رواية ميثاق النساء لـ حنين الصايغ.. جرأة الطرح ومعاناة المرأة المزدوجة في مجتمع ريفي متشدد
بقلم وداد سلوم
تسجل حنين الصايغ حضوراً لافتاً وجريئاً في روايتها الأولى (ميثاق النساء) الصادرة عن دار الآداب، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية هذا العام (2025)، يأخذنا العنوان مباشرة إلى فصل من كتاب الحكمة للطائفة الدرزية يضم تعاليماً خاصة بالنساء، متخطية عتبة الخوف في الاقتراب من المقدسات والشعائر التي امتزجت بالعادات وصارت قانوناً، في محاولة لتفكيكها وتحريض الوعي لكسر التابوهات المسيطرة على العقل الجمعي في مجتمع ريفي محدود، ومحصور تاريخياً بالجغرافيا الصعبة (جبل لبنان) وبالفكر الديني المغلق على نفسه ككل الأقليات التي توارثت وحافظت على هذا الانغلاق حفاظاً على وجودها عبر أجيال طويلة من رفض الآخر وحروب ما كانت تهدأ حتى تشتعل لتؤسس للرعب المستمر من الدم الذي قد يجري في أي وقت.
تهدي الكاتبة روايتها ميثاق النساء إلى ابنتها ليجتمع الإهداء مع العنوان مشكلان مدخلاً مثيراً للقارئ، يضعه في المناخ العام للرواية، وكأنها سيرة ذاتية تدور على لسان أمل بو نمر ابنة قرية عينصورة اللبنانية، إذ تتماهى الكاتبة مع شخصية الساردة لتروي قصة كفاحها ضد الواقع الظالم الذي جعلها تترك دراستها وتتزوج وهي ابنة ستة عشر عاماً في أسرة لم ترزق بشاب يعين الأب على مصروف بناته ولأن الفتيات ممنوعات من مغادرة القرية إلى الجامعة في بيروت فالمرأة أولاً وآخراً تستر بالزواج.
تختار الصايغ بداية للسرد حدثاً مشوقاً؛ وهو ساعة مغادرة البطلة إلى بيروت للتسجيل في الجامعة الأمريكية سراً دون علم زوجها أو أهلها، في لفتة متقنة لوضع الزمن الحقيقي للتحول في حياة البطلة كبداية. وليأخذ الزمن الروائي مسارين مسار الحاضر الذي تشقه أمل بقوة، ولكن بخوف شديد والزمن الماضي عبر التذكر لسرد حياتها في أسرتها الريفية تارة وعلاقتها الزوجية تارة أخرى. يلتقي الزمنان ويندمجان في تصاعد الأحداث عبر سرد شيق محتشد فكرياً وعاطفياً يأخذ القارئ للاندماج والتفاعل معه كأنه يعنيه شخصياً.
أما المكان فيتوزع بين الريف اللبناني وبيروت العاصمة لينتهي إلى أوربا حيث غادرت أمل بعد تفجير ميناء بيروت والتطورات الاقتصادية الأخيرة في لبنان.
موروث هائل من الخوف تركته حروب أهلية عديدة من جهة واسرائيلية من جهة أخرى
نكتشف عبر ذكريات أمل كيف ساند الظرف السياسي والاقتصادي الواقع الديني الطائفي لجعل هذه القرى تزداد انكماشاً وخضوعا لسلطة الديني، بحثاً عن الأمان إذ أرخت الحروب الأهلية الكثيرة والأخرى مع اسرائيل ثقلها على المجتمع اللبناني وغيرت حياة الأشخاص. فالجدة التي فقدت ابنها الشاب ظلت تنتظر عودته متقمصاً جسد طفل ما، كما انتسب والد أمل ووالدتها بعد فقد أخيه للمشيخة باكراً، وانسحب تأثير الحرب على تفاصيل الحياة العامة فالأب كغيره، لا يقبل الذهاب إلى الأطباء المسيحيين لعدم ثقته بأنهم سيقومون بعلاج درزي بأمانة. تقول أمل: كنا نعيش في بيت واحد داخل حقائق منفصلة، الحرب لا تزال في واقع جدتي، والعداء مع المسيحيين في واقع أبي وكنا أنا وأخوتي نبني حقائق موازية في ظل ما نرى ونسمع.
أمام ضغط الواقع والأهل قبلت أمل بالزواج من سالم التاجر مشترطة عليه سراً متابعة تعليمها ليعود سالم ويشترط عليها إنجاب طفل مقابل اكمال تعليمها الجامعي. فخضعت لتجربتي طفل أنبوب فشلت كلتاهما في هذا العمر المبكر مما أثر على علاقتها بزوجها وبجسدها وبالعالم إذ عانت من الاكتئاب المزمن. لكنها نجحت بالنهوض كلما وصلت للقاع فرغم كل الصعوبات التي أثقلت كاهلها، اجتازت رحلتها الجامعية بتفوق حتى نالت منحة دراسة الماجستير مقابل عمل جزئي في الفصل الجامعي لتشتعل الخلافات من جديد مع زوجها الذي لم يساندها في رحلتها تلك منذ البداية، لأن اكمال دراستها قرارها وحدها وعليها التحمل.
كانت أمل تحارب على جبهات كثيرة ليس أولها الدراسة ولا آخرها علاقتها الزوجية التي كانت تسير إلى طريق مسدود. بينما كان عملها ودراستها يشكلان وعيها الجديد الذي وصل إلى منطقة لا يمكنها أن تعود به إلى الخلف. كانت تنبش وتقرأ وتبحث خلال انعزالها عن المحيط. رافضة ذلك الاحساس الذي رافقها بأنها مجرد جارية، لكن معاناتها لم تنته حين اختارت الطلاق بل تحولت إلى معاناة جديدة.
كانت رحلة أمل ويبدو اختيار اسمها ليس عبثاً أبداً.. الشرنقة التي ضمت رحلة نساء كثيرات
كان هناك دائماً صراع داخلي تعيشه البطلة يتجلى بصوتين أولهما سلبي هو صوت قوة المجتمع في اللاشعور يشدها إلى الخلف ويمثل العجز واليأس وجلد الذات، ويهمس في أذنها أن نجاحها زائف وأنها سبب آلام ومعاناة الآخرين والثاني إيجابي محفز ومؤمن برغبتها وطموحها وذاتها وهو صوتها الحقيقي. إنه الصراع الذي تعيشه كل النساء حين ترفض إجحاف الواقع بحقها، لنلاحظ سطوة البيئة والموروث الذي يتغلغل في اللاشعور كقيود مغروسة ويشكل عائقاً خفياً لا يمكن تجاوزه بسهولة وذلك الصراع الذي يعيشه الفرد في رحلة انعتاقه من سلطة هذا الموروث.
انتهى هذا الصراع عند أختها نيرمين بالفشل إذ أصيبت بالبارا نويا الدينية أما أمل فقد تحررت من هذا الفصام الداخلي في الجزء الأخير من الرواية رغم عودته بين الحين والآخر وأكملت انجازها بطبع ديوان شعر وعرفت الحب أخيراً وتزوجت سراً، حتى لا يتم حرمانها من رؤية ابنتها وحتى لا تسبب مزيداً من الرفض الاجتماعي لوالديها.
يزرع المجتمع المتزمت في ذهنية المرأة أنها دائماً في امتحان. بينما الرجل هو حارس تركيبة اجتماعية متشابكة تحكم الجميع ليبدو الرجل هو مأزق المرأة. بينما هي وهو يعانيان معاً من تلك التركيبة. تخبرها والدتها عن تلك النظرة الدونية للمرأة التي لمستها وعاشتها، اكتشفت أمل أن ميثاق النساء المقدس الحقيقي هو آلامهن الممتدة في المعاناة الشبيهة بسباق التتابع بينهن جيلاً تلو آخر.
كانت رحلة كفاح أمل الشرنقة التي جمعت فيها رحلة نساء كثيرات إذ كانت تشعر بالانتماء المتبادل بينها وبينهن. ويبدو اختيار اسمها ليس عبثياً أبداً لأنها تحمل التجربة التي تحمل وعياً مختلفاً إذ تكسر تلك القيود.
لا تتوقف الكاتبة عند ملامسة المحظور بالإشارة إلى ترابط الاجتماعي بالديني وضغطه على المرأة بل تخوض في البديهيات التي تحكم بيئتها وتجري على لسان أفرادها.
فتتحدث عن ذلك الخيط الرفيع بين الحكمة والتهور وبين القسوة والرحمة والذي يتم عدم تمييزه في الايمان، ففي تجربة طلاق جديها المريرة، تقول أن الجدار الذي فصل بينهما كان قادماً من عصر الحاكم بأمر الله في إشارة إلى أن البعد الزمني بين العصرين لم يغير طريقة التفكير التي لم تواكب تطورات الحياة بسبب الانغلاق المفروض.
لقد كان المجتمع العربي يعيد انتاج نفسه في دورة مكررة فكل رجل كان من الذكورة في علاقته بالمرأة بمعنى التسيّد عليها، أما النساء فيقبلن بالتسليم والانصياع حيث «لا يجوز لامرأة مغادرة المكان أبعد من سراح الدجاجة دون محرم»! ولطالما ساعدته تلك القوانين التي لا تضمن للمرأة حقوقها، بينما حكمتها الأعراف والتقاليد وكثيراً ما كلفها الخروج عنها حياتها.
رغم كل انتقاداتها لم تتحامل الصايغ على الحالة الدينية بالنكران، بل لامست البعد الروحي للدين كمفهوم متجذر في حياتنا. على ألّا نحوله إلى كتالوج لتفاصيل الحياة اليومية (من طعام وشراب وانفاق) ولا أن يحاصر الانسان ويجعل حياته ضيقة وخياراته محدودة.
تحركت الكاتبة بجرأة في فضاء اشكالي وشائك دون تردد بانسيابية وغزارة أدبية وشعرية واضحة ولغة شفافة فالكاتبة تركت بصمتها الشعرية على طول الرواية ولا نستطيع التدليل على ذلك بالأمثلة لكثرتها وجمالها، في سرد مشدود ومتماسك ومتواتر التأثير على القارئ. فنجحت في استفزاز عاطفته وفكره حيث لم تتوقف عن الانتباه ولفت انتباهه للتشابكات الأدبية والدرامية في حياة الشخصيات فتقارن وتستنتج وتضع أفكارها أمامه بسلاسة. كما تناولت بغزارة ثقافتها الحكايات المعروفة فحللتها للدلالة على عمق ميراث المعاناة وتشعبه في المخزون الثقافي وتفكيكه في دعوة للتفكير وتكوين وعي جديد يساعد في النهوض وردم الفتن التي تعود للظهور كل حين، بإزالة التعصب والتخندق وراء أفكار وقوالب قديمة جامدة. فالحلول الفردية لها أثمانها وقد لا تكون مضمونة النتائج دائماً لكن لابد من المحاولة، ولعلها دعوة لتحقيق الذات الذي ينهض بالمجتمع كأفراد، دعوة ملحة في عالمنا العربي الذي يعج بالمتناقضات وبأحمال تثقل ظهره وتمنعه من النهوض.
رواية ميثاق النساء لـ حنين الصايغ؛ بقلم وداد سلوم
الكاتبة السورية وداد سلوم
