كَروس عبد الملكيان في «ألوان العالم الباهتة»
تخطف القصيدة المعاصرة في إيران قلب قارئها، تماماً كالسينما الإيرانيّة المعاصرة وغيرها من الفنون الإبداعيّة الأخرى هناك، وتحديداً على يد الروّاد ومن جاء من بعدهم من مثل سميرة مخملباف وعباس كيارستمي وفروغ فرخزاد ومحسن مخملباف وأصغر فرهادي وجعفر بناهي ورسول يونان وغيرهم.
كَروس عبد الملكيان من الأصوات الشعريّة الشابّة في إيران والتي تعرفنا عليها عبر الترجمات المتتالية وكانتْ الأقرب إلى ذائقتنا، سواء من حيثُ تناولهِ لتفاصيل الطبيعة الخلابة أو من حيثُ اللغة المكثّفة والخاطفة كلمح البصر أو ما يسمّى بالسهل الممتنع؛ «أعودُ/ إلى ألوان العالم الباهتة/ إلى شَعر أمّي/ قبل أن يجدله أبي/ إلى التراب/ قبل أن تنامي بداخله».
كَروس عبد الملكيان شاعر اللقطة المشهديّة بإتقان، تلك اللحظة العابرة من عمر الوجود ولكنه يخلّدها في شِعره، حيثُ نراه كيف يعمل بإخلاص منقطع النظير على لغته الشِعريّة كبستانيّ مشاكسٍ ومرح في الآنِ معاً، ينثر صوره على كل ما في الطبيعة، وكأنها فراشات ربيعيّة.
قصيدته ربيعٌ بحدّ ذاته؛ مليئة بالزهور والعصافير الملوّنة وبموسيقى الطبيعة الخافتة. وهو ما نجده في قصائد الطبعة العربيّة من كتابهِ «ألوان العالم الباهتة»، الصادر مؤخراً عن دار ماركيز للنشر والتوزيع في العراق 2023، بترجمة الشاعر السوري ماهر جمّو.
قصائد مُفعمة بالدهشة والحيرة
يُعتبر كَروس عبد الملكيان، بحسب المُترجم، من أبرز شعراء الجيل الشاب في إيران، يكتب قصائده بلغة بسيطة ويوميّة، لكنها لغةٌ ذكية تزخر بالصور الشِعريّة والتراكيب اللغويّة المبتكرة في الآن ذاته، ليخلق من خلالها عوالم بِكر، ذات مشهديّة سينمائية آخّاذة، مُفعمة بالدهشة والحيرة، تدفع القارئ لتأمّلٍ مُربكٍ يفيض ببريقٍ لا يخبو بمرور الزمن. كما يبرع في صياغة مضامين جديدة للنص الشِعري، من خلال أفكار قد تبدو عاديّة للوهلةِ الأولى، لكنها لا تلبث أن تضع القارئ أمام زاوية نظرٍ وتأملٍ مختلفة للحب والموت والحياة اليوميّة.
«كَروس يمسك بيد قارئه بإحكام، ليسير به عكس اتجاه المألوف، وقبل أن يتركه عند حافة الهاوية، في نهاية الرحلة، يضع بين يديه خارطة العودة التي يغمرها الضباب»، على حدّ تعبير المُترجم.
يقول الشاعر في قصيدة بعنوان (ضباب): يأتي الضباب من السماء/ ويسيرُ على الأرض/ يُغرمُ بالبحر تارةً/ وبالغابة تارةً أخرى/ ووسط هذا التردد/ يتبدّدُ ببطءٍ.
ما نجده في القصيدة السابقة من قلقٍ وجودي ينسحب على معظم قصائد الكتاب، طالما أنّ الشاعر يواجه غموض العالم بطرح المزيد من الأسئلة وبمنتهى الهدوء والحذر، دون أن يجيب عليها.
الكتابةُ بالألوان
ليس الرسمُ بالكلماتِ، بل الكتابةُ بالألوان أيضاً، ما ينبغي أنْ ننعتَ به قصيدةَ الشاعر كَروس عبد الملكيان، إذ ثمّة تداخلٌ شِعريّ/ تشكيليّ/ فوتوغرافي حميميّ وعميق، لدرجةِ أنْ لا وجود لحدودٍ فاصلةٍ بينها. بينما نجد أنّ اللغةُ زئبقيّة شفّافة والجُمَلُ مسبوكةٌ بعنايةٍ فائقةٍ، تكاد تخلو من أيّة مفردةٍ زائدةٍ، أو خارجَ نسقِ الشِعريّة.. في قصيدة (سيرة ذاتية) ثمّة بورتريه شخصي ينطلق من الخاص إلى العام، يتقمّص فيها الشاعر دور الطائر في إشارةٍ إلى ظاهرة الهجرة ومآلاتها، حيثُ يقول: أحبُّ الطيور التي فوق السطح/ والحبوب التي أنثرها لها كل يوم/ بينها/ طائرٌ ناكرٌ للجميل/ أعرفُ أنه سيرحلُ ذات يومٍ إلى السماء/ ولن يعود/ ذاك الطائرُ/ أحبّهُ أكثر.
التراكيب الحميمة في القصيدة السابقة نجدها بين جنبات جُلّ قصائد «ألوان العالم الباهتة»، وهو ما يشدّنا أكثر إلى عوالم كَروس، لما لها من خصوصيّةٍ جليّةٍ، سواء من جهة التقاطه للمشاهد الآسرة أو من حيثُ البراعة في تدويرها إلى شِعرٍ صرف.
كَروس عبد الملكيان
شاعر إيراني، ولد في طهران عام 1980، وهو ابن الشاعر الإيراني المعروف محمد رضا عبد الملكيان. يعمل محرراً في قسم الشعر في دار نشر (جشمه- الینبوع). ترجمت أشعاره إلى لغات عديدة، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والعربية والكردية، وغيرها.
أعماله الشعرية: “الطائر الخفي (2002)”، ألوان العالم الباهتة (2004)”، “السطور تغيّر أماكنها في الظلام (2008)”، “الحُفر (2010)”، “لا شيء جديداً مثل الموت (2013)”، “القبول (2014)”.
الشاعر الإيراني كَروس عبد الملكيان