فشل الليبرالية لعدم وفائها بوعودها لأعداد متنامية من البشر
تعني الليبرالية، حسب يعقوب عبدالرحمن مترجم كتاب «لماذا فشلت الليبرالية» لمؤلفه باتريك دينين الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام 2020، التحررية، والتي يعود اشتقاقها ومعناها إلى الحرية؛ حيث يختلف تطبيقها في أمريكا عنه في كثير من البلدان الأخرى في الغرب وفي باقي بلدان آسيا والشرق كافة، بل وفي كل مكان آخر من العالم. والليبرالية هي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، وإيجابية احترام حقوق استقلال الأفراد، باعتبار أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير والتعبير والملكية الخاصة والحرية الشخصية والنظام الاقتصادي للسوق الحرة؛ ولذلك يهدف هذا المذهب إلى وضع قيود على السلطة وتقليل دورها وإبعاد الحكومة عن السوق، إضافة إلى توسيع الحريات المدنية وتعظيم الإنسان من خلال منحه استقلالية ذاتية في إدراك احتياجاته.
ينما يؤكد محررا سلسلة مطبعة جامعة يال جيمس دايفيسون هنتر وجون إم. أوين الرابع، على أن فشل الليبرالية مرتبط بعدم وفائها بوعودها لأعداد متنامية ومحتشدة ومعبرة بنحو متزايد من البشر؛ حيث استحضرا أعراض هذا الفشل في حدوث انحراف متزايد في توزيع الثروة، وفساد في المؤسسات التقليدية (الجمعيات المدنية، النقابات العمالية، الأسرة…)، وفقدان الثقة بالسلطة السياسية والدينية والعلمية والصحافية، وتزايد خيبة الأمل في إحراز تقدم في تحقيق العدالة المتساوية للجميع، والاستقطاب المتسمر والآخذ في الاتساع بين المجتمعات المفتوحة والتجريبية وبين الحفاظ على المؤسسات والممارسات التقليدية. كما يؤكدان على أن الباحثين في هذا الشأن قد شنوا انتقادات راديكالية على الليبرالية من قبل، انطلاقًا من اليسار (ماركس، ومدرسة فرانكفورت، ومفكري مدرسة ما بعد الحداثيين مثل فوكو)، مرورًا باليمين (نيتشه، شميث، تقليديي الكنيسة الكاثوليكية)، وصولًا إلى موقع يصعب تحديد هويته وذلك مع ميلبانك وهاويرواس.
نهاية الليبرالية
يرى مؤلف الكتاب باتريك دينين أن الوعود التي قطعها مهندسو الليبرالية ومبتكروها قد تحطمت، لأن الدولة الليبرالية توسعت من أجل السيطرة على كل جانب من جوانب الحياة على وجه التقريب، حيث يرى المواطن إلى الحكومة على أنها قوة نائية لا تمكن السيطرة عليها، باعتبارها قوة تعمل على توسيع شعوره بالعجز عن طريق التقدم في مشروع العولمة. فالحقوق الوحيدة التي تبرز في الأفق هي حقوق الأغنياء وذوي المكانة الذين يستطيعون حمايتها (حقوق الملكية والامتياز، السيطرة على المؤسسات التمثيلية، الحرية الدينية، حرية التعبير، الأمان في بيانات المسكن والشخصية). لقد فشلت الليبرالية وفق رأي المؤلف لأن منطقها الداخلي صار «أكثر وضوحًا وتناقضاتها الذاتية ظاهرة للعيان، فقد خلقت أمراضًا هي في الوقت نفسه تشوهات لادعاءاتها لكنها تحقيق للغايات التي ترمي إليها الإيديولوجيا الليبرالية. تعتبر الدعوة إلى علاج أمراض الليبرالية من خلال تطبيق مزيد من الإجراءات الليبرالية بمنزلة إلقاء مزيد من الزيت على نار مستعرة. ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق أزمتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية»(1).
إن الليبرالية، حسب المؤلف، هي الأولى من بين باقي الإيديولوجيات السياسية الثلاثة الكبرى المتنافسة في العالم الحديث، ففي زوال الفاشية والشيوعية، بقيت هي تملك ادعاء الجدوى باعتبارها أقل إيديولوجية منهما بنحو واضح، بحيث إنها تعيد تشكيل العالم على صورتها بنحو خفي بوصفها أكثر مكرًا ودهاء، فتارة تتظاهر بالحياد وعدم ادعاء الأفضلية، وتارة أخرى تنكر أي نية لتشكيل النفوس تحت لواء حكمها؛ إنها تتجلى في أربعة مجالات مختلفة مرتبطة بحياتنا المشتركة وهي: السياسة والحكومة، الاقتصاد، التعليم، العلوم والتكنولوجيا.
ففي السياسة، يرى المؤلف أن الليبرالية ارتكزت على الحد من سلطات الحكومة وتحرير الفرد من السيطرة السياسية الاستبدادية، حيث لا يمكن للتباعد المحسوس، بين التعبير عن مظهر الموافقة الشعبية لشخص معين سيمارس سلطات تعسفية لا تضاهى على السياسة الداخلية والترتيبات الدولية، وبين انعدام هذه السلطات، أن يعالج من خلال ليبرالية أفضل وأكثر اكتمالًا وكمالًا، لأن أزمة الحوكمة هي ذروة النظام الليبرالي نفسه. أما في الاقتصاد، فيبقى التكامل الذي لا مهرب منه بين الأسواق والدول القومية والتقنيات، إلى الحد الذي لم يسبق له شبيه قبل ذلك، كما يرى توماس فريدمان “بطريقة تمكن الأفراد والمؤسسات والدول القومية من الوصول إلى جميع أنحاء العالم بنحو أبعد، وأسرع، وأعمق، وأرخص من أي وقت مضى، وبطريقة تمكن العالم من الوصول إلى الأفراد والشركات والدول القومية بنحو أبعد، وأسرع، وأعمق، وأرخص من أي وقت مضى”(2). فالنظام الاقتصادي، يرى المؤلف، هو وصيف الليبرالية ومحركها الأساس في الوقت نفسه، لأن أجور الحرية هي عبودية لحتمية اقتصادية بالضرورة.
تعمل الليبرالية المتقدمة على القضاء على التعليم الحر بقصد وضراوة واضحتين، لأنها تجده غير عملي من الناحية الإيديولوجية والاقتصادية. أما العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات فقد كانت أدوات لليبرالية من أجل تحرير الإنسانية من أشكال مختلفة من العبودية التي تتحقق بنحو خاص في التحولات السياسية طبقًا للنظام التمثيلي الذي أصبح خارج نطاق السيطرة؛ وفي الوقت نفسه نُشكَّل بنحو متزايد من قِبل تكنولوجيا واعدة بالتحرر من حدود المكان والزمان وحتى الهوية، حيث ظهر أن الحاسبات الآلية مثلًا صارت تغير هيكل عقولنا وتحولنا مباشرة إلى كائنات مختلفة من أجل التوافق مع طبيعة تقنية من الواجب أن تسمح بالتعبير عن أنفسنا الحقيقية.
ورغم أن الليبرالية قد أثبتت أنها جذابة وصامدة بسبب الالتزام الجوهري بالتوق إلى حرية الفرد المتأصلة بعمق في الروح البشرية؛ فإن صعودها التاريخي وانجذاب العالم نحوها لم يكن مصادفة، لأنها بكل بساطة قد جذبت كل من تعرض لنظم حكم تعسفية وظلم كبير وفقر وهشاشة. لقد كان ظهورها سببًا مقنعًا لإعلان فرانسيس فوكوياما في العام 1989 “أن الجدال الطويل المحتدم حول الأنظمة المثالية قد انتهى، وأن الليبرالية كانت هي المحطة النهائية للتاريخ”(3).
ومن المؤكد، كما يرى المؤلف، أن جذور الليبرالية تكمن في كونها تعمل جاهدة على إسقاط مجموعة من الافتراضات الأنثروبولوجية والأعراف الاجتماعية التي صار بإمكانها أن تصبح مصادر لأمراض ونقاط صراع وعراقيل أمام حرية الفرد؛ حيث وضعت أسسها من قبل سلسلة من المفكرين الذين كانت غايتهم الأساس هي تفكيك ما خلصوا إلى أنها أعراف دينية واجتماعية غير عقلانية من أجل تحقيق السلام المدني والذي قد يحقق نوعًا من الاستقرار والازدهار ويحقق في النهاية حرية الفرد في العقيدة والعمل.
الليبرالية بوصفها مناهضة للثقافة
يرى المؤلف أن التوسع المزدوج للدولة والاستقلال الذاتي للفرد يستند إلى إضعاف وفقدان ثقافات محددة في نهاية المطاف، بل واستبدالها ليس بثقافة ليبرالية واحدة وإنما بنزعة شاملة مناهضة للثقافة. إن التعددية الثقافية علامة على نزع أحشاء الثقافة لأنها مجموعة من العادات والتقاليد والطقوس الجيلية الموغلة في سياقات محلية ومتنوعة ومحددة تاريخيًا؛ ويذكر ماريو فارغاس في الإطار نفسه، “لقد توسعت فكرة الثقافة إلى المدى الذي، على رغم أن أحدًا لم يجرؤ على قول هذا بصراحة، اختفت معه. لقد أصبحت شبحًا عصيًا على الفهم، ومتعددًا بغزارة، ومجازيًا”(4).
وتبقى الطقوس الثقافية المشتركة المتبقية هي طقوس الاحتفاء بالدولة الليبرالية والسوق الليبرالية؛ حيث ترتكز مناهضة الثقافة الليبرالية في هذا الصدد على ثلاثة أعمدة، هي: الغزو الشامل للطبيعة، واعتبار الزمن بمثابة حاضر وليس ماضيًا، ثم وجود نظام يجعل المكان قابلًا للاستبدال مفتقدًا للمعنى التعريفي. فمناهضة الثقافة هي نتاج لقانون معاير يحل محل الأعراف غير الرسمية التي يجب الالتزام بها على نطاق واسع والتخلص منها باعتبارها أشكالًا للقمع والظلم؛ حيث يُنظَر إلى مناهضة الثقافة على نحو متزايد بوصفها موضع عبودية الإنسان وتهديدًا لوجوده المستمر، فالنشوة واللذة العارمة المتزامنة مع مشاعر القلق الوجودي لدى إنسانية محررة، “هي مؤشرات على النجاح المتزايد لليبرالية والإخفاق المتراكم. إن التناقض هو اعتقادنا المتزايد بأننا في قبضة مصادر تحريرنا بعينها، وهي المراقبة القانونية المتغلغلة والسيطرة على الناس إلى جانب التحكم التكنولوجي في الطبيعة. حيث تنمو إمبراطورية الحرية، فإن واقع الحرية يتقهقر. إن مناهضة الثقافة لدى الليبرالية- التي يفترض أنها مصدر تحريرنا- تسارع من وتيرة ونجاح الليبرالية وزوالها”(5).
يتحدث المؤلف في مسألة الغزو الشامل للثقافة عن الطبيعة الجذرية للفصل الذي تحدثه الليبرالية في كلمة الثقافة نفسها؛ باعتبارها كلمة لها روابط عميقة بالأشكال والعمليات الطبيعية، وبشكل واضح بكلمات مثل الزراعة والتهذيب. بل إن سلطات الدولة الليبرالية بشكل كبير تركز على نجاح المشروع الليبرالي في المجال الاقتصادي، وعلى إزاحة تلك المؤسسات الثقافية المتبقية التي كانت مسؤولة عن حوكمة الشهوات الاستهلاكية والجنسية باسم الحرية والمساواة، من أجل إحلالها محل الأشكال الثقافية باعتبارها الشرط الضروري للحرية الليبرالية. وفي هذا الصدد تبقى السمة الأساسية من سمات المشروع الليبرالي هي النفور من الثقافة لأنها تمثل علاقة عميقة مع طبيعة تعرف الطبيعة البشرية وتحددها.
إن خلود الليبرالية يرتبط بالأساس بمحاولة تحويل تجربة الزمن، بل تحويل العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ وفي هذا الإطار تفترض النظرية الليبرالية شكلًا من أشكال الوجود “يتناقض مع التجربة الفعلية لمعظم الناس قبل أن يجلب المجتمع الليبرالي ظروفه الطبيعية إلى الوجود”(6). فأليكسيس دو توكفيل أشار إلى العلاقة الأساسية بين ظهور الليبرالية وبين تجربة الزمن المتصدع؛ باعتبار أن الليبرالية تتميز بالميل إلى الحاضرية الفلسفية في مسألة تطبيقها مبدأ المساواة برفض الأرستقراطية، حيث إن الناس لا ينسون أسلافهم فقط، بل تحجب ذريتهم عن أنظارهم وتعزلهم عن معاصريهم (7). فالليبرالية، هنا حسب المؤلف، تحاول تحريرنا من الزمن المتصل باعتباره ملمحًا أساسيًا لطبيعتنا.
إن الليبرالية بوصفها لا مكنًا وفي الوقت نفسه كل مكان موجود حسب المؤلف، فإن حالة الطبيعة لديها ترتبط أساسًا بشان رفع مسألة عدم الانتماء إلى مكان محدد؛ فالليبرالية، وفق هذا المنظور، لا تعتمد على الافتراض الأنثربولوجي بكون البشر ينبثقون من لا أحد، فحسب، وإنما باعتبارهم أنهم من لا مكان، ذلك المكان الذي يصادف أن يولد فيه الإنسان وينمو بشكل عشوائي بقدر عشوائية آباء المرء وديانته وعاداته وتقاليده. فالليبرالية تضع افتراضًا واضحًا محددًا ومن دون مكان بشكل أكثر تطرفًا، يبدأ كنظرية منذ البداية لكنه يعيد تشكيل العالَم في صورته الجديدة.
ويبقى علينا أن نقول إن هذا الكتاب يحاول أن يثير حفيظتنا كقراء، ويتحدى تفكيرنا في مسألة علاقة الليبرالية بالعديد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومدى مناهضتها للثقافة السائدة في المجتمعات البشرية؛ من خلال دفعنا إلى طرح افتراضات عالقة في أذهاننا وعقولنا المفكرة التي تعمل جاهدة على قراءة الواقع والحياة.