أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

الذات محوراً للحدث في رواية منديل بالفراولة | محمد شويحنة

رواية خليل الرز «منديل بالفراولة» الصادرة 2022

لعل الكتابة عن رواية خليل الرز « منديل بالفراولة » الصادرة 2022 من منشورات داري ضفاف والاختلاف، مناسبة هامة للحديث عن تجريب سردي لافت بات يتعمق عبر أعمال متتالية للكاتب استطاعت أن تخط لنفسها شكلاً جديداً مستحدثاً يكاد لا يشبه إلا ذاته، من حيث تجاوزه لمجمل ما نعرف من أطر تقليدية راسخة في الرواية الكلاسيكية..إنه  تجريب يذهب إلى ترسيخ ما يشبه تعريفاً جديداً للرواية .

سنعيش في رواية منديل بالفراولة مع البطل/الراوي قصة حب غامضة وغريبة الأطوار، تبدأ من قصاصة ورقية من محبوبتة رايا تحمل موعداً غرامياً، مرفقة بثلاث حبات فراولة على طبق أبيض، وتتكرر رسائل رايا إلى الراوي، ليلتقيا سراً بمواعيد متعددة وأماكن مختلفة ..

اللقاء الأول سيتم في غابة البتولا، حيث يتفاجأ العاشقان بالمطر الغزير ويعودان إلى الشقة بعد ملامسات وقبلات، وتتالت بعدها القصاصات التي تحمل مواعيد متعددة في أماكن كثيرة .. وهذا الشكل للتلاقي سيتيح تصور عمق العلاقة وشدة وثائق الحب التي جمعت بين قلبيهما، بحيث لا يتم الحديث عن عشق وهيام ومشاهد حميمة بقدر ما ينصرف الراوي إلى تصوير لازمة هذا الحب على شكل رسائل تتكرر ومواعيد لقاء تتكاثر .

إلى هنا قد يبدو الحدث في رواية منديل بالفراولة قصة حب عادية ، لكن العمل الروائي ينمو باتجاه العمق واللامرئي من المشاعر ، عبر سرد غرائبي يتوسل بأحداث لا معقولة لكنها تمضي في ترسيخ وجهة النظر الأساسية والمؤمل والمرتجى من عملية السرد برمتها، فالكاتب خليل الرز يسعى باجتهاد في محترفه الروائي لتكريس نهج في الكتابة السردية يقوم على الحفر في العمق النفسي، متجاوزاً الأطر التقليدية في المدونة الروائية العربية .. وقد ظل طابع عمله الروائي الابتعاد ( في حدوده القصوى ) عن الموضوعات العامة والقضايا الكبرى، والتناول الظاهري الآني والمباشر للحدث.. ببساطة ثمة قصة حب محاطة بزخم من الإشكالات والتناقضات والنوازع الشعورية، جسّدها رمز الفراولة، على خلفية من لحظة تاريخية من أحداث، عشية رياح التغيير التي بدأت تعصف بأوربا الشرقية كلها وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي.

وتحفل رواية منديل بالفراولة عموماً بسير ذاتية تنداح بدوائر وتتداخل وتتقاطع : البطل، رايا، أبدول، ساشا، الفراولة، الدمية، نونا، سالم .. وأساسها وعلى رأسها سيرة البطل السارد بضمير المتكلم، وما يولده من سير يجعل من ذاته محوراً لها، بحيث يوظف دلالاتها ليجلو من خلالها وبها وجهة النظر وزاوية محددة للرؤية . وهذا التحديد إنما ينطلق من فكرة أن الأحداث الجارية الماثلة للعيان لا يعول عليها ولا يؤخذ بها لأن الحقائق تكمن في أماكن أخرى، في أغوار النفس الشاعرة، المنفعلة، في المخيلة، في الأوهام والأحلام، بما يفتح أبواباً للتفكيك والتأويل سرعان ما تغلق لتنفتح أبواب أخرى، عبر حدث ليس هو المهم بذاته بل باندياحاته وتأويلاته وتداعياته.

الروائي خليل الرز

 

ومحور عملية السرد في الرواية يقوم على ركيزتين أساسيتين : الأولى استظهار الأفكار الذاتية وتوليدها واستثمارها الأبعد. والثانية : قراءة أفكار الآخرين ( أحياء وجمادات ) بما يوائم الركيزة الأولى ويعززها، وبما يتيح إتمام عملية الرسالة السردية .. فالراوي بلسان المتكلم هو البطل، الكائن الإنساني بالمطلق المعمم، ومن هنا سيظل بلا اسم على طول الرواية، أي بلا تحديد لهوية ما، إذا افترضنا أن اسم الإنسان هوية، وهو المحور الرئيس للأحداث، وبه وبذاته تنحصر بؤرة السرد ومآلاته، فنحن إذن أمام سردٌ ذاتي تقدم فيه الأحداث من زاوية نظر الراوي الذي يخبر بها ويفسرها ويعطيها تأويلا معيناً، أو يوجهها على هدي نبضه النفسي المحكوم بالخوف والتردد والريبة.

وفي تتبع تداعيات البطل واشتغاله على هواجسه ونزعاته والجري على الدوام باتجاه الداخل، يتم الابتعاد عن أي نزعة انتقادية في ما يخص شأن الآخر، عبر الانشغال بالذات وهواجسها فحسب، وعبر استبطان دائم تجاه جميع الحوداث والمشاهدات والأشخاص، إذ لا شأن للفردانية هنا بالآخرين وقضاياهم، بجحيمهم أو نعيمهم، ومن هنا سيكون الميل نحو التجريد، تجريد أحداث صغيرة كثيفة ومتلاحقة من حدث أمّ ليُعَدَّ هو المحرك والدافع للفعل الدرامي النفسي المتنامي في الرواية بقدر ما تفعله وتحركه حزمة هذه الأحداث الصغيرة وجزئيات الانفعال المسترسل مع سلسلة من تداعيات لاحقة تصنع بمجملها هذا الحفر في العمق النفسي الإنساني.

من هنا، وعبر التجريب الواعي المنضبط ببناء محكم، سيأتي السرد مغايراً ومفارقاً لمنظومة السرد التقليدية القائمة على الحكاية ومجرد الإبلاغ . والتفرد هنا يأتي من هذا التجريب الذي يقوم على كسر تراتبية الزمن، وتشخيص الجمادات، وسرد دقائق الشعور. فالرواية حسب هذا المفهوم ليست سردية أحداث بقدر ما هي سردية مشاعر، أفكار وتداعيات، تصورات مغرقة في ما هو خصوصي فردي ذاتي، من جهة، وثقافي حياتي معرفي من جهة أخرى .

وهذا الغوص في العمق سيتوفر له بناء لغوي موحٍ وبالغ الدلالة، من خلال مفردات رهيفة معبرة وتراكيب لافتة وباهرة في دقتها، مدعمة بالصور الفنية المرافقة، تصل إلى حد الإدهاش بشأن هذه المقدرة على التعبير وأداء مهمات التوصيل بعيداً عن أي إنشاء أو تزويق أو شطط. وعلى طول السرد الذاتي الذي يمحوره الراوي البطل حول شخصه سيجري باستمرار تطويع اللغة لتتناغم مع أدق الفكر واللحظات الشعورية، وربما دفع ذلك إلى استخدام ألفاظ من الدارجة مثل : رعرعة مشاعري، أشيل عيني، ينقز، رميت السلام عليه، عكمها، خلاها تظن، رصرصته، مجعلكة، معرَّم..

ولعل اللافت في الرواية اجتراح مفهوم للواقعية مغاير ومختلف عن كل الثوابت الراسخة في المفهوم، وذلك من خلال تأكيد البطل على المقولة السردية التي شكلت أبرز ما في الخطاب الروائي، وهي أن الواقع المرئي السطحي المتداول ليس هو الواقع الحقيقي، بل ثمة واقع آخر لا تحده حدود، يجري تحت القشرة الخارجية، في أعماق النفس، في الداخل، وبصور شتى لا حصر لها، يولدها كل فرد على طريقته، ووفق منظومة قيمه وثقافته، وهكذا نجد كيف تعاطى البطل/الراوي مع الدمية، ومع الرحلات الافتراضية في قطارات عديدة إلى رايا، ومع المنديل/الرمز، بكافة معانيه ومدلولاته عبر التاريخ، ليصور الكاتب بالتوازي مدى اضطراب هذا الحب وسرابيته وتحوله، في بوتقة من الهيام والتعلق، ثم الخوف والنكوص والتخاذل، ثم تحد يواجه البطل من خلال علاقات أخرى مع ناتاليا ونونا .. مشاعر دفينة تتجاذبها الشكوك والأوهام واليقينيات الصلبة وإرادة الكائن البشري في تحقيق أحلامه وأوهامه معاً. وبهذا النهج المستحدث في الكتابة الروائية يخط خليل الرز لنفسه أسلوباً بات يعرف به ويخصه، بحيث يضيف إلى فنيات الكتابة شيئاً غير معهود، بتميز لافت عبر درر روائية عنوانها الفرادة والتجاوز.

محمد شويحنة؛ كاتب وروائي سوري.

منديل بالفراولة

خاص قناص – أهوى الهوى كتاب

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى