تقود هيلين سيارتها باتجاه مكان عملها، تحدّق في الوجوه والأماكن التي تمر بسلاسة وبطء أمام عينيها كمشاهد من فيلم صامتٍ قديم.
الرجل المعتكف جوار أحد المحال المصفوفة على طرفي الشارع العام في مدينة القامشلي، يجلس القرفصاء وسط غابةٍ من أقدام المارة، طوال الوقت يحدق بشيء غير معين دون أن ينكس عينيه الضامرتين، يكرر بغنة وتواتر كلمات: من مال الله يا محسنين.
تكسو الظلال المتشابكة والمتداخلة بخطوطها جسده النحيل والممتلئ بالثآليل بينما تقف هيلين بسيارتها عند شارة المرور بألوانها الباهتة.
يذرع دينو المجنون الشارع بخطواته المتثاقلة، بجبة بالية ذات رقعٍ ممزقة وأوسمةٍ من أغطية زجاجات “الكولا” معلقة على صدره بشكلٍ عشوائي يكسوها الصدأ، فجأة ينتصب فتهتز كتل اللحم في جسده، يمسك بعصاه المزركشة بأقمشةٍ رثة لُفت عليها أعلامٌ مختلفة، ويرفع ياقته كقائدٍ مهيب، ليتعالى فوراً صياح السائقين ملوحين بأيديهم بغضب طالبين منه التنحي عن الطريق، لم يكلف دينو نفسه عناء إبداء أي ردة فعلٍ أو نسمة اهتمام بصرخاتهم، وبعجرفةٍ ملحوظة كان ينفث عقب سيجارةٍ التقطها من الأرض، وينفجر ضاحكاً وسط صرخات السائقين الشبيهة بعواء قطيعٍ من الذئاب.
تموجات دخان سيجارة “دينو” تغمر وجهه المشوي جراء الشمس اللاهبة، كل ذلك رسم بسمة خفيفة فوق ملامح “هيلين”.
يشمر عن جبته و يبتعد عن المكان بتمهلٍ وبمشيةٍ عسكرية يصرخ بأعلى صوته: هيا اسرعوا هيااااااا.. يقهقه يلطم براحة يده على أسقف سيارات السرفيس وسط الازدحام ذاك. يكمل: ثمة حفلة شواء بانتظاركم هه هه هه هه.
أثار كلام دينو دهشةً غريبة في نفس “هيلين” وهي تحدث نفسها قائلة: آآآه دينو…!! أحسدك على هذه الضحكة.
تتابع طريقها وسط الزحام وهي تعض على شفتها في محاولةٍ منها لمنع ضحكتها، ترسم بأنظارها خطوطاً وهمية باتجاه وجوه السائقين، وهي تستدير بشكلٍ غير مكتملٍ صوب فتاةٍ ترتدي فستاناً طويلاً بشقٍ يصل إلى الركبتين، وكمين قصيرين، اللون القاتم لفستانها يجعل بياضها أكثر نصاعةً.
كانت حركاتها وهي ترسم شفتيها بالأحمر الفاقع أمام زجاج إحدى المحال يغدو توصيفاً ملفتاً لوجهها العادي وقامتها المتوسطة- الممتلئة وشعرها المتموّج، الجميع يراقب حركاتها الناعمة وشفتيها اللتين تلتويان بغنجٍ، وبينما كانت تمرّر أصابعها على شعرها لتسوية خصلاتٍ نافرة، يمر شابٌ ذو عضلات مفتولة وشوارب كثة يمط من خلالها شفتيه ويمرر قداحته عليهما عدة مرات وكأنها أحمر شفاه، ثم يتابع طريقه على عجل دون أن تلاحظ الفتاة شيئاً.
كانت هيلين تقود ببطءٍ والبسمة ترسم خطوط عظمتي وجنتيها خلال شارع (عامودا)، حين اهتز المكان بانفجارٍ عظيم، اختفى الأفق بسحابةٍ كثيفة من ترابٍ تساقط من الأعلى، رمادٌ ابتلع الأبنية المدمرة، هدوء ثقيل يخنق ضجيج الحياة ويدفنه، لم يكن ثمة شيء يوقظ السكون سوى سقوط قطع الأبنية الاسمنتية التي لا تزال معلقة في الطوابق.
بعد دقائق تنزل “هيلين” من سيارتها وسط الخراب، المكان يضيق للحياة ويتسع للدمار وللناس الذين تجمعوا للتو، بعضهم يبكي وآخرون يلطمون، وجومٌ مرعبٌ لم تستوعبه “هيلين”، حدقت بغرابة بالناس الذين يحاولون الاقتراب منها وحملها، والبعض الآخر يبكون محاولين تغطيتها بقماشٍ أبيض تلوّن بدمائها، تتحقق من سلامة نفسها قائلةً بلغةٍ مرتبكة: أوه.. الحمد لله أنا بخير.
كلهم يديرون ظهورهم لها دون أن يأبهوا بها، يهرعون نحو جثثٍ مرمية ضاعت ملامح أصحابها الباهتة في أتون الدمار المخيم، تسألهم “هيلين” بدهشةٍ: ماذا يحصل يا عم.. أرجوكم ما الذي يحدث؟
يتردد صدى كلامها وسط صمت الجميع دون أن يجيبها أحد، تتنقل هيلين بين الركام بسهولة، وتدخل الأماكن المدمرة بخفة، تتلمس محيطها المعفر بأصابعها، يثير صوت دينو انتباهها وهو يخرخ من تحت الركام بمنظر بهيٍّ، اختفت الأوسمة والرقع الملونة من على جبته، يمشي بهدوء وكأنه هالةٌ من الضوء وعلى مسافةٍ صغيرة تعلو الأرض، يتمتم قائلاً وهو يلف رأسه يميناً ويساراً: يا لهذه الفوضى.. ما الأمر؟
تراه “هيلين” بنفس الصورة القديمة، لم يتغير من مظهره شيءٌ، مردفةً بغرابة: يبدو أن الأمور اختلطت في ذهني، أرى دينو مرةً بملابس نظيفة وأخرى بملابسه المعتادة.. هل أنا في حلم؟.. بعد ثوانٍ قصيرة تسمع الصيدلي “آرام” بقامته القصيرة وهو يناديهما بصوتٍ عذب وناعم يصدح في الحي: ألا تخبروني يا جماعة ماذا هناك؟ تنظر “هيلين” إليه فاغرة الفاه قائلة: غريب.. صوت آرام جهوري و خشن ما الذي غير من نبرة صوته؟
تنظر بصدمةٍ إلى الخباز “سردار” ، بدت صدريته الممتلئة ببقع الزيت ناصعةً على غير العادة، كان يحدق في كل الجهات ونوره يضيء أينما حلت نظراته، تقول هيلين بدهشة: ما هذا النور الذي يسطع من عينيه وأين نظارته الطبية؟ تبحث عنه لتجده في الجهة المقابلة تماماً قائلة: ما هذا الذي يحصل لي؟ ها هو “سردار” بنظارته الثخينة والصدرية المبقعة.
يمشون دون وجهة محددة، يجدون أنفسهم أمام مرآة باب الحلاق المهشمة، تنظر “هيلين” بحيرةٍ إلى نفسها عبر المرآة، تتوارى صورتها تتلاشى التعابير، لم تٌدرِك شيئاً.
يمرر الصيدلي كفيه المرتجفتين يميناً و شمالاً، يتحسس بإبهامه عينيه، إنه لا يرى شيئاً، يدني دينو وجهه هو أيضاً من المرآة، إنها تعكس الفراغ ليس إلا، يعيد المحاولة أمام شظايا وقطع المرايا المهشمة والمرمية هنا وهناك، لكن دون أن يلمح حتى أي تفصيلٍ صغير. عاد دينو مرة أخرى إلى مرآة الحلاق ليتحقق من ملامحه وهيلين والخباز والصيدلي وآخرون مجهولون، بدأوا يتحسسون أجسادهم ويتبادلون أماكنهم في ذلك الحيّز أمام المرآة، حتى أصبحوا يتدافعون بهلعٍ، لكن دون جدوى، لم تعكس المرآة شيئاً سوى العدم.
شيرين صالح: كاتبة وقاصة من سوريا (qannaass.com)