قصة قصيرة لـِ باسم سليمان: ضحك الضباع
- انظروا إلى بلادته! إنّه عديم الإحساس! إنّه عار على المفترسات؟
كان التمساح يسمع ما تقوله الحيوانات عنه؛ فيحار بما يردّ عليها، كي تتوقّف عن السخرية منه؛ ومع ذلك احتمى بصمته هربًا من تهكّم الحيوانات، وأخفى حزنه وغضبه في قلبه، فليس من أحد يشكو إليه، إلّا نفسه: ما الذي أختلف به عن الأسد، والضبع، وكلب السهوب، حتى يتم ازدرائي من قبل حيوانات الغابة؟
لم تكن هواجس التمساح تفارقه بحثًا عن الأسباب التي نحت بالحيوانات حتى تقذفه بأشنع النعوت. وفي صباح أحد الأيام قرّر أن يكسر قوقعة صمته، ويسأل عدوه اللدود فرس النهر عن الأسباب التي كانت وراء ازدراء الحيوانات له. ولا بدّ أنّ فرس النهر الذي يكنّ له كراهية منقطعة النظير، سيخبره بالأسباب الحقيقية الكامنة وراء تلك النعوت التي دمّرت حياته، وأفقدته الثقة بنفسه، لكي يزيد آلامه، نكاية به، لكنّه سينال جوابًا طالما بحث عنه.
لقد راهن التمساح نفسه على أنّ فرس النهر سيخبره الحقيقة وإن لم يفعل، فإنه سيهجر المياه العذبة إلى المياه المالحة، ففي البحر متّسع للمنبوذين أمثاله. وهناك سيغمر هدير الأمواج كلّ الأصوات والذكريات التي ما فتئت تعذّبه.
التمساح: صباح الخير يا عدوّي الطيب.
فرس النهر: أيّها التمساح، من قال لك، بأنّني عدوّك؟ فأنا لا أقبل بأعداء لا يمتلكون ذرّة من الشرف، ولكن لا أمانع أن أتبادل معك التحية، فصباح الخير.
بلع التمساح الإهانة كما يزدرد قطعة لحم صغيرة: أشكر كرمك بالردّ على تحيتي، فقل لي يا من لست ندًا لك لأكون عدوًا، لماذا أهان من المفترسات والطرائد معًا؟
فرس النهر: ألم تعرف السبب بعد! لأنّك بليد المشاعر، وعديم الإحساس. إنّ المفترسات الأخرى تجهد وتعمل، وتكاد تفقد حياتها في جولات الصيد، أمّا أنت، فتظلّ كامنًا تحت السطح، وما إن تقترب فريسة ظمأى من شطّ النهر حتى تقوم باصطيادها، فتغرقها في الماء الذي كانت تظنّه منجاتها من الموت عطشًا؛ أيوجد مفترس غيرك بهذه النذالة؟
التمساح وكأنّه كتلة من صبر: إذن ينقصني الإحساس.
فرس النهر: نعم، لكن هيهات أن تحوزه، فهو طبع وليس تطبّع. لذلك أجبتك عن سؤالك، كي تعرف أنّه لا أمل لك بأن تغيّر سمعتك بين الحيوانات.
التمساح: لا أمل لي إذن!
فرس النهر: لقد أخّرتني عن موعدي الغرامي، إنّه موسم التزاوج وأنا مليء بالمشاعر الجياشة.
قفز فرس النهر من الماء، عابرًا الضفة، رشيقًا كأنّه غزال، فجفل طائر الزقزاق وطار بجناحه المكسور. تمنّى التمساح لو لم يجبه فرس النهر، وخسر الرهان مع نفسه، وغادر هذه الغابة إلى الأبد. ومع ذلك كان قد استرعى انتباهه أسلوب طيران الزقزاق، فأراد الاستفسار منه عن السبب: غريب أمرك أيّها الزقزاق، لماذا تطير كأنّك مكسور الجناح، ولم يمسّك فرس النهر بسوء؟
لم تجر محادثة سابقة بين الزقزاق والتمساح، ومع ذلك لم يتفاجأ بسؤاله، فقد خيّل إليه بعد أن سمع ما دار من حديث بين فرس النهر والتمساح وأسلوب طيرانه بجناح مكسور، بأنّ التمساح سيسأله، ومن لحظتها أضمر أمرًا: يا مرحبًا بالتمساح؛ ساكن النهر العظيم، سأجيبك حالًا عن سؤالك، لكن قبلًا لتعلم أنّني لا أتملّقك، فأنا لست من طرائدك، وإنّما إجابتي عن سؤالك ماهي إلّا تقديرًا لك بداية، ولمصلحة فيها منفعة جمّة لك ولي. إنّني أفعل ذلك كي أجعل الحيوانات المفترسة تلحق بي وتذهل عن عشّي، معتقدة بأنّني طريدة سهلة المنال لأنّ جناحي مكسور.
دُهش التمساح من إجابة الزقزاق: يا ليتني بذكائك، لكنت غيّرت نظرة الحيوانات عنّي.
لمعت عينا الزقزاق، وكأنّه حظي بسرب من الجراد على الغداء: لدي الحلّ!
عندما سمع التمساح ما قاله الزقزاق عن وجود حلّ، لم يصدق: حقًّا، أطلب ما تريد.
الزقزاق: كلّ ما أريده أن أنظّف أسنانك من بقايا الطعام!
شعر التمساح بالإحباط من الزقزاق، فحتى وهو ميت، لم يهجس أحد بأن يقترب من فكّه، فخبط بذيله الماء كاظمًا غيظه: لا تسخر منّي أيها الزقزاق يكفيني ما نالني من فرس النهر.
طار الزقزاق إلى غصن قريب جدًا من التمساح من دون أنّ يظهر عليه الخوف: إنّني لا أسخر، ها أنا بين قوسي فكّك، وأنا واثق من أنّك لن تفترسني، ففي داخلك شعور يخبرك بأنّني أملك الحلّ. والحلّ سيؤّمن لي ولك منافع لم تخطر على بالك سابقًا، فمن خلال تنظيف أسنانك سأحصل على طعامي، وأنت ستحافظ على أسنانك قوية.
تبرّم التمساح ضجرًا من الزقزاق: سأجاريك وليغضب منّي النهر إن منعتك عن قوتك الذي تراه في فمي، لكن أريد حلًا، لا يشبه جناحك المكسور.
الزقزاق: كلّ ما تحتاجه هو الملح والماء!
التمساح: ها قد بدأنا بالتهكّم.
الزقزاق: أبدًا، فما قصدته بالملح والماء؛ الدموع. اجعَل عينك تذرف الدمع، وأنت تمزّق طريدتك.
التمساح: ولِم الدموع؟
الزقزاق: إنّها التعبير المادي عن الإحساس الذي تفتقده بطبعك، فمن يرى الدموع تطفر من عينيك، كيف له أن يحكم أنّ صاحبها بلا عواطف. والأهم من ذلك، هي البديل عن المخاطر التي تفتك بالمفترسات الأخرى وأنت في منجى منها، وقد ذمّك فرس النهر بسبب ذلك. لقد أصبحت الشمس في كبد السماء وقريبًا سترد الغزلان والجواميس وحمير الوحش لشرب الماء، صِد واحدة منها، وما إن تبدأ بالتهامها، اذرِف دمعك، وسترى النتائج في الحال.
التمساح حائرًا: إن نجحت خطتك، سيكون فمي مفتوحًا لك أبدًا، والنهر شاهد عدل.
الزقزاق: اتفقنا.
كَمُن التمساح في الماء لا يظهر منه شيء، منتظرًا أن تحدث المعجزة على يد الزقزاق. بدأت الحيوانات العطشى تتوافد إلى النهر، وما هي إلّا لحظات حتى سقط حمار وحش بين فكّي التمساح، فبدأ بالتهامه، بينما تتساقط الدموع مدرارة من عينيه. راقبت الحيوانات من مفترسات وطرائد التغيير الجوهري الذي أصاب التمساح غير مصدّقة.
في صباح اليوم التالي مرّ فرس النهر من قرب التمساح، فألقى التمساح عليه التحية. ردّ فرس النهر: صباح الخير يا عدويّ اللدود!
ذهل التمساح من تحيّة فرس النهر وصاح به: أحقًا أنا، عدوّك اللدود. فأجابه فرس النهر: نعم، أنت عدوّي اللدودّ!
إنّ ما حصل للتو كان بالنسبة للتمساح أجمل من أسمن الفرائس التي اصطادها. خبط الماء بذيله فرحًا، ونادى على طائر الزقزاق: لك ما وعدتك به، يا أجمل الطيور.
طار الزقزاق إلى فم التمساح المفتوح وبدأ يتناول طعامه من بين أسنانه.
كان هناك ضبع قد سمع حديث الزقزاق والتمساح، فأراد أن ينغصّ على التمساح فرحته، وينتقم من الزقزاق الذي يخدعه كلّ مرّة بأسلوب الجناح المكسور. والأحرى أنّه رأى مغنمًا لا يجوز عليه أن يفوته.
الضبع: سأخبر الحيوانات بأنّ دموعك دموع كذب، أيّها التمساح، إن لم تمنحني جزءًا من فرائسك.
ارتعد التمساح خوفًا من كلام الضبع وهمس: أرجوك لا تفعل، لك ما تريد.
سخر الزقزاق من تهديد الضبع وقال للتمساح: لا تترجّه، فلن يصدّقه أحد، فالكلّ يعرف بأنّه ماكر، كاذب، خبيث.
أجاب الضبع الزقزاق: نعم، أنا ماكر، وكاذب، وخبيث، لكنّ المثال قائم في فكر الحيوانات، وما الذي يمنع القياس عليه، فالبارحة كان التمساح بلا رحمة، أمّا اليوم، فهو بكّاء على ضحاياه. وأنا قد كنت كاذبًا، لكنّني اليوم صادق!
استبدّ الخوف بالتمساح من أن يخسر نظرة الاحترام الجديدة كمفترس يمتلك من المشاعر ما يدفعه للبكاء على فرائسه، فدمعت عيناه حقًّا، وصرخ بصوت مخنوق من القهر: أيّها الزقزاق…
الزقزاق: ثق بي، ولن يصيبك مكروه أبدًا.
أسقط الضبع من حسابه الجدل مع الزقزاق، وشنّ هجومًا كاسحًا على التمساح، فقال له، بأنّ تاريخه السيئ كمفترس بلا شفقة ما يزال حاضرًا في الأذهان، ولن تكفي دموعه على فريسة واحدة لتمحو سيرته، فمرور الزمن، هو الكفيل بأن يمنحه صفة المفترس المتعاطف. وبالتالي فإنّ إخبار الحيوانات بالحقيقة، سيقطع مرور الزمن، وتعود ذكريات الحيوانات المخيفة عنك، والأولى بك أن تقبل العرض الذي قدمته لك. أصابت التمساح حيرة كبيرة جرّاء كلام الضبع المنطقي، فتأمّل النهر الذي يجري إلى حتفه في البحر، وكلّم نفسه: هو رهان آخر، وليكن ما يكون.
رفض التمساح أن يعقد صفقة مع الضبع، فهدّده الضبع بالويل والثبور، وعظائم الأمور، وطفق يخبر الحيوانات، بأنّ دموع التمساح ليست إلّا دموع كذب. لم تصدّق الحيوانات كلام الضبع، ولم تعلّل عدم تصديقها له، لكنّ القصة لم تتوقّف هنا، بل إنّ الحيوان العاقل بين الحيوانات والذي يُسمّى الإنسان، ذهب في تمثّل دموع التماسيح مذاهب شتّى؛ ومن وقتها والضباع تضحك.
- ضحك الضباع؛ قصة قصيرة لـِ باسم سليمان
باسم سليمان؛ أديب سوري، صدر له: تشكيل أول -نصوص، تماماً قبلة -قصص، لم أمسس -شعر، نوكيا -رواية، مخلب الفراشة -شعر، جريمة في مسرح القباني/ الحد والشبهة -رواية، الببغاء مهرج الغابة.
قصة ماتعة، شكرا للكاتب باسم سليمان