آني إرنو (1940م)، تعد واحدة من الروائيين الفرنسيين المعاصرين، وأبرز كتّاب ما يُعرف بـ “تيار التخييل الذاتي”، حيث تدور معظم أعمالها الأدبية حول تجاربها الذاتية مع قضايا تشمل العائلة، الزواج، الغيرة وغيرها من المواضيع الاجتماعية.
في رواية “لم أخرج من ليلي” (ترجمة: نورا أمين، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 2005) تكتب آني إرنو عن المآل القاسي.. خوفنا المشترك من الغد، من المجهول، من خلال التماعات استحضار ماض غير سعيد، تفرض نفسها بقوة أمام سطوة الزهايمر؛ حيث تحضر تلك “الفلاشباكات” وتغيب نكاية في الذاكرة الخؤون، على سبيل مقارنة أحوال ذلك الجسد المخذول، الذي تكالب عليه الوهن، الشيخوخة والخرف.
تكتب إرنو عن ذلك الجسد، الذي طالما سجنته الكتابات- الذكورية والنسوية على حد سواء- في احتياجات بيولوجية. تكتب صاحبة “شغف بسيط” بلغة شديدة البساطة والقسوة أيضًا عن ذبول الجسد التدريجي، وتشرح ذلك الألم الذي يخدش مرآة الروح، ويعمق مأساة الذات جحود المجتمع الأكثر قذارة من ذلك المكان المقزز، الذي ينبذ فيه العجزة، بعد أن لفظتهم رحى الحياة، لكي يبتلعهم هامش النسيان.
ترسم آني إرنو صورة الأم، التي لا يمكنك إلا أن تتعاطف معها، رغم قسوتها السابقة، النابعة من وسط اجتماعي فقير، يدعي الفضيلة، ويتحالف مع قيم طهرانية بالية تحاصر توق الإنسان إلى الإنسانية، وجوعه الأزلي الأبدي إلى المشاعر الدافئة باسم الفضيلة، فيخط هذا المجتمع أولى كلمات رحلة التيه في نفق مدلهم تعبر عنه جملة لا واعية: “لم أخرج من ليلي”.
على رغم حفلة التنمر، التي اندلعت في مواقع التواصل الاجتماعي، فور إعلان فوز الكاتبة الفرنسية بالجائزة الشهيرة، باعتبار أنها لا تستحقها، وهناك كتاب آخرون أجدر بها، فإن كتابة إرنو غير مهادنة، تفضح زيف هذه الحياة الممعنة في القسوة والجحود، من خلال تجربة عامين ونصف العام. في بيت لرعاية المسنين، انتهت بالعمى قبيل الوفاة، وبالتالي، عدم القدرة على الأكل.. ولم تكف الأم عن استجداء الحب من خلال النظرة أو طلب الخروج من مكان قذر تفوح روائح الفضلات البشرية.
لن نغالي إن قلنا إن صاحبة “العار” تكتب عن تلك الخديعة، التي يمكن أن نسميها رحلة اغترابنا المشترك والمستمر، حيث تلوذ أحياناً بأوصاف فضائحية مقتضبة، تفضح ذلك العار (عارنا نحن جميعا)، الذي يكبل هذا الوجود، الذي لا يستحق سوى أن تستهين به، وتفضح تفاصيل قسوة المفارقة أو تلك الخديعة التي تدعى: الحياة.
بلغة متقشفة تصف إرنو “مشاعر تحت الجلد”، بتعبير أسامة أنور عكاشة، عبر سرد جريح جارح، يجعلك تتصور أن إرنو تنحت كلماتها بشفرة حلاقة على جدران الروح: “أتفادى في أثناء الكتابة أن أترك نفسي تنجرف مع المشاعر”، ومع ذلك يتسرب الألم إلى قلبك.. رغم هذا الحياد السردي/ الوجداني المزعوم، وهي تصف حميمية الفقدان وشعرية الألم، بدون لغة التباكي أو استجداء مشاعر القراء: “ذلك المشهد يطاردني، أرى أمي بنظرتها المجنونة، لدي رغبة هائلة في البكاء الذي لا يمكنه أن ينفجر (سوى عند موتها)”.
“لم أخرج من ليلي” رواية كتابة التفاصيل الصغرى، وتفاصيل الكتابة؛ كتابة سفر الخروج من ليل الخديعة، قسوة الألم الذي لا يتوقف عن السباحة/ السياحة في نهر الحياة.
كثيرون انتقدوا أرنو بسبب حميمية كتابتها، التي تلامس سقف الفضائحية أحياناً. هذه الحميمية التي تشي بالنهم والإقبال على الحياة، كما يتجلى في تعبير هذياني تفوهت به الأم في إحدى هلوساتها، التي لا تخلو من بعض الحكمة: “حكت لي أنه قد حدث منع تجول ليلا، لكنهم تركوا لنا الحياة، وهذا هو الأهم”.
وعن مجمل كتاباتها كتب الناقد المغربي إبراهيم الخطيب: “هكذا انسلخت الكاتبة عن جلد الروائي وتحولت إلى صوت يتبنى هويته الحقيقية ويروي، كمرجع واقعي، تنويعات سير ذاتية على موضوعات الحيرة وألم القطيعة وحساسية التقدم في السن وأشكال الرقي الاجتماعي بواسطة التعليم والغيرة القاتلة والعلاقات العاطفية العابرة”، وعن الكتابة بحد السكين يشير الخطيب إلى أنها “في كتابها “العار (1997)”، تروي كيف شاهدت، وهي مرتعبة إلى حد الذهول، أباها يهدد أمها بالقتل بواسطة ساطور. كانت إرنو في ذلك الوقت في الثانية عشرة من عمرها، لذا فإن استحالة فهم ذلك التصرف، وتعمد إخفائه بوعي أو بدون وعي من طرف الجميع خاصة الأقارب، طبع طفولتها وبشكل نهائي بميسم العار ومشاعر الإثم”.
هشام بن الشاوي، كاتب مغربي، فازت روايته “قيلولة أحد خريفي” بجائزة الطيب صالح في دورتها الثانية، 2012م.
قراءة تكثف النص بابداع وتحليل لا يخلو من التشويق.