أحبار التُرجُمانمكتبة بورخيس

قصة «ألف عام من الدعوات الصادقة» لـِ ييون لي | ترجمة إبراهيم سيّد فوزي

«عالِم صواريخ.» هكذا يخبر السيد شي سائليه عن مهنته في الصين، وعندما يتعجبون فإنه يضيف بدافع التواضع «متقاعد» تعلَّم السيد شي هذه العبارة من امرأة أثناء توقفه فى مدينة ديترويت، عندما حاول جاهدًا أن يشرح لها عمله برسم صورا حينما لم تفلح لغته الإنجليزية في مساعدته، فتعجبت مقهقهةً، وقالت: «أها! تقصد عالم صواريخ.»

الناس الذين يقابلهم فى أمريكا ودودون حقًا، ويبدون أكثر ودًّا عندما يعرفون مهنته، لذا فإنه يحب تكرار تلك الكلمات كلما أمكنه ذلك. حقق السيد شي عددًا لا بأس به من المعارف بمرور خمسة أيام على زيارته للمكان الذي تسكنه ابنته في هذه المدينة الواقعة في وسط الغرب الأمريكي؛ فالأمهات اللائي يصطحبن أطفالهن فى عربات الأطفال يلوحن له،  وزوجان دائمًا ما يترددان على الحديقة في التاسعة صباحًا؛ الزوج مرتديًا بدلة والزوجة ترتدي جونلة وتمسك بذراع زوجها، الزوج هو من يتحدث دائمًا بينما تظهر ابتسامة على وجه الزوجة. يتوقفان لتحيته، وامرأة تعيش فى دار المسنين التي تبعد عنهما بمقدار وحدة سكنية تأتي لتتحدث إليه، تبلغ هذه المرأة ذات الأصول الإيرانية من العمر سبعة وسبعين عامًا أي تكبره بسنتين، وعلى الرغم من أنهما يتحدثان القليل من الإنجليزية إلا أنهما لا يجدان مشكلة فى فهم بعضهما بعضًا، وسرعان ما أصبحا صديقين. تقول السيدة دائمًا: «أمريكا بلد جيد، الأولاد هنا يكسبون مالًا وفيرًا»

أمريكا حقًا بلد جيد، فابنة السيد شي تعمل أمينة مكتبة في القسم الشرق آسيوي في مكتبة الكلية، وتكسب من المال فى عام واحد أكثر مما جمعه هو في عشرين سنةً.

– «ابنتي تكسب الكثير من المال أيضًا»

– «أحب أمريكا، فهي بلد جيد للجميع»

– «نعم! نعم! فأنا عالِم صواريخ فى الصين ومع ذلك فقير جدًا هناك. عالِم صواريخ، أتعرفين؟» هكذا يعلِّق السيد شي واضعًا أصابع كلتي يديه فى مواجهة بعضهما مُشكِّلًا بهما قمة.

 ترد السيدة عليه: «أنا أحب الصين، فالصين بلد جيد وعريق»

– «أمريكا بلد يافع كالشباب»

– «أمريكا بلد سعيد.»

فيرد السيد شي: «الشباب أكثر سعادة من العواجيز»

وبعدها يدرك أن هذا استنتاج أبتر مفاجىء؛ فهو نفسه يشعر الآن أنه أكثر سعادةً من أي وقت مضى في حياته، والمرأة التي أمامه، والتي تحب كل شيء بداعٍ أو بلا داعٍ تبدو سعيدةً أيضًا. أحيانًا ينفد ما لديهما من الكلمات الإنجليزية فتتحول السيدة إلى اللغة الفارسية الممتزجة بالقليل من الكلمات الإنجليزية، في حين يجد السيد شي أن التحدث باللغة الصينية معها أمرًا صعبًا. تدير السيدة دفة الحوار لعشرٍ أو عشرين دقيقة، في الوقت الذي يكتفي فيه شي بإيماءة من رأسه مصحوبة بابتسامة فيّاضة. على الرغم من عدم فهمه لكثير مما تقول، إلا أنه يشعر بسعادتها في الحديث إليه، وهي السعادة ذاتها التى يجدها في الاستماع إليها. شيئًا فشيئًا، ينتظر السيد شي الصباح بلهفة ليجلس منتظرًا إياها بشغف، يخاطبها بكلمة سيدتي لأنه لم يسألها عن اسمها قط، اعتادت السيدة أن ترتدي ألوانًا لم يتخيل أن ترتديها امرأة فى مثل عمرها، أو من مسقط رأسها؛ فهي ترتدي الأحمر والأصفر والبرتقالي والبنفسجي، وتضع فى شعرها زوجًا من مشابك الشعر الحديدية أحدهما على شكل فيل أبيض والآخر على شكل طاووس باللونين الأزرق والأحمر يمسكان بشعرها الهفّاف بتمايل يذكّره بابنته حينما كانت طفلة صغيرة قبل أن ينمو شعرها بشكل كامل، وعلى جبهتها تتدلى فراشة بلاستيكية. للحظة يريد السيد شي أن يخبر السيدة عن مدى اشتياقه للأيام التي كانت فيها ابنته صغيرة والحياة مفعمة بالأمل، ولكنّه متأكد حتى قبل أن يبدأ أن لغته الإنجليزية ستخذله إلى جانب أنه لم يعتد الحديث عن الماضي.

فى المساء، عندما تصل ابنته يكون السيد شي قد أعدَّ وجبة العشاء، فقد أخذ درسًا في الطهي منذ بضع سنوات وتحديدًا عقب وفاة زوجته، ومنذ ذلك الحين درس فنون الطهى بتلك الهمة التي درس بها الرياضيات والفيزياء حينما كان طالبًا جامعيًا.

  • يقول السيد شي أثناء تناول وجبة العشاء: «يولد كل إنسان بمواهب تفوق كثيرًا معرفته بكيفية استغلالها، فلم أتخيل أبدًا أن أشرع فى الطهي، ولكن هأنذا أفضل مما تخيلت».          
  • فترد ابنته: «نعم، رائع جدًا»
  • يلقي السيد شي نظرة خاطفة على ابنته، ويكمل حديثه قائلًا: «تمنحنا الحياة سعادةً أكثر مما نعرف، لذا فعلينا أن ندرّب أنفسنا على البحث عنها»

لا ترد ابنته وعلى الرغم من فخرها بطهيه، ومدحها إياه إلا أنها تأكل القليل، وتأكله بدافع الواجب لا أكثر!!، يساور السيد شي القلق لأن ابنته ليست متحمسة للحياة كما ينبغي، وذلك لأنها منفصلة حديثًا بعد زواج دام سبع سنوات، وصهره السابق قد عاد بعد الانفصال عن زوجته إلى بكين ليستقر فيها بشكل دائم. لا يعرف السيد شي ما الذي أودى بقارب زواجهما إلى الارتطام بصخرة خفية، ولكن أيًا كان السبب فإن الانفصال ليس خطأها فقد خُلقت لتكون زوجة صالحة رقيقة الصوت، وعطوفة، ووفية، وجميلة، نسخة شابة من أمها.

عندما اتصلت ابنته لتخبره بالطلاق تخيل السيد شي أنها فى ألم لا عزاء له، وطلب الحضور لأمريكا ليساعدها في التعافي منه، ولكنّها رفضت فبدأ فى الاتصال بها يوميًا متوسلًا إليها، وفي سبيل ذلك أنفق شهرًا كاملًا من معاشه على فاتورة المكالمات الدولية. وافقت ابنته أخيرًا عندما أخبرها أن أمنيته فى عيد ميلاده الخامس والسبعين هي إلقاء نظرة على أمريكا. تحولت تلك الكذبة إلى سبب مقنع؛ فأمريكا تستحق المشاهدة وأكثر من ذلك فقد جعلته شخصًا جديدًا، وعالمًا فى الصواريخ، ومتحدثًا لبقًا، وأبًا محبًا، ورجلًا سعيدًا.

بعد العشاء، إمّا تنسحب ابنة السيد شي إلى غرفة نومها، أو تخرج ثم تعود إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل، يطلب منها السيد شي الخروج معها ليصحبها لمشاهدة الأفلام التي يعتقد أنها تشاهدها بمفردها، إلا أنها ترفض بطريقة مؤدبة، ولكنها حازمة في الوقت ذاته، بالتأكيد هذا ليس صحيًا للمرأة، خصوصًا إذا كانت حالمة كابنته، أن تقضي وقتًا طويلًا بمفردها، يبدأ السيد شي في الثرثرة أكثر وأكثر ليعالج مشكلة وحدتها، فيطرح أسئلة عن الجانب الذي لا يعلمه من حياتها. يسألها عن يومها في العمل، فتجيبه بإعياء: «بخير».

لا تفتر همته فيسألها عن زملائها، هل يوجد إناث أكثر من الذكور؟ كم أعمارهم؟ إن كانوا متزوجين، هل لديهم أطفال؟ يسألها ماذا تتناول على الغداء، وهل تأكل بمفردها؟ ما نوع الكمبيوتر الذي تستخدمه، وما هي الكتب التي تقرأها؟ يسألها عن مدرستها القديمة وأصدقائها والناس الذين يعتقد أنها لا تتواصل معهم بسبب شعورها بالخزي جراء طلاقها، يسألها عن خططها المستقبلية آملًا أن تتفهم الضرورة الملحة لوضعها الحالي. النساء في سن الزواج في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات كفاكهة الليتشي إذا لم تقطفها، فكل يوم يمر يجعلها أقل طزاجة ويقلل الرغبة فيها وسرعان ما تفقد قيمتها، ولابد من التخلص منها بثمن بخس. يعلم السيد شي جيدًا أنه لا ينبغي أن يذكر الثمن البخس، وما زال لا يسعه إلا أن يعظها عن نعم الحياة. كلما تحدث شي أكثر، كلما تأثر بصبره، إلا أن ابنته لا يتحسن حالها؛ فهى تأكل أقل وتزداد هدوءًا يومًا بعد يوم.

– عندما يشير أخيرًا إلى أنها لا تستمتع بحياتها كما ينبغى، ترد عليه: «من أين أتيت بهذا الاستنتاج؟ فأنا أستمتع بحياتي فعليًا.»

– «لكن هذه كذبة فالشخص السعيد لن يكون أبدًا هادئًا جدًا هكذا».

ترفع عينيها من سلطانية الأرز أمامها قائلةً: «بابا، لقد اعتدت أن تكون هادئًا، هل تتذكر؟ أ لم تكن سعيدًا حينها؟»

 لا يستطيع السيد شي الرد على ابنته، فهو لم يعتد منها على مثل هذه الصراحة والوضوح. ينتظرها لتعتذر وتغير الموضوع كما يفعل أصحاب الخلق الرفيع عندما يشعرون أنهم يحرجون غيرهم بسؤالهم، ولكنها لا تدعه. تظهر عيناها الحادّتان المتسعتان من خلف نظارتها فتذكره بها فى سنواتها الأولى، عندما كانت في الرابعة أو الخامسة من عمرها، كانت تتبعه فى كل لحظة لتسأله أسئلة وتطلب إجابات لها. ذكّرته تلك العيون أيضًا بأمها ففي وقت ما من زواجهما حدّقت فيه بنظرة الاستفسار تلك منتظرة إجابةً ليست لديه.

– يتنهد السيد شي: «بالطبع، لقد كنت سعيدًا دومًا».

– «ها نحن ذا يا أبي يمكننا أن نكون هادئين وسعداء فى الوقت نفسه، أليس كذلك؟»

يرد السيد شي: «لِمَ لا تتحدثين معي عن سعادتك؟ أخبريني أكثر عن عملك؟»

– «أنتَ أيضًا لم تتحدث كثيرًا عن عملك، أتتذكر؟… حتى عندما سألتك»

– «عالِم صواريخ، أنتِ تعلمين كيف كان عملي؛ كان سريًا»

ترد ابنته: «أنتَ لم تتحدث عن أي شيء.»

يفتح السيد شي فمه لكنه لا يستطيع التحدث، وبعد بُرهةٍ، يقول: «أنا أتحدث أكثر الآن، أتطور، أ ليس كذلك؟»

تجيب ابنته: «بالتأكيد»

فيخبرها: «وهذا ما تحتاجين فعله، تحدثي أكثر، وابدئي الآن.» لكن ابنته بصمتها المعتاد تنهي وجبتها على عجالة، ثم تترك الشقة قبل أن ينهي وجبته؛ لأنها ليست متحمسة للحديث معه.

فى صباح اليوم التالي، يعترف السيد شي للسيدة: «ابنتي ليست سعيدة»

ترد السيدة: «شيء سعيد أن يكون لديك ابنة»

– «مُطَلقة»

تومىء السيدة ثم تبدأ في التحدث بالفارسية في حين يبدو السيد شي غير متأكد ما إذا كانت السيدة تعرف المقصود بمطلقة أم لا، فامرأة مغرمة بالحياة مثلها لابد أن زوجها أو ربما أبناؤها يحفظونها بعيدًا عن الأحداث المؤلمة. ينظر السيد شي إلى السيدة ووجهها يتألق بحديثها وضحكتها فيحسدها على الطاقة التي لا تمتلكها ابنته التى تصغرها بأربعين عامًا. في هذا اليوم، ترتدي السيدة بلوزة برتقالية فاقعًا لونها، عليها رسومات لقرود أرجوانية اللون جميعهم يتدحرجون ويبتسمون ابتسامة عريضة، ويعتلي رأسها شالًا عليه النمط ذاته، إنها لاجئة ولكنها سعيدة بلا شك. يحاول السيد شي استرجاع ما يعرفه عن إيران وتاريخها الحديث بمعرفته المحدودة، إلا أن كل ما يمكنه استنتاجه هو أن السيدة محظوظة، وهو محظوظ أيضًا على الرغم من كل عيوبه صغيرة كانت أو كبيرة. يعتقد السيد شي أنه لشيء عجيب أن يكون هو والسيدة من عالمين مختلفين بلغتين مختلفتين و تتاح لهما الفرصة ليجلسا و يتحدثا تحت ضوء شمس الخريف. عندما تتوقف السيدة عن الكلام، يقول السيد شي: «في الصين نقول شيو باى شاه كه تون دچو لكي تحصل على فرصة عبور نهر مع شخص في نفس القارب، فإن ذلك يستغرق ثلاثمئة عام من الدعوات» يفكر السيد شي في شرح العبارة للسيدة باللغة الإنجليزية، وعندما همَّ بالشرح سأل نفسه: «ما الفارق بين اللغات؟» فالسيدة سوف تفهمه بالترجمة وبدونها، فيكمل حديثه باللغة الصينية قائلًا: «أن نقابل بعضنا بعضًا و نتحدث سويًا، فلابد أن ذلك استغرق وقتًا طويلًا من الدعوات الصادقة لنقابل بعضنا هنا». تبتسم السيدة ابتسامة تحمل الموافقة على كلامه.

– «يوجد سبب لكل علاقة، هذا ما تعنيه المقولة؛ الزوج وزوجته، الآباء وأبناؤهم، والأصدقاء والأعداء، والغرباء الذين نصطدم بهم فى الشارع، أن تضع رأسك جنبًا الى جنب على وسادة بجوار من تحب، فإن ذلك يستغرق ثلاثة الآف عام من الدعوات، فما الوقت الذي يستغرقه ذلك الدعاء بالنسبة لأب وابنته؟ ربما ألف عام فمن المؤكد أن الناس لا ينتهى بهم الحال كأب وابنة عشوائيًا، ولكن الابنة لا تعي ذلك، لابد أنها تعتقد أنني مصدر إزعاج، فهي تتمنى لو أصمت لأنها عرفتني هكذا دائمًا، لم تعِ أننى لم أتحدث كثيرًا معها، ولا مع والدتها لأنني كنت عالِم صواريخ حينها. كل شيء كان سريًا، كنا نعمل طيلة النهار، وعندما يسدل الليل ستائره يأتي الحراس ليجمعوا دفاترنا ومسوداتنا، كنا نوقع على مجلدات الأرشيف وكان هذا هو العمل اليومي، لم يُسمح لنا أبدًا أن نخبر عائلاتنا بما كنا نفعله فقد تم تدريبنا على ألَّا نتحدث».

تستمع السيدة ويداها مطويتان على قلبها. لم يجلس السيد شي بهذا القرب من امرأة في عمره منذ تُوفيت زوجته، حتى عندما كانت على قيد الحياة لم يتحدث كثيرًا هكذا معها، يشعر بثقل عينيه ويتخيل أنه سافر نصف العالم لابنته لكي يعوضها عن كل المحادثات التى ضنَّ بها عليها عندما كانت صغيرة، ليجدها لا تبالي بكلماته، ويتخيل السيدة تلك الغريبة التي لا تعرف حتى لغته تسمعه بتمعن. يفرك السيد شي عينيه بإبهاميه، فرجل فى مثل سنه لا ينبغى أن ينغمس فى تلك المشاعر المؤذية.

يأخذ السيد شي نفسا عميقًا، ويضحك قليلًا ويقول: «بالطبع يوجد سبب للعلاقة السيئة أيضًا، فمن المؤكد أننى أدعو لألف عام لابنتي بقلب فاتر». تومئ السيدة رأسها بهيبة, فهى تفهمه وتعرفه لكنه لا يريد أن يثقل عليها بتعاسته السخيفة، يفرك كلتي يديه وكأنه يتخلص من تراب الذكريات، يقول بأفضل إنجليزية يعرفها: «قصص قديمة، والقصص القديمة غالبًا ليست مثيرة».

ترد السيدة: «وأنا أحب القصص». و تبدأ في الحديث، فيسمع السيد شي متابعًا ابتسامتها طيلة الوقت، ينظر للقرود المرسومة على الشال فوق رأسها والتي تعلو وجهها ابتسامة عريضة وهى تتمايل لأعلى وأسفل عندما تضحك السيدة.

– بعدما تنهي السيدة حديثها، يقول: «يا لنا من محظوظين، في أمريكا يمكننا أن نتحدث في أي شيء».

تومئ السيدة: «أحب أمريكا فهى بلد جيد».

في هذا المساء يخبر السيد شي ابنته: «قابلت امرأة إيرانية فى الحديقة، هل قابلتيها من قبل؟»

– «لا»

– «ينبغى أن تقابليها يومًا ما فهي متفائلة، وستنير لكِ الطريق في وضعك الحالي.»

تسأله ابنته دون أن ترفع عينيها من طبق طعامها: «وما هو وضعي الحالي؟»

عندما لا تصدر ابنته أية حركة تساعد فى بقاء عجلة الحوار دائرة بينهما يقول: «أنت تخبريني أنكِ تمرين بفترة قاتمة»

– «وكيف عرفت أنها ستلقي بضيائها على حياتي»

يفتح السيد شي فمه، ولكنّه لا يجد أية إجابة حيث يخشى أن يخبر ابنته أنه يتحدث مع السيدة بلغات مختلفة فتعتقد أنه رجل عجوز طار عقله. الأشياء التي تبدو منطقية فى وقت ما، تبدو عبثية عند النظر إليها من زاوية مختلفة. يشعر بإحباط من ابنته التي يشاركها نفس اللغة ولكن لا يمكنه أن يشاركها لحظة ود.

بعد برهة، قال: «تعرفين، المرأة لا ينبغى أن تسأل مثل هذه الأسئلة المباشرة، فالمرأة العاقلة تراعي مشاعر الآخرين، وتعرف كيف تجعل الناس يتحدثون»

– «أنا مطلقة، لذلك، وفقًا لمعاييرك فأنا لست امرأة عاقلة»

يتجاهلها السيد شي لأنه يعتقد أنها تسخر من كلامه: «أمك كانت مثالًا للمرأة العاقلة»

سألته و عيناها اللتان تنظران مباشرة فى عينيه أكثر شراسة مما يعرفهما: «هل نجحتْ في جعلك تتحدث؟»

– «أمك لم تكن عدوانية»

– «بابا، أولًا اتهمتني أننى هادئة جدًا، فبدأت أتحدث، وها أنت تقول أننى أتحدث بطريقة غير لائقة»

– «الحديث ليس توجيهًا للأسئلة فحسب، ولكنّه أيضًا أن تخبر الآخرين عن شعورك تجاههم وأن تحثهم ليخبروك عن شعورهم تجاهك»

– «بابا، منذ متى أصبحت معالجًا نفسيًا؟»

– «أنا هنا لأساعدك، وأنا أبذل قصارى جهدي فى ذلك، أريد أن أعرف لماذا انتهى بك الأمر إلى الطلاق؟ أريد أن أعرف ما الشيء الذي لم يسر على ما يرام؟ وأساعدك لتجدي الشخص المناسب في المرة القادمة، فأنتِ ابنتي، ولا أريدك أن تُلدغي من نفس الجحر مرتين».

– «بابا، أنا لم أسألك من قبل، ولكن كم المدة التي تخطط لقضائها فى أمريكا؟»

– «حتى تتعافي»

تقف ابنته بينما أرجل الكرسي تتشاجر مع الأرضية. «ولكننا العائلة الوحيدة لكلينا الآن» ينطق السيد شي بهذه الكلمات كأنه يتوسل إليها، ولكن الابنة تغلق باب غرفة نومها قبل أن يضيف أي شيء آخر، ينظر السيد شي إلى الأطباق التي لم تمد ابنته يدها إليها إلا قليلًا؛ مكعبات التوفو المقلية المحشوة بفطر عش الغراب المفروم، والجمبري والزنجبيل بالإضافة إلى مجموعة من براعم الخيزران والفلفل الأحمر والبسلة المجمدة، على الرغم أن ابنته تظهر إعجابها بطهيه كل مساءٍ، إلا أنه يشعر بالفتور فى مدحها، فهي لم تعرف أن الطهي أصبح دعواته، ولكنّها تركتها بلا جواب.

«ربما قامت الزوجة بعمل يسهم في إسعاد الابنة» بهذه الكلمات يتحدث السيد شي إلى السيدة فى صباح اليوم التالي. يشعر السيد شي براحة أكثر الآن فى الحديث معها باللغة الصينية: «لم أكن بعيدًا عنهم لقد أحببتهم من كل قلبي، ولكن هذا ما حدث عندما كنت عالِم صواريخ؛ لقد عملت بجد نهارًا، ولم استطع التوقف عن التفكير فى عملي ليلًا. كل شيء كان سريًا لذا لم أستطع التحدث مع عائلتي عن عملي، ولا ما كنت أفكر فيه، ولكنّ الزوجة كانت أكثر امرأة متفهمة في العالم فقد علمت أنني كنت مشغولًا بعملي فلم تقطع أفكاري، ولم تترك ابنتي تفعل ذلك، أعلم الآن أن هذا المناخ لم يكون صحيًا لابنتي؛ كان واجبًا عليّ أن أترك نفسي العاملة في المكتب. كنت حينها صغيرًا جدًا فلم أفهم ذلك. أمّا الآن، فابنتي لا يوجد لديها أى شيء لتقوله إليَّ».

لقد كانت خطيئته حقًا فهو لم يرسخ عادة الحديث مع ابنته، ولكن حينها كما يدافع السيد شي عن نفسه في وقته، رجل مثله بين القلائل الذين تم اختيارهم لهدف نبيل كهذا كان عليه أن يتحمل مسؤوليات تجاه عمله أكثر من مسؤولياته تجاه عائلته. كان جديرًا بالاحترام وحزينًا، إلا أنه كان جديرًا بالاحترام أكثر من كونه حزينًا.

 في ذلك المساء على منضدة العشاء، أخبرته ابنته أنها قد عثرت على وكالة سفريات ناطقة باللغة الصينية تنظم جولات سياحية لكل من الساحل الشرقي والغربي.

– «أنت هنا لتلقي نظرة على أمريكا، أعتقد أن هذا هو أفضل وقت لتذهب فى جولات سياحية قبل أن يأتي الشتاء»

– «هل أسعارهم باهظة؟»

– «سأدفع يا بابا، أليس هذا ما أردته لعيد ميلادك؟»

هي ابنته فى النهاية وتتذكر رغبته وتقدرها، ولكن ما لا تعيه أن أمريكا التي يريدها هى الدولة التى تعيش فيها ابنته متزوجة وسعيدة. يضع خضروات وسمك فى طبقه ويقول لها بصوت لطيف: «ينبغي عليك أن تأكلي أكثر»

فترد عليه: «سأتصل بهم غدًا لأحجز الجولات السياحية»

– «أنتِ تعرفين أن البقاء هنا ربما يساعدني أكثر فأنا عجوز الآن ولم أعد أصلح للسفر»

– «ولكن، لا يوجد الكثير لتشاهده هنا»

– «ولم لا؟ هذه أمريكا التى أردت رؤيتها، لا تقلقي فلدي أصدقائي هنا ولن أسبب لك الكثير من الإزعاج»

يرن الهاتف قبل أن ترد ابنته عليه، فترفع سماعة الهاتف وتلقائيًا تدخل غرفة نومها وينتظر خبطة الباب فهي لا تتحدث أمامه حتى مع الغرباء الذين يحاولون أن يبيعوا لها شيئًا عبر الهاتف في بعض الليالي. عندما تحدثت لفترة أطول وبصوت خافت كان عليه أن يجاهد نفسه لكيلا يضع أذنه على الباب ليتلصص عليها، ولكن يبدو أنها فى هذا المساء مشغولة بشيء آخر، فتركت باب الحجرة مفتوحًا، سمعها تتحدث باللغة الإنجليزية على الهاتف وصوتها أكثر حدة من ذي قبل، تتحدث سريعًا، وتضحك أحيانًا، لا يفهم كلماتها ولكنّه لا يفهم أسلوبها أكثر. صوتها الحاد للغاية والعالي جدًا، والفاحش  جدًا جدًا كريه على مسمعه لدرجة أنه للحظة يشعر كأنه ألقى نظرة خاطفة من غير قصد على جسدها العاري. يشعر أنها غريبة عنه تمامًا، وليست ابنته التى يعرفها. يحملق فيها، وهي تخرج من حجرتها وتعيد سماعة الهاتف وتجلس على المائدة بدون أن تنبس ببنت شفه.

«يشاهد وجهها للحظة، ويسألها: «من كان على الهاتف؟»

– «صديق»

– «ذكر أم أنثى؟»

– «ذكر»

ينتظر أن تعطيه المزيد من الشرح، ولكن لا يبدو أن لديها هذه النية: «هل هذا الرجل مفضل؟»

– «مفضل؟ بالتأكيد»

– «إلى أي مدى؟»

– بابا، ربما سيجعلك ذلك أقل قلقًا بشأني. نعم، هو مفضل جدًا بالنسبة لي وأكثر من مجرد صديق، إنه حبيب. هل تشعر بحالة أفضل الآن بعدما عرفت أن حياتي ليست بائسة كما تخيلت؟»

– «هل هو أمريكي؟»

– «هو الآن أمريكي، ولكنّه ذا أصول رومانية»

– «على الأقل أن هذا الرجل نشأ فى بلد شيوعي»

هكذا يحاول السيد شي أن يكون إيجابيًا، فيقول: «هل تعرفينه جيدا؟ هل يفهمك.. أقصد، يفهم أصولك وثقافتك جيدًا؟ تذكّري، لا يمكنك ارتكاب نفس الخطأ مرتين لذا يجب أن تكوني حريصة حقًا»

– «نحن نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل»

– «وقت طويل؟ شهر ليس وقتًا طويلًا»

–  «أكثر من ذلك يا أبي»

– «شهر و نصف فى الأغلب، صحيح؟ اسمعي، أنا أعرف أنك تتألمين، ولكن المرأة لا ينبغي أن تتهور خصوصًا في وضعك كامرأة مطلقة وحيدة، فهم يرتكبون أخطاء جراء الوحدة»

تنظر ابنته لأعلى قائلة: «بابا، لم يكن زواجي كما اعتقدتَ، فأنا لم أُطلَق»

ينظر السيد شي إلى ابنته، عيناها تصارحان بارتياح وعزم، للحظة يريدها أن تبوح بأية تفصيلة إضافية، ولكنها ككل البشر بمجرد أن تبدأ فى الحديث فلا يستطيع إيقافها.

«بابا، لقد حدث الطلاق بسبب هذا الرجل. أنا من طَلقت، إذا أردت استخدام هذا المصطلح»

– «و لكن، لماذا؟»

– «تفشل الأشياء فى الزواج يا بابا»

«إنَّ ليلة واحدة كزوج وزوجة فى السرير تجعلهما مغرمان ببعضهما لمئات السنوات، كنتِ متزوجة منذ سبع سنوات، كيف استطعتِ أن تفعلي ذلك بزوجك؟ على أية حال، ماذا كانت المشكلة بينكما بالإضافة لعلاقتك الصغيرة خارج إطار الزواج؟» لقد كان آخر ما ربّى السيد شي ابنته عليه أن تكون امرأة خائنة.

– «ليس هناك داعٍ للحديث عن هذا الآن»

يضرب السيد شي المنضدة بيده قائلًا: «أنا أبوك، ومن حقي أن أعرف»

– «كانت المشكلة أننى لم أتحدث أبدًا بالدرجة الكافية إلى زوجي، ونتيجةً لذلك كان يشك دائما أنني أخبّىء شيئًا عنه، لأننى كنت هادئة».

– «كنتِ تخبئين حبيبًا عنه»

تتجاهل ابنته كلامه وتواصل حديثها: «كلما طلب مني أن أتكلم، كلما ازدادت رغبتي في الهدوء والوحدة، فأنا لا أجيد الكلام، كما استنتجت أنت».

– «لكن هذه كذبة فأنت تحدثتي على الهاتف توًا بلا حياء، تحدثتي وضحكتي كفاجرة».

تنظر ابنة السيد شي إليه طويلًا للحظة، وهي مصابة بالذهول من حدة كلماته قبل أن ترد بصوت أكثر نعومة: «هذا مختلف يا بابا، فنحن نتحدث الإنجليزية، وهي أسهل حيث لا أتحدث الصينية جيدًا»

– «عذر مضحك»

– «بابا، لو نشأت في لغة لم تستعملها قط لتعبر عن مشاعرك سيكون من الأسهل أن تستخدم لغة أخرى، وتتحدث باللغة الجديدة أكثر، فهذا يجعلك شخصًا جديدًا»

– «هل تلوميني أنا وأمك على فجورك؟»

– «هذا ليس ما أقوله يا بابا»

– «ولكن، أليس هذا ما تقصدينه؟ فنحن لم نحسن تنشئتك في التحدث باللغة الصينية لذا قررتِ أن تجدي لغة جديدة وحبيب جديد، عندما لم تتحدثي مع زوجك بأمانة عن زواجكما»

– «أنتَ لم تتحدث قط وكذلك أمي عندما علمتما بوجود مشكلة في زواجكما، فتعلمت أنا أيضًا ألا أتحدث»

– «أنا وأمك لم يكن لدينا مشاكل قط، فقد كنا فقط أناسًا سمتهم الهدوء»

– «ولكنّ هذه كذبة»

– «لا، إنها ليست كذلك، أعلم أنني ارتكبت خطأ كبيرًا لانشغالي الشديد بعملي، ولكن عليك أن تستوعبي أنني كنت هادئًا بسبب وظيفتي».

قالت ابنته والشفقة فى عينيها: «أبي، أنت تعلم أن هذه أيضًا كذبة، فأنت لم تكن أبدًا عالِم صواريخ، لقد علِمتُ وعلمتْ أمي، وكل الناس كذلك».

– يحملق السيد شي في ابنته لفترة طويلة ثم يقول: «أنا لا أفهم مقصدك»

– «ولكن تعرف يا بابا، أنت لم تتحدث عمّا فعلته في عملك هذا صحيح، ولكن أناسًا آخرين تحدثوا عنك»

يحاول السيد شي أن يجد كلمات يدافع بها عن نفسه، ولكن شفتيه ترتجفان بلا صوت. تقول ابنته: «آسفة يا بابا، لم أقصد أن أجرحك أبدًا.» يأخذ السيد شي نفسًا عميقًا محاولًا الحفاظ على كرامته، وإن لم يكن من الصعب عليه أن يفعل ذلك فى النهاية كما اعتاد طيلة حياته أن يكون هادئًا في المحن: «ليست أذية كما قلتِ فقد كنتِ تتحدثين فقط عن الحقيقة». ينهي جملته هذه ثم يقف و قبل أن ينسحب الى غرفة النوم الخاصة بالضيوف تقول له ابنته في هدوء من خلفه: «سأحجز لك الجولات السياحية غدًا».

يجلس السيد شي فى الحديقة وينتظر أن يودع السيدة فقد طلب من ابنته أن ترتب له مغادرة سان فرانسيسكو بعد جولته فى أمريكا، سيكون أمامه أسبوع قبل أن يغادر، ولكن لديه الشجاعة أن يتحدث مع السيدة للمرة الأخيرة ليوضح كل الأكاذيب التى أخبرها إياها عن نفسه؛ فهو لم يكن عالم صواريخ، لقد حصل على التدريب، وكان كذلك لمدة ثلاث سنوات من أصل ثمانية وثلاثين عامًا عمل فيها للمعهد. يكرر السيد شي بينه وبين نفسه أنه كان من الصعب لشاب أن يبقى هادئًا بخصوص عمله؛ فعالم صواريخ صغير كان هذا فخرًا ومجدا، أنت فقط حاولت أن تشارك حماستك مع شخص آخر، كان ذلك الشخص الذي كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا منذ اثنين وأربعين عامًا امرأةً تعمل على آلة التثقيب. بالنسبة للسيد شي فالمثقبون كما كان يُطلَق عليهم حينها مهنة قد اُستبدلت منذ فترة طويلة بأجهزة الحاسوب المتطورة. ولكن من كل الأشياء التي اختفت من حياته، فإنّ أكثر ما يفتقده هو ذلك المثقب. يقول السيد شي بصوت عال: «الاسم يلان» وإذا بشخص يحيي الاسم بتحية سعيدة. إنها السيدة تسير باتجاهه ومعها سلتها المملوءة بأوراق الخريف، تلتقط واحدة من تلك الأوراق وتقدمها للسيد شي وهي تقول: «جميلة». يتفحص السيد شي الورقة من عروقها إلى أصغر فروعها والألوان المختلفة من البرتقالي والأصفر، لم ير العالم بكل حذافيره هكذا من قبل أبدًا. يحاول شي أن يتذكر الحواف الناعمة والألوان الباهتة التي تعوّد عليها أكثر، ولكن كمريض تم إزالة السَّاد من عينيه يجد كل شيء حادًا وبراقًا، مخيفًا لكنه جذابٌ، يخبر السيدة: «أريد أن أخبرك شيئًا» ووجهه يشرق بابتسامة متلهفة، يغير السيد شي مكانه على الأريكة ويقول بالإنجليزية: «أنا لم أكن عِالم صواريخ». تومئ السيدة رأسها بشدة، بينما السيد شي ينظر إليها ثم يحيل نظره بعيدًا.

«أنا لم أكن عالم صواريخ بسبب امرأة، الشئ الوحيد الذي فعلناه أننا تحدثنا سويًا، ستتخيلين أنه لا غبار على الحديث، ولكن لا. الحديث بين رجل متزوج وفتاة غير متزوجة لم يكن مقبولًا، هكذا كانت حياتنا تعيسة حينها. نعم، تعيسة هى الكلمة المناسبة وليست كلمة مجنونة كما يستخدمها الشباب للحديث عن تلك الفترة، ربما كان يريد المرء دائمًا أن يتحدث حتى وإن لم يكن الحديث جزءًا من تدريبنا. والحديث هو ذلك الشيء المألوف، ولكن كيف أدمنه الناس؟»

 (بدأ حديثهما من الاستراحة التي مدتها خمس دقائق في المكتب، ثم جلسا فى الكافيتيريا، وتحدثا طوال فترة الاستراحة بأكملها، تحدثا عن آمالهم وحماستهم للتاريخ الأغرّ الذي يشاركان فيه ببناء أول صاروخ لوطنهم الشيوعى اليافع).

– «عندما تبدأ في الحديث فإنك تتحدث أكثر وأكثر، كان ذلك الحديث مختلفًا عن الذهاب إلى المنزل والحديث مع الزوجة؛ فلا ينبغي عليك أن تخفي كل شئ، تحدثنا عن حياتنا طبعًا. الحديث يشبه ركوب حصان جامح لا تعرف أين سينتهي بك المطاف، ولكن لا ينبغي عليك التفكير في ذلك، كان هذا شكل الحديث بيننا، ولكن لم نكن فى علاقة عاطفية كما زعموا ولم نكن غارقَين في الحب أبدًا».

هكذا يوضح السيد شي وبعدها للحظة قصيرة تحيّره كلماته، فأي نوع من الحب يتحدث عنه؟ بالتأكيد كانا يحبان بعضهما البعض، ولكنّه بالتأكيد لم يكن ذلك النوع من الحب الذي اتهموهما به، فقد حافظ دائمًا على مسافة الاحترام بينهما فلم تتلامس يداهما قط، ولكنّه الحب الذي فيه تحدثا بحرية، الحب الذي فيه تتلامس العقول، ألم يكن ذلك حبًا أيضًا؟ أ لم تكن تلك هي الكيفية التي انتهى بها زواج ابنته بسبب حديثها مع رجل آخر؟ يتحرك السيد شي على الأريكة، وازداد عرقه على الرغم من نسيم أكتوبر البارد.

(أصرّ على أنهما بريئان عندما اُتهما بوجود علاقة عاطفية بينهما، توسل نيابةً عنها عندما أُرسلت إلى مدينة إقليمية، فقد كانت ثاقبة ماهرة، ولكن من يعمل بهذه المهنة كان دائمًا سهل التدريب، بينما هو وُعِدَ بالبقاء فى منصبه شريطة أن يعترف علانية بعلاقته الغرامية، وينتقد ذاته لكنه رفض لاعتقاده أن ذلك ظلم)

– «توقفت عن العمل كعالم صواريخ فى سن الثانية والثلاثين، ولم أشترك فى أي بحث بعد ذلك أبدًا، ولكن كل شيء كان سريًا لذا لم تعرف زوجتي، أو على الأقل هذا ما أعتقدته حتى الليلة الماضية».

(كلَّفه المسؤولون بأقل وظيفة يمكن أن يحصل عليها شخص يحمل تدريبه. فى وظيفته الجديدة، كان يزين المكاتب لأعياد ميلاد الرئيس ماو والحزب الشيوعي، وينقل الأوراق والدفاتر من مجموعة بحثية لأخرى. وفى المساء، يجمع كراسات زملائه وأوراقهم ويدخلهم في خزانة الملفات ويغلق عليهم بحضور حارسين. حافظ على كرامته فى العمل وذهب البيت إلى زوجته كعالِم صواريخ صامت ومشغول الذهن؛ تجاهل الأسئلة الموجودة فى عيون زوجته حتى أختفت ذات يوم، شاهد ابنته تكبر أمامه هادئة ومتفهمة كما كانت زوجته، ابنة وامرأة جيدتان، عمل طوال حياته المهنية مع اثنين وثلاثين حارسًا، شباب يرتدون زيًا موحدًا ويحملون جرابات  فارغة للمسدسات على أحزمتهم، إلا أن الحراب في بنادقهم كانت حقيقية. لكن حينها لم يكن لديه أي خيار آخر، أ لم يكن القرار الذي اتخذه بدافع الولاء لزوجته وللمرأة الأخرى؟ كيف كان يمكنه الاعتراف بعلاقة الحب، وإيذاء زوجته, والبقاء عالِم صواريخ أناني، أو حتى التخلي عن حياته المهنية  وزوجته وابنة عمرها سنتين، وهذا أمر مستحيل من أجل رغبة مخزية فى البقاء طوال حياته مع امرأة أخرى؟).

– «إن ما نضحي به هو الذي يجعل حياتنا ذات معنى».

يقول السيد شي هذه الجملة التي كانت تتكرر دائمًا أثناء تدريبهم، يهز رأسه بشدة حيث يعتقد أن الدولة الأجنبية تعطي المرء أفكارًا غير مألوفة، ليس من الصحي لرجل عجوز مثله أن يجتر الذكريات، فالرجل الحكيم يجب أن يعيش اللحظة الراهنة مع السيدة، تلك الصديقة العزيزة الجالسة بجواره ممسكة بورقة ذهبية رائعة من شجرة الجنكة الصينية وترفعها لأعلى لتواجه أشعة الشمس فيراها.

***

ييون لي:

 كاتبة صينية نشأت في بكين، وتخرجت من جامعتها عام 1996، ثم سافرت في العام نفسه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الطب، وحصلت على درجة الماجستير في علوم المناعة من جامعة أيوا، كما درست الكتابة الإبداعية بالجامعة ذاتها. تفرغت بعد ذلك للكتابة وقدمت أول مجموعة قصصية لها بعنوان “ألف عام من الدعوات الصادقة” وفازت عنها بجائزة فرانك أوكونور الدولية للقصة القصيرة عام 2005، وجائزة صحيفة الجارديان للكتاب الأول، وجائزة جان شتاين الأدبية وغيرها. تعيش ييون لي حاليًا في برنستون وتُدرّس الكتابة الإبداعية في جامعتها.

من أعمالها: هل ينبغي أن أذهب، ألطف من العزلة، المشردون، ولد ذهبي وفتاة زمردية، من حياتي أكتب لك في حياتك.

إبراهيم سيد فوزي:  مدرس مساعد الأدب الإنجليزي بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الفيوم. حصل على جائزة iRead فرع مراجعات القراء لروايات نجيب محفوظ في عام 2021.

الصورة (qannaass.com)

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

‫2 تعليقات

  1. اختيار جميل جداً لنص أدبي رائق مع ترجمة ممتازة جداً بجهد عظيم حافظت على القواعد الأدبية وخلقت صورة مطابقة للنص الأصلي ونقلته بحرفية.. بإنتظار المزيد من تلك الاختيارات الممتازة.

  2. قصة عن الاخطاء الانسانية المتكررة ومحاولة التواصل ما بين الانسان
    اللغة ليست هي العائق هنا، بل قلوبنا المغلقة على ما فيها من حزن واحساس بالغُبن.
    لولا اسماء الاماكن والاشخاص من الممكن ان تعتقد انها مكتوبة اصلا بالعربية بسبب الترجمة الجميلة
    شكرا للمؤلفة وللمترجم وللمجلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى