المجموعة فكرة جديدة في تقنيات الأمل واليوتوبيا تزحف نحو متن الشعر نابضًا بروح التغيير
ما زلنا نبحثُ عن الأمل والمثاليّة في قلب الشّعر دونَ غيره في فعل الكتابة. مطاردةُ الأمل بالتورّط في اختراعٍ عالمٍ موازٍ أو بديل عن واقع مهدّم لا سبيل إلى الفكاك منه، ولا سبيل إلى إصلاحه. هذا الفقدان للحبّ والأمل والكرامة، للسعادة والسّكينة في المستوى الواقعيّ، المحليّ والعالميّ على حدّ سواء، يحتاجُ إلى تعويضٍ عنه بتشييد “يوتوبيا” مثاليّة تأخذ المتلقّي إلى طموح التغيير، والرغبة في الابتكار بصفتها جوهر اليوتوبيا.
يرى بول ريكور إنّ دور اليوتوبيا يكمن في “تنمية منظورات جديدة وبديلة، حيث المخيلة نفسها- وعبر وظيفتها اليوتوبية- تمتلك دورا تكوينيًا في مساعدتنا على إعادة النظر في طبيعة حياتنا الاجتماعية لذا فإن اليوتوبيا باعتبارها قفزة إلى خارج المألوف قد مكنتنا من أن نعيدَ النّظر من خلالها في تعريف الكثير من المفاهيم المحورية لعلم السياسة والاجتماع، كتعريف السلطة والعائلة والدين بشكل ثوري وغير مسبوق” (بول ريكور، محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا).
في مجموعته الشّعرية الثانية “ليسَ حبًا بل دعابة” الصادرة عن دار النهضة العربيّة في بيروت (2022)، يقدّم الشاعر اللبناني الشاب محمود وهبه يوتوبيا بديلة من نوع آخر تفعل الفعل الثوريّ غير المسبوق الذي ينتهي إليه ريكور. ليست يوتوبيا متسامية، بقدر كونها يوتوبيا “تنزل” إلى قاع الأرضيّ لا “تطلع” إلى السماويّ وتحلّق فيه، وذلك يحدثُ في أكثر من مستوى لغويّ وثيماتيّ. الوسائل التصويرية هنا أدوات بلاغية تُستخدم لتوضيح مفهوم أو وصف من خلال إنشاء صورة لفظية تتوافق معه أو تتوازى معه. وتسود النزعة الواقعيّة في قلب المفردات التي تخلقُ هي الأخرى مسيرتها في حركة القصيدة باتجاه الريبة والشك واللايقين وتتابع الأسئلة التي فقدت ثقتها في الموجودات:
ما سرُّ بقائكَ هنا؟ لمَ لا تَخرُجْ؟ أسرِعْ أيّها المبحرُ غرقاً. تجاهلكَ حبّنا لن يعفيكَ من الجريمة. كلّ هذه الموسيقى لا تكفي لإرضائكَ. لمَ لا تمشي؟ لمَ لا تأتي؟ يا إلهي الغائب يا نصفيَ الباقي بعد فناء يكفيكَ كلُّ هذا الحزن. أدّيتَ قسطكَ للعلا رأفةً بالعمرِ الباقي.
العُمقَ الدلاليّ للأوصاف وأشكال استخدام اللغة هنا، يحيلنا إلى النهاية والغياب، بصفتهما أدوات تعويض عن اللحظة الراهنة الخاسرة، تحيلنا إلى تفكير “يوتوبيّ” جديد- بديل، يوتوبيا مشروطة بتحقق عناصر الإرباك والحدس والبحث عن الممكن الصّوري البديل للواقع. اليوتوبيا الهروبيّة باتجاه اللحميّ غير الحالم، واللامستقر اللامتوازن، والمتشكّك الذي يثيرُ القلق في ثوريّة خافتة تأتي في هيئة مفردات عاديّة لكنّ بساطتها شديدة التركيب:
عارياً من كلِّ شيء: من نحولكَ من جحودكَ من رمالكَ عارياً كأرملة مثلَ الذين ماتوا سريعاً ولم يعودوا.
المماسّ الشّعري الذي يجمع بين الأمل وفقدانه، بين المعنى واليأس من المعنى، بين سوق المفردات في القصيدة وعاجيّة التّخييل الشعريّ يُدخل الشاعر في المنطقة الأكثر قسوةً في كتابة القصيدة اليوم. تنبع هذه القسوة من اضطراره الى الإتيان بالحجج والبراهين لتبرير نقطة التّماس هذه من خلال صندوق أدواته الشعرّيّ:
على النافذة ثلاث حُبيباتٍ من المطر/ تأخذُ الذاكرةُ شكلَ كيسٍ من الجنفيص/ تتّسعُ/ تزدادُ خُشونةً/ توزّع محصولَها على الحاويات.
الذاكرةُ بئرٌ/ قفصٌ/ تمثالٌ/ خزانُ أسرارِ الآلهة/ كرسيُّ الاعتراف لخطايا متكرّرة.
عشوائيّة رقيقة على خطّ التّماس بين المألوف واللامألوف، تلك المنطقة المحايدة التي تعمّر عالم غالبيّة هذه القصائد. خطّ التماسّ هذا هو ما يرسّخ دراميّة ما بين تضاعيف القصيدة لا يمكن تجاهلها، الدراميّة التي تأخذنا إلى أنسنة الأشياء، في سبيل طرح بديل للتغيير يبقى في مستوى التخييل واللغة البسيطين.
من هنا تأتي فلسفة البساطة في ظاهرها، المركّبة في باطنها، تقصي نفسها عن اللفظيّة الفارغة، وتركّز على اللفظيّ الواقعيّ. البساطة العميقة تعمّق الصّلة بالواقع وتنفصلُ عنها في خيط رفيع يوازن المنظومة الشعرية في القصائد. البساطة التي تسبح في منطق يوتوبيّ خاصّ بها، لا يدخل في الملل والرتابة، بل يحملُ الوجوديّ والمفاجئ في قلبه:
الأحلامُ حين تنتهي لحظة الاستيقاظ المفاجئ/ الورودُ حينَ تذبلُ في الخريف/ العصفورُ حينَ يشردُ ويبتعدُ عن القطيع/ النّهر حين يغيّرُ مجراه/ …/ السّمكةُ حين تُعلَّقُ على الجدار/ التفاحةُ حين تنفجرُ وتغور/ الأرضُ إذ تُفرغُ حمولتَها/ … عامودُ الإشارة حين يرتطمُ بالسيّارة ويخلعُ الرصيف/ النادلُ إذ يدورُ حول الطاولة/ … التابوتُ حين يحتضنُ ميتاً/ السّوادُ الأعظمُ حين يغطي جدران البلدة أيّام عاشوراء/ الرسالةُ حين تغادرُنا بعد أن نضغط زرّ الإرسال/ التفاصيلُ المنسيّةُ حينَ تعودُ بقدرةِ قادر.
هكذا تتعزز الطاقات الايحائيّة لتكسر الرتابة في الصّور المتوالية، الآلية في الصور المتتالية تخلقُ عشوائيّة عذبة رقيقة دون حاجة إلى عنف مجازيّ يُحدثُ اضطرابا وبلبلة ويُتعب القارىء في البحث عن المعنى. وفي بنية القصيدة التي تُشبه أحلامًا يوتوبيّة، ثمّة موضوعيّة ما غير منحازة لشيء، لهدف، لرغبة ما في الذات الشاعرة. لنقل إنّه وعيٌ موضوعيّ لذات تبحثُ عن الأمل في قلب الحُطام، الزّحف باتّجاه التفاصيل المنسية، ولملمتها في قالب التداعيات وكأنّها تداعياتٌ حرّة تضرب جذورها الغريبة في اليوميّ المنسيّ لكنه اليوميّ الحميم في ذات الآن.
تلعب المخيّلة دورًا هامًا في قصائد هذه المجموعة، وهو دَور يدعمُ ضعف الواقع على المواجهة ويستفزّه. ثمّة طاقة حيويّة وحريّة تتحرّك بلا قيود في هيئة “يوتوبيا ليبيديّة” اذا جاز التّعبير. لنأخذ الصورة التالية:
تعيرُنا المومسُ جسدها كلّ ليلةٍ حتّى ننسى. تعيرُنا انكساراتها وذاك الصّراخ الأخير. لا ترضى المومسُ بالقليل… لا تشبعُ المومسُ قبل أن تُخرِجَ منكَ إناثاً وحشراتْ قبل أن تتكاثرَ وترجعَ إلى ندمك. تتكوّرُ المومسُ مثلَ بزّاقة تصنعُ الشّاي للأزواجِ بيدٍ باردةٍ تقلّمُ ما تبقّى من الأظافر.
هذا التّبذير في التخيّل الجنسيّ المبالغ فيه داخل قصيدة واحدة شكلٌ من أشكال الحيوانيّة المنتهِكة لحِشمة الوصف في القصيدة الخجلى. الإحساس بالحرارة يوازيها إحساسٌ بالخَجل من الانحراف عن اللغة الشعريّة. اللغة نفسها تبدو وكأنّها ميكانيزم دفاعيّ عن حقّ الشّاعر في قسوة التخيّل. وهذا الإفراطُ في القسوة، أو الأصح ربّما، الانتهاك، يخلقُ عالمًا بديلا، أو موازيًا لواقعٍ هشّ لا يحتاجُ في المرء إلى عفّة وحشمة. نحنُ أمامَ بديل آخر لواقع دستوبيّ، “يوتوبيّ جديد” يحرر اللاوعي الجامح من الكبت، واللغة الحيوانيّة الغرائزيّة أداته.
هذا الخروج من اليوتوبيّ التضحويّ، إلى اليوتوبيّ الإيروتيكيّ يُعيدُنا إلى التفكير في مفهوم الا، “ليس حبًا”، وهذا النّفي ينوي على علاقة قلقة بين الحبّ بصفته رمزًا للطوباويّة، وعلى حضور الدعابة وتأكيدها، بصفتها رمز العبثيّة الواقعيّة التي تخطّت حدود المعقول اليوم.
سنعود ونجد هذا الانتهاك في لياقة لغويّة بسيطة تحملُ انحرافًا في الفكرة، وهو جوهر التغيير:
بعدَ كأسَي ويسكي أبصرُكِ امرأةً بلا أثداء عاريةً تماماً. أصيرُ امرأتكِ في السّرير مومساً تغتسلُ وتزعقُ في الصّباح.
لسنا أمام تصورات فاضلة لعالم فاضل ولواقع معيش فاضل، وبالتالي فإنّ الانحراف عن تقاليد اليوتوبيا العريقة للإنسان الفاضل غير واردة في الحسبان. الممكن الصّوري هنا هو ممكنٌ لحميّ، انزياحيّ، ينحو نحو مديح الفقدان، النسيان، الغياب، الفجور، ولا يتوانى أيضًا عن تصوير اليوميّ البسيط كما هو، بتكراره وتكرار الصّور المكرورة في قلب التغريب.
المجموعة فكرة جديدة في تقنيات الأمل واليوتوبيا تزحف نحو متن الشعر، وهذا ما يجعل الشعر نابضًا بروح التغيير.
ريم غنايم: كاتبة ومترجمة من فلسطين | qannaass.com