الروائية الكورية الجنوبية هان كانج
بقلم: إنريكو إيبوليتو، تقديم وترجمة عن الألمانية: شيرين ماهر
بعد فترة وجيزة من حصول الشاعرة والأديبة الكورية الجنوبية «هان كانج» على جائزة نوبل للآداب لعام 2024 عن «كتابتها الشعرية والأدبية المكثفة التي تواجه الصدمات التاريخية وتكشف النقاب عن هشاشة الحياة البشرية»، صدرت روايتها الجديدة «الوداع المستحيل Unmöglicher Abschied» باللغة الألمانية والتي تعيد التذكير بمذبحة قاسية في تاريخ بلادها – وهي مأساة تبدو ذات طبيعة راهنة على نحو مخيف. كما أنها تسلط الضوء على السبل التي يمكن من خلالها التعبير عن انسانيتنا بشاعرية وتناغُم باستخدام وسائل الأدب وإمكاناته الثرية. هان كانج… كاتبة وروائية وشاعرة كورية جنوبية، ولدت عام 1970 جنوب شرقي العاصمة سول. بدأت مسيرتها الأدبية سنة 1993، وهي أول كورية تفوز بجائزة نوبل للآداب وثاني شخصية كورية تفوز بجائزة نوبل بعد الرئيس السابق كيم داي جونج، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عام 2000. رواية الوداع المستحيل إنما هو «لقاء مستحيل» في الواقع جردته الكاتبة من محاولات السهو والتغافُل ونزعت عنه صفة النسيان والتغاضي وجعلته كـ «شاهدة» القبور الماثلة في الضمير قبل الأعيُن.
***
تُرى، هل تستطيع الروايات محو صدمات عانت منها أجيال بأكملها؟ وهل تستطيع الكتابة، بل واللغة أيضاً، أن تنصِف الماضي؟ تبحث الكاتبة هان كانج دوماً عن إجابات لمثل هذه الأسئلة. وتبدو إحدى هذه الإجابات أنه لا ينبغي علينا أن ننسى شيئاً أو أن نسمح لمثل هذه الذكريات أن تتلاشى وتختفي من سراديب أفكارنا. هكذا كرست «كانج» نفسها وقلمها لمهمة الحفاظ على الذكريات الجماعية بين أبيات أشعارها وصفحات رواياتها، بما في ذلك تلك الذكريات والتفاصيل التي يريد الناس كبتها، أو بالأحرى، محوها. ولهذا السبب انتزعت كانج جائزة نوبل للآداب هذا العام انطلاقاً من قدرتها على توظيف الأدب كأداة للتأريخ. ووفقاً لما جاء في بيان الأكاديمية السويدية، استطاع نثرها الأدبي بجدارة أن «يكشف عن مدى هشاشة الحياة البشرية». لقد فعلت الشيء نفسه في روايتها الجديدة، حيث تطرقت في روايتها «الوداع المستحيل» إلى أحد أحلك فصول التاريخ الكوري، ألا وهي، مذبحة جيجو، إذ تسرد الرواية قصة صداقة بين امرأتين، وفي الوقت نفسه تلقي الضوء على فصل من فصول التاريخ الكوري ظل طي النسيان على مدار عقود.
ففي الفترة ما بين عامي 1948 و1949، قامت جماعات يسارية في جزيرة جيجو بثورة ضد النظام العسكري والشرطة والمنظمات شبه العسكرية اليمينية. وكان الرد هو اتباع استراتيجية الأرض المحروقة. وما بدا وكأنه مجرد استعارة لم يكن كذلك بالفعل: فقد دٌمرت نحو 300 قرية، وقُتل نحو 30 ألف شخص بأبشع الطرق، ما بين رجال ونساء وأطفال. في روايتها الوداع المستحيل، تخلق كانج نُصباً تذكارياً لهؤلاء الضحايا بعبارات نثرية قوية غير قابلة للطي والنسيان. لأن ما تُخبرنا به بين السطور لم يكن قابلاً للمرور العابر.
لقد كرست هان كانج نفسها بالفعل للكتابة عن مذبحة أخرى من قبل. ففي روايتها «عمل إنساني» الصادرة في عام 2014، كتبت عن الانتفاضة التي شهدتها مدينة غوانغجو، المدينة التي نشأت فيها والتي غادرتها في سن التاسعة. لقد كان أحد أسئلتها المٌلحة في ذلك الوقت: «هل يمكن للموتى إنقاذ الأحياء؟». وعندما فرغت من كتابة نصها، رأت حلمًا مروعًا: حقل مترامي الأطراف، حيث تتساقط الثلوج الكثيفة، فيما يظهر خلف الحقل عشرات من جذوع الأشجار سوداء اللون المنبثقة من الأرض، بينما ترتفع التلال الشاهقة في الأفق. وفي الجوار تصطف مئات القبور. وخلفهم، يزأر البحر، وكأنه يستعد لابتلاع هذه القبور واكتساحها في أي وقت…
هكذا برعت هان كانج في توصيف الحُلم، بشكل مثير للإعجاب، في كلمتها التي ألقتها بمناسبة حصولها على جائزة نوبل في ستوكهولم. هذا الحلم بالضبط يمكن العثور عليه في الاستهلال الذي تصدر الصفحات الأولى من روايتها الجديدة، حيث تقول: «راح الوقت ينفد، حيث جاءت المساعدات متأخرة للغاية لإنقاذ القبور التي غمرتها المياه، بينما طفت عظام الموتى إلى أعلى. كان لا بد من إعادة دفن العظام على الفور قبل أن يتقدم البحر أكثر ويبتلعها دون عودة. ولكن كيف يمكن فعل ذلك؟». تتابع كانج: «يمكننا بالفعل لملمة العظام وإعادتها إلى قبورها. ولكن بواسطة الأدب».
رواية كانج الجديدة الوداع المستحيل تحكي ظاهريًا قصة صداقة بين امرأتين: الراوية جيونجها، تعمل كاتبة، والسيدة الأخرى تُدعى إنسون، وتعمل مخرجة أفلام وثائقية. تعيش إحداهما في سيول، والأخرى تقطن بعيدًا في جزيرة جيجو. لكنها عادت إلى هناك لرعاية والدتها المصابة بالخرف، وبقيت هناك بعد وفاة والدتها. تنقسم الرواية إلى ثلاثة مستويات. يصف المستوي الأول رحلة الراوية، حيث تعيش «جيونجها» بالقرب من سيول، ولم تعد لديها عائلة ولا وظيفة، «حتى يوليو كانت تقضي معظم وقتها في السرير دون أن تنام كثيرًا»، ولم تغادر شقتها أبدًا. يمكننا القول إن جيونجها عانت الاكتئاب. عندما أصيبت صديقتها إنسون واضطرت للذهاب إلى المستشفى، طلبت من جيونجها السفر إلى مسقط رأسها جيجو. من المفترض أن تنقذ طائرها – وهذا يبدو غريبًا بعض الشيء في البداية. لكن مع هان كانج، لا ينبغي أن تفاجأ بمثل هذه الأشياء. بلطف، تأخذ المؤلفة وقتها، وتكشف عن الصداقة والسيرة الذاتية لكلتا المرأتين.
أما في المستوي الثاني، تركز كانج على مذبحة المدنيين في جيجو، وتحكي قصة والدة إنسون التي نجت من المذبحة في الجزيرة وقاتلت طوال حياتها للعثور على رفات شقيقها المتوفى. لقد فُرضَت الأحكام العرفية في ذلك الوقت لتبرير المعاملة الوحشية لسكان البلاد. وهنا تكتسب الرواية، التي تحكي في الواقع عن أحداث تاريخية، أهمية مثيرة للقلق. ففي بداية ديسمبر، أعلن الرئيس الكوري الجنوبي المخلوع يون سوك يول الأحكام العرفية بشكل غير متوقع. وبعد مقاومة هائلة من البرلمان والمتظاهرين، رفعها بعد بضع ساعات. ثم هناك تشابه آخر: فقد حدثت مذبحة غوانغجو قبل 44 عامًا أيضًا، لأن السكان احتجوا على الأحكام العرفية. تحذر رواية هان كانج من أن الماضي قد لا يصبح ماضيًا فحسب. وبالطبع فإن الحفاظ عليه حيًا لا يمكن أن يحيي الموتى. لكنه قد يمنع إعادة بعث المعاناة في المستقبل.
وفي المستوى الثالث من الرواية تتجمع كل الخيوط معًا. قصة الصداقة والأحلام والعنف. تندمج مستويات الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل حتى يصبحون كيانًا واحدًا، وكذلك الأحلام والواقع أيضًا. يبدو الأمر أكثر تعقيدًا مما هو عليه. لا تضع كانج خيطًا زمنياً فاصلاً. وهذا مثال آخر على مهاراتها في الكتابة. وفي بعض الأحيان يبدو الأمر وكأن الرواية عالقة في رمزية الطبيعة: الأشجار الكثيفة، والأرض الرطبة، والبحر الشره – يبدو النص مُشبعًا بعناصر قوية من الطبيعة، خاصةً الثلج، الذي يعمل كأداة قوية دالّة على عالم الأحلام، وفي نفس الوقت كرمز للتلاشي والزوال السريع كالومضات الخاطفة التي لا تكاد تمكث لحظات ثم تذوب. كل شيء هنا يدعو للإسقاط والربط والتأمل والتدبُر. إنها نفس الجزيرة التي وقعت فيها المذبحة عام 1948 وهي نفسها التي دارت بها أحداث الرواية. إن التاريخ المدفون لعائلة إنسون، إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفصل مكبوت لفترة طويلة من التاريخ الكوري. لقد أعطت كانج صوتًا لأشباح الماضي كي يعيدون بعث معاناتهم بل وينفخون الروح في أجسادهم المصنوعة من الرماد. رواية الوداع المستحيل بمنزلة ترنيمة للصداقة والذاكرة، وقصة حب عميق في مواجهة عنف لا يوصف، واحتفاء بالحياة، مهما كانت هشة. والواقع لا يزال الأمر يستحق خوض المعركة المستمرة ضد فوضى النسيان.
***
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية مصرية
قنّاص السبّاقة لنشر كل ما هو جميل ومثير.. بالتوفيق أصدقائي