا رواية”، وكتاب نشيد الأناشيد، ومسرحية سليمان الحكيم. ولنأخذ أيضا أديب نوبل مثالا، والذى لم يكن مجرد أديب نابغ فيما يكتب، بل كان صاحب مشروع روائي وكتابي معروف ومفهوم فكريا وفلسفيا وسياسيا، وفجأة ينقلب ويكتب رواية “المرايا” والتى شبهها، سامح الجباس، بحكاية ماجدا حداد فى الرواية، الفتاة التى انتحرت اعتراضا على ظلم “هاديها” داهش الذى تعرض للسجن والتعذيب والحرمان من الجنسية على يد بشارة الخورى رئيس الجمهورية اللبنانية. وأيضا قصة “سابا رمزي” التى تشابهت إلى حد كبير بحكاية سليم العشي الحقيقية، وكل هذه الروايات والمسرحيات والقصص كتبها هؤلاء فى أوقات زار فيها الدكتور داهش مصر. وكذلك فى نهاية الرواية أتى الكاتب على سيرة الممثل يوسف وهبي وعلاقته بداهش، سليم العشي. فهل زيارة الرجل لمصر أثرت بهذا الشكل على بعض أعظم العقول فيها؟ أم أنها مجرد مصادفة؟
حدود الوهم والحقيقة
تحيّرتُ، وربما بالمثل حدث للكثيرين عند قراءة هذه الرواية المراوغة! فكل الأشخاص، تقريبا، الوارد ذكرهم بالرواية بعد البحث عرفت بحقيقتهم وما حدث معهم وعلاقتهم بسليم العشي. بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية الذى سجن الدكتور داهش، ماري حداد زينا حداد ماجدا، وحليم دموس.
الإطار السردي فى الرواية قصة وقعت بالفعل، بحسب الرواية، بطلها هو الكاتب الحقيقي سامح الجباس نفسه “فى هذين العامين حدث لي أمر ما، لم يكن مصرحا لي بالكتابة عنه والآن زال العائق. أعرف ما سأحكيه ربما يثير جدلاً كبيرا أو سخطا، لكن لابد من البوح بما حدث، فليصدقني أو يكذبني من يريد”.تلك بعض مقتطفات الصفحة الأولى التى بدأت بها الرواية. هذه التقنية ربما ظهرت فى الأدب العربي فى الآونة الأخيرة، أو هى تقنية ليست مشهورة على أي حال، لكن لا يتقنها إلا من يبرع فى الإمساك بخيوط اللعبة بكل دقة حتى يضفر الحقيقي والوقائع المعروفة بالمُتخيّل، وليد خيال الروائي. أقصد بهذه التقنية إقحام الكاتب نفسه، بإسمه وشخصه فى عوالم شخوصه المختلقة. وإذا ما عجزت عن تمييز الواقع من الخيال، فهذا دليل على نجاح الكاتب فيما يفعل.
البراعة اللغوية من أهم مميزات الرواية
من المعروف، فى كل اللغات، إنك لو قرأت كتاب صدر فى عام 1900 مثلا ستكون اللغة فيه وتركيب الجمل والمصطلحات والصياغة مغايرة تماما عمّا هي عليه فى كتاب صدر عام 2000، فواحدة من معاني حياة اللغة هو التلون بلون العصور والمرونة مع المعاصر دائما فالجمود معناه الموت. وهذه هى عبقرية اللغة فى تلك الرواية. فقد كتبت الرواية فى خطين سرديين وزمنين مختلفين تماما. فعندما كان مثلا يكتب تلك الخطابات أو المقالات أو الجمل الحوارية على ألسن الشخوص الذين عاشوا فى آواخر القرن ال19 وأوائل ال20، كان يكتبها بلغة هي لعصرها أقرب، حتى أن القارئ المعاصر يجدها غريبة عليه، رغم أنها باللغة العربية. وبالمثل عندما كتب الجمل الحوارية وفقرات “المنولوج الداخلي” لسامح المعاصر، كتبها بلغة سلسلة بالنسبة لنا كقراء معاصرين. أجاد سامح الجباس التلاعب بالغة بأفضل ما يكون.
مُبشّر أم دجال؟
عندما أنتهيت من القراءة، وبعد عدد لا يحصى من الأسئلة، فهي رواية الأسئلة، تنامى فى ذهني السؤال الأبرز “هل كان سليم العشي صاحب عقيدة جديدة حقا أم دجالا؟”، هل كان نبيا يوحى إليه من قوى عليا أم أنه مجرد نصّاب ذكي برع فى آداء خدعه البصرية التى جذب بها مَن آمنوا به؟ هل كان ممن يمتلكون علما له علاقة بدراسة علم النفس مثلا فاستطاع الإيحاء إلى الحاضرين بأنه يجترح المعجزات، أم أنه حقا يعرف بعضا مما أحتجب عن الآخرين؟ أو ربما بما أننا لم نحط علماً بكل ما يحتويه الكون ومحدودية علمنا بالوجود فهناك قوى أو ظواهر لا ندركها بالحواس المجردة؟ أم أن الرجل ببساطة كان فقط يتحدث بحديث العقل بعيدا عن المحفوظات والتابوهات التى توارثناها دون التفكير فيها لحظة؟ فقد كان يقول أن جوهر الأديان، إسلام ومسيحية ويهودية واحد، وهى حقيقة. وإن ما وصلنا إليه من تناحر ديني من صنع بعض رجال الدين وهذا حقيقي أيضا، كما أنه كان يدعوا للتفكير فيما لم يحرّم علينا التفكير فيه! وكان يدعوا للإخاء والمساواة وغيرها من المُثل التى تنادي بها الحضارة أو من المفترض أن تنادي بها.
حيرة الكاتب والقارئ
أتْخمتُ الرواية بالأسئلة أو كما ذكر الكاتب “الأسئلة أكثر من الإجابات”، لكنها قليلة بالنسبة للأسئلة التى تبعثها الرواية في ذهن القارئ دون وجود إجابات شافية عليها، فهل بالفعل تأثر محفوظ وأعلام الأدب والفكر المصري بسليم العشي واتبعوا المذهب الداهشي بعدما فعل الكثيرين فى لبنان؟ هل بالفعل سليم العشي كان يتلقى رسائل إلاهية مثلا عما كان وماهو كائن وما سيكون؟ هل اجترح الرجل المعجزات بالفعل؟
غواية الرواية
إذا راج موضوع معيّن، أو حاز على جائزة يكون بمثابة إعلان أو إذن لإنطلاق الكثيرين في الكتابة عن نفس الموضوع حتى يُقتل. لكن الرواية التى يمكننا أن نطلق عليها حسب هوانا “توثيقية أو تاريخية” هي ما يغري القارئ المتمرس أكثر. فموضوعها مجهول بالنسبة للكثيرين. فسليم العشي، ورغم عشرات الكتب المنشورة عنه أو كتبه التي كتبها، ورغم متحفه القائم إلا أن أحدا، فى وقتنا الحالي، لا يعرف عنه الكثير حتى جاءت هذه الرواية وبعثته من جديد، لنعرف ما حدث. فاختلاف موضوع الرواية هو الغواية. أيضا كّم وكيف هو البحث في هذه الرواية عميق ومضْنٍ جدا، فكمُّ المعلومات المتدفقة في الرواية تجبر القارئ على البحث وراء ما يقرأ، وإن لم يبذل الكاتب من قبل هذا المجهود بالفعل ما كان وصل هذا الاحساس والحث على البحث للقارئ، وهذه أيضا من غوايات الرواية. وربما الغواية الثالثة تتمثل في النهاية الدرامية الغرائبية والغير متوقعة على الإطلاق ، سامح أم سليم؟
كقارئة ومشاهدة، أود لو تنفذ هذه الرواية بصورة مرئية، أقصد مسلسلا تلفزيونياً لما تحتوية من أحداث غرائبية أظن أنها ستستولي على اهتمام الكثرين!