كان وقع فوز “قماش أسود” بجائزة غسان كنفاني للرواية مبهرًا ومفرحًا للسوريّين، ولأهل الرقّة المنكوبة خصوصًا، بوصفه حدثًا ملهمًا للمدينة التي تنهض من الرماد، وتتدرّب على النسيان. أعاد فوز الكاتب والشّاعر السوريّ المغيرة الهويدي (1979) بالجائزة، وأعادت الجائزة أيضًا الاعتبار إلى الرقّة، المدينة المنسيّة قبل التراجيديا والكبيرة والمنسية بعدها، وذلك بلفت الانتباه إليها من خلال رواية «قماش أسود» التي تسلّط الضوء من جديد على مدينة عزلاء نسيها “هارون الرشيد” على كتف الفرات (بحسب شاعر رقيّ)، ثمّ وجدت نفسها فجأة تحت مجهر الأحداث والأخبار العاجلة والقصف.
وكما تحوّلت الرقّة إلى عاصمة للحدث السياسي والأخبار العاجلة، فإنها باتت مؤخّرًا مسرحًا لأعمال سردية كثيرة لشهلا العجيلي وإبراهيم الزيدي ونبيل سليمان، وموسى رحيّم عباس، وموسى حالول، ويوسف الدعيس، وأحمد خميس، ومحمود الجاسم، وآخرون. ولكنّ «قماش أسود» يقدّم وجهًا آخر، وهو يلتقط تفاصيل الخراب.
نسرين وآسيا
رواية شُجاعة غنيّة مغسولة بأسًى ثقيل، تعيد سرد الدمار الأكثر مأسوية في سوريّة؛ إذ دمّر معظم مدينة الرقّة قبل أن تندحر قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) صيف 2017. تسرد قياد أحداثها لامرأتين تنتميان إلى بيئتين مختلفتين وثقافتين مختلفتين، ولكنّهما تكوّنان وجه (سوريّة) المتناقض تمامًا كأيقونة المسرح بين قناع التراجيديا والكوميديا، ولكنهما وجهان لتراجيديا ثقيلة، على الرغم من ظلال “كوميديا سوداء” تطلّ من حين إلى آخر في عبارات ساخرة خادشة على لسان آسيا.
يهيمن ضمير المتكلم على النصّ، إذ تروي الأحداث “نسرين” الفتاة الحمصيّة المثقّفة. كانت نسرين في طريقها إلى نيل درجة الماجستير قبل أن تشتعل نار الثورة في البلاد، ترتبط الفتاة بعلاقة حبّ مع زميلها كريم “الرقّاوي”، ولكنّ انتماءها إلى غير طائفته، إضافة إلى تفاعله ومساهمته في الثورة جعل أمر ارتباطهما مستحيلًا لدى أسرتها، وبخاصة أخوها الضابط الذي شارك في قمع المتظاهرين بكلّ قسوة.
زوجة شابة لأرمل عجوز، وأرملة شابّة مع وقف التنفيذ
تستجيب نسرين لدعوة كريم وتأتي معه إلى الرقّة، مخالفة رأي أسرتها، ولكنّ نجاح الثورة لم يستمرّ كثيرًا حين استولى على المدينة تنظيم الدولة الإسلامية، وألقي القبض على كريم، فتظلّ نسرين في بيت أهله (الأب والأم المريضة)، قبل أن تهاجم المدينة قوات التحالف الدوالي وقوات (قسد). تلجأ أسرة أبي كريم، إلى قرية على شاطئ الفرات (الزور)، وتعمل نسرين خيّاطة ثياب تناسب ثقافة السلطة الجديدة (عباءات- نقب- دروع). تموت العجوز ويتزوج الأب بسرعة من آسيا، الوجه الثاني للوجع. آسيا التي تختلط فيها دماء العرب والكرد (الأب من ريف حلب، والأم كردية: “تقول إنها من إحدى العشائر غرب الرقّة، وأحيانًا تنكر ذلك وتقول إنها شيخانية، كرديّة). زيجات آسيا المتعثّرة تكسبها قوّة هائلة تفيض في المتن الروائي، فتظهر في معظم أحداث العمل. أول زيجة كانت في الخامسة عشرة، أبو كريم مؤذّن المسجد في القرية هو زوجها الرابع. امرأة في الأربعين، تفرض نمط حياتها على العجوز. تلتقي نسرين وآسيا في ظرف مأسوي (زوجة شابة لأرمل عجوز، وأرملة شابّة مع وقف التنفيذ) تعيشان معًا الأشهر الأخيرة من عمر تنظيم الدولة، وحين يقصف التحالف القرية يهرب أبو كريم ويتركهما وحيدتين تهربان إلى مخيّم قريب، تتجمّع فيه طيوف نساء مختلفات، نساء عجائز، ونساء عاجزات، يبحثن في ضعفهنّ عن المعادل الموضوعي للكارثة فلا يجدن غير حلقات الندب، واستعادة “النعّاوات” ويجدن حريّة البكاء الفراتي هذا الفائدة الوحيدة بعد هزيمة داعش.
يفيض السواد على القماش الذي يجلبه أبو كريم لتخيطه نسرين عباءات ونقب، فيصبغ الليل والأحلام والذكريات، يحضر هنا المغيرة الشاعر، فيستغرق في مشهديات فائقة الجمال والأسى على لسان نسرين في وصف سواد العجز والقهر والليل، ولا تنقذ تلك السوداوية غير شغب أبناء خولة (أحمد ونجاح وإسماعيل الألماني)، تمامًا كالورقات الخضراء الخمسة في الفصل الثاني من “في انتظار غودو” الكئيبة، وحضور يوسف الشابّ الذي نجا بحياته وكتبه وأحلامه، وأعاد إلى نسرين حلم النجاة.
حبكة روائية متقنة
لجنة التحكيم في جائزة غسان كنفاني بيّنت في تقريرها أنّ الرواية “رصدت وجع السوريين وعذاباتهم في منطقة الرقة من خلال حبكة روائية متقنة تمكنت وباقتدار من تسليط الضوء على معاناة المرأة في أماكن النزاع المسلح”. وفي تقريظها للعمل الذي اختير من بين 150 عملًا روائيًّا أكّد بيان اللجنة أنّه يحسب لها: “تركيزها على مناح إنسانية متنوعة تراوحت بين القلق النفسي الناجم عن التشرد والخوف من القتل والاعتقال وبين مشاعر الحب والتعاطف والتفاهم التي شهدناها بين ضحايا تواطأت عليهم ظروف الحرب القاسية التي لا ترحم”.
بحذق روائيّ، وريشة شاعر، ومأساة رقيّ دفع ثمنًا ما، تأتي “قماش أسود” وجبة سرديّة غنيّة بالألم، متدفقة. يكتشف فيها القارئ وقارئ المغيرة على نحو خاصّ، أنّ ذلك الشاعر الذي عرفناه في “وكان البيت أخي السابع” و”الحبّ لا يغادر البلاد” هو ذاته الروائي الذي أبدع “قماش أسود”؛ في عملٍ سرديّ بالغ الفتنة والسوداوية منذ غلافه الموحي المبهر حتى المشهد الأخير، متوحّدًا بحكاية “جمل غيدا” أسطورة الرقّة المستعادة.
لم أقرأ الرواية بعد، على ما يعتمل في قلبي من شوق لقراءتها، إلا أن قراءة الكاتب الهائل عيسى الشيخ حسن لها أضافت للرواية بعداً ثالثاً، ونقلتنا إلى أحداثها بسرد جميل.
شكراً جزيلاً للمغيرة على تحفته، وللشيخ حسن على إضاءته.
الرواية تستحقّ الإشادة والقراءة والدرس، وما كتبت هنا إلا عرضًا للقارئ، الرواية نقطة علام في قراءة هذه الفترة من وجهة نظر السرد. تحياتي دكتور سلمان.. صباح الخير