الوليمة
أتذكّر حين كنتُ خطيبة زوجي. لا، لم أكن بعدُ خطيبته، أنّه كان يأتي ليأخذني إلى السينما أو في نزهة. دعاني، في يوم من الأيام، إلى بيته لأتعرّف على والديه. كانت ليلة الميلاد. حضر متأخرا بعض الشيء، في حدود الثامنة، بعد أن ظننتُ أنّه لن يأتي. خرج جميعُ سكان البناية إلى الشرفات لينظروا، أمّا أمّي فلم تخرج، لأنّها تعرف أنّهم كانوا ينظرون. كانت أمّي تشعر بالزهو، لأنّ خطيبي كان غنيّا، وقد حضر في سيارة مكشوفة لاصطحابي للعشاء في بيته. قالت لي أمّي، “يا ابنتي، أمَا وقد رأته الحارة كلّها، فعليه أن يسرع في إتمام إجراءات الزواج. لا تلطّخي سمعتنا، يا ابنتي”. أتذكّر أنّي خرجتُ مستاءة من كلام أمّي. كان الوقت ليلة الميلاد، لكنّ الطقس كان حارا، وكنتُ قلقة جدا، فقد ارتديتُ الفستان الوحيد اللائق الذي أملكه، وكان فستانا صيفيا، ولكي يصدّق خطيبي أنّني ارتديته بسبب الحرّ فقد قلتُ له بعد صعودي إلى السيارة: “ما أشدّ الحر! ريكاردو”. فقال لي “صحيح، فظيع. أتريدين أن أرفع الغطاء.”، كم هو مجامل ومهذّب ولطيف خطيبي!
حين وصلنا إلى بيته، شعرتُ بالارتياح، فقد كان الجميعُ يرتدون ملابس عاديّة، على الرغم من أنّ البيتَ يقع في منطقة (كاونتري). كان أبوه لطيفا معي، قال لي إنّه سيعلمني الغولف في زيارتي القادمة. وبعد أن تناولنا المقبلات داخل البيت، قرّرنا أن نتناول الطعام في الحديقة. كنتُ أشعر براحة كبيرة هناك مع أرتورو، أقصد مع ريكاردو، وأخيه الذي يدرس الطب، ومع أمّه، المرأة الشابة الفاتنة، تلك المرأة التي هي من طراز ميرنا لوي، ولكن بنسخة كوبيّة، محترمة جدا. شعرتُ بالراحة أيضا مع والده، وهو رجلٌ طويل، حسنُ المظهر، لم يكفّ عن التطلّع إليّ طوال السهرة. كنتُ قد شربتُ قليلا ونحن في الصالون، نتحادث وننتظر أن ينضج الديكُ الرومي ويحمرّ في الفرن. دعاني أبو ريكاردو إلى جولة في المطبخ. أتذكر أنّي شعرتُ بدوخة، فقد كان أبو ريكاردو يضغط كثيرا على ذراعي وهو يرافقني إلى المطبخ. ولمّا كان البيتُ معتما لدواعي شجرة الميلاد، فقد أزعجني الضوء الساطع الذي واجهني حين دخولي المطبخ. ذهبتُ وعاينتُ الديكَ الرومي، ورأيتُ حينها الفتاة التي كانت قد قدمتْ لنا الشراب وهي تساعد الطبّاخ (فهم أغنياء وعندهم طبّاخ، لا طبّاخة). لم تكن كبيرة في السن. وتذكرتُ أنّ والدة ريكاردو وصفتها بأنّها قليلة الخبرة. رأيتُ الفتاة على ضوء المطبخ، وهي تتحرك بين الطاولة التي وضعتْ عليها السَلطات، والمغسلة، والبرّاد، من دون أن تنظر إلينا. بدا لي وجهها مألوفا، ورأيتُ أنّها لم تكن كبيرة في السن. تذكرتُ حينها أنّ تلك الفتاة كانت، من عشر سنوات خلت، زميلة لي في مدرسة القرية، ولم أعد أراها منذ أن انتقلنا إلى هافانا، أنا وعائلتي، قبل عشر سنوات تقريبا. ما كان أشدّ ما يبدو عليها الكبر والتعب، على الرغم من أنّها من سني، فقد لعبنا معا ونحن صغار، صديقتين حميمتين، مغرمتين كلتانا بخورخي نغريتي وبغريغوري بيك. كنّا في المساء نجلس، أنا وهي، عند الرصيف، أمام بيتي، ونخطط للمستقبل، حين نصبح كبارا. حزنتُ وأنا أقف مترددة: هل أسلّمُ عليها؟ هلّ أكلمها؟ ألا يمكن أنّ ذلك سيؤلمها؟. خرجتُ من المطبخ وعدتُ إلى الصالون، وفي الصالون فكرتُ في العودة إلى المطبخ والسلام عليها، لكنّي خفتُ أن تكتشف عائلة ريكاردو أصلي الريفي وضعف حالتنا. لذلك لم أذهب.
تأخر الطعامُ علينا، لا أدري: لا بدّ أنّ شيئا حدث للديك الرومي، فواصلنا الشرب، حينئذ دعاني أخو ريكاردو إلى معاينة أرجاء البيت، فذهبتُ أولا لرؤية غرفة ريكاردو، ثم لرؤية غرفة أخيه. لا أدري لماذا دخلتُ إلى الحمّام. كان في الحمام ستارة متحركة تحجز الدوش، فقال لي أخو ريكاردو: لا تنظري هناك. لكنّ الفضول دفعني إلى إزاحة الستارة، وحين نظرتُ في حوض الاستحمام رأيتُه مليئا بماء وسخ ألقي فيه هيكلٌ عظمي ما زالت قطعٌ من اللحم عالقة به: هيكل بشري. فقال لي أخو ريكاردو: “أقوم بتنظيفه”. لا أتذكّر كيف خرجتُ من الحمّام ولا كيف نزلتُ من الدرج ولا كيف جلستُ على المائدة لتناول الطعام. أتذكر وحسب أنّ أخ ريكاردو أمسكَ بيدي وقبّلني وقبلتُه ثمّ ساعدني في عبور الغرفة المظلمة. في الباحة كان كلّ شيء جميلا جدا وأخضرَ جدا ومضيئا جدا، وكانت المائدة جيدة الترتيب، عليها شرشف ثمين جدا. قدموا لي الطعام أولا لأنّ أمّ ريكاردو أصرّت على ذلك. لكنّي نظرتُ إلى اللحم، إلى شرائح الديك الرومي، المطبوخ جدا، المُحمّر، وهو في صلصة الكراميل، ثمّ وضعتُ الشوكة والسكين فوق الصحن، وخفضتُ يدي وأجهشتُ بالبكاء. لقد أفسدتُ على هذه الأسرة المهذبة اللطيفة ليلة الميلاد، وعدتُ إلى بيتي متعبة محزونة صامتة، بل لم تشعر أمّي بوصولي.
* الرواية صادرة عن دار المدى 2020.