هيّا نشتري شاعرا | زاهر السالمي

إلى أمجد ناصر..
هيّا نشتري شاعرا: عنوان رواية للبرتغالي افونشو كروش، ترجمة عبد الجليل العربي.
في هذه الرواية تتبادل شخصيتان دور البطولة: الابنة والشاعر…
هكذا تبدو القصيدةُ بعد أن ترجمتها الابنة:
“أوراق المقابر، أوراقُ الجسدِ تنمو فوقي، فوق الموت
سبعُ ورداتٍ لاحقاً. في أقصى النظر يحمل على ظهره الجَملُ
أفقا ًوجبلاً صغيرا. ظلالهم تَتنفّس معاً ومعها يظل كل شيءٍ مَحْميّا.
وعلى الرغم من تعدّد الأوراقِ فالجذعُ واحد.
الفُتاتُ الذي يطيرُ عالياً يُفضّل مناقير الطيورِ على أهواء
الريح. أهواء؛
ذلك الشَعْر النابتُ في أعلى الرأس
الشَعْر الذي مهما مشّطه يظلُّ واقفاً وكأنه في محكمة.
ثانيةٌ واحدةٌ تعادلُ الأبدية”.
إنه الشاعرُ ذو الحجم الصغير، يُطْلق جُملاً صوتية
حروفٌ من مصفوفةٍ أبجدية في خليطٍ عشوائيّ غليظ!
الابنةُ تَفْهم كل هذا، تشربه.
شاعرُها الذي يُطيل النظرَ إلى الفراشات ككل الشعراء
تَميّز بذلك الداء العُضال -لا يستطيع العَمَل!
لكنه ليس صاخباً، ولا يُخلّف كثيراً من الأوساخ
مثل نحّات أو رسّام. إذن ماذا يفعل؟
– القصائد؛
إنما ليس مُخرِّبا، وإن يكن التخريب مجازاً لازماً للشعر
ربما يجب التخفيف منه توفيراً لطاقةِ الخيالِ
التي يمكن أن تستهلكها وأنت تقرأُ قصيدة.
وفي الأخير، في عالمٍ حديث، تَخْريبُهم يُضاهي العنفَ
لدى الكلاب، تشذيبهُ مِفْصليّ لحياةٍ أليفة!
إذن هو يكتب قصيدة حديثة!
ربما؛ الحداثة عصرية،
تجدها في كل سطحٍ مضاء بتيّارِ
زمنٍ كثيف
والتاريخ؟ رقم مجرد
الإنسان رقم غير مُجرّد
في عصرنا شركات تجارية تَصفّه على الأرفف وترعاه!
تفاحة خَدّ مزروعةٌ في الخد
حتى تنضج وتتفتح مُحْمرة
عليك أن تسقيها
ببعض الملّليلترات من لعابك
لا يمكنك بيعها ولا حتى أكلها
فتتضاحك راقصة معدتك
إنها ليست تفاحة في مركز تجاري.
حين ذهبتُ إلى السوق، وجدت شعراء
كتابةً من كل الماركات وحسب الطلب.
خمسة وسبعون في المئة كانوا صُلّعاً مُلتحين
بعضهم يغادر الطعام في منتصفه
ويهيم دون وجهة
يحدث هذا كثيراً عند غروب الشمس
أو ظهور القمر أو الضباب
لابد وأن تكون جينات أجدادهم
الذين حصدوا
تلك الأرضَ القديمةَ
كانت خصبة حينها
وعلى الرغم من ذلك
فهم نادرون
ليست كوتشينة!
قبل أن أقرر شراءه سألت:
كيف سأرفّه عن شاعري الأليف؟
اشتري له دفتراً بأوراق بيضاء وأقلام.
كانت رَدّة فعله تجاه السرير غريبة بعض الشيء!
تشبه أحد تلك المشاهد في أفلام رعاة البقر
تقع أحداثه في حانة ريفية:
استلقى وأدخل يده في المعطف، أخرج…
ماذا فعل بحق مامون!
هل كان عنيفا؟
أخرج كتابا، بدأ يقرأه.
ومن مامون هذا بحق الجحيم؟
إله المال والنقود
في الإنجيل ذي أصول عبرية
هكذا أشار مترجم الرواية.
ليس مخرباً ولا إرهابيا، شاعرنا يأكل معنا على المائدة
لكن علينا أن نشد الحزام. في قديم الزمان، كان الحزام
صالحاً لتخفيض الاستهلاك، ربما، لفظ أثري.
الثقافة لا تُستهلك، فكلّما استخدمتها زادت أملاكك:
– إنه يستعمل كُتُبَه الشعرية كمراجع اقتصادية!
تَمشّى الشاعر في البيت بتؤدة ككل الشعراء تائهاً نظره
في خط التقاطع ذاك بين السقف والجدار:
إنها الحرية – لا الخضار ولا الفاكهة
على رأس الأولويات الضرورية. صراحة…!!
هناك دراسات تؤكد أن الحصول على رسّام أو ممثل أو راقص
أو حتى شاعر، يساعد على مقاومة الضغط
ويخفض من كولسترول دمنا مما يجعلنا مواطنين أكثر إنتاجية.
لكنه مجاز. المجاز كذبة!
أعذب الشعر أكذبُه – مقولةٌ اختلفَ فيها القدماء والفلاسفةُ المعاصرون:
أخرجَ من جيب معطفه كتابا، وأطلقَ النار
على الجمهور
النتيجة تتأرجح بين حياة وموت
وقد اختلف الحاضرون في الحياة وتأويلاتها
أما الموت فنتيجة مؤكدة – منتهى لا منتهى.
النحّاتون والرسّامون وإن كانوا يوسّخون كثيرا
تركوا لنا تلك الروح مُعلّقة في ضباب هيولي
محفورةً في كهف أو مدفن أو تمثال، وربما ورقة بردي.
أنظر إلى هالة الشمس، الشفقَ القطبي
الكتلَ الإكليلية، كلها هناك.
حتى شاعرنا الذي خرْبش فوق الجدار
فتح لنا نافذة تُطلّ على البحرِ في ذاك الجدار
معلقةٌ تلك قصيدة في جدار.
تقول الإحصائيات بخصوص ذلك الفعل: إما قصيدةٌ أو على الأقل
بيت شعر كل يوم! هكذا تعود الشاعر أن يمشي ويقول قصائد.
– كيف للبحر الكبير جداً أن تحويه نافذةٌ صغيرة جدا؟
– ماذا.. هل فتح نافذة دون رخصة من البلدية؟
وحين تتحول الموسيقى الى صوت آلة حاسبة – إرهاب.
خيالُ الشاعر إصبعٌ منقوعٌ في الواقع: سِيتار.
أنفاسٌ ترتقي كسردٍ مُتقطّع يُحوّل يداً مقطوعة تنزف إلى منديلٍ في هبّةِ
ريحٍ مفاجئة، بحيرةَ بجعٍ إلى ديناصورٍ طائر، حتى السباغيتي إلى لحمٍ
أو محّار. تَعْريةٌ واغتصابٌ يَفوحُ منه خِصْب. حقيقةٌ في غموضِ دِقّةِ مطلقة.
هنا يدخل الجمهور، مرتدياً أزياء مسرح زئبقي:
نقرأ وزن الكتاب حسب معيارِ حاضرٍ كان موجوداً
في صبيحة ما، مكتوب على رقعة جلد أو قحف
أو ورقة مصقولة، لا يهم!
أخرج من جيب معطفه كتابا، عيونُه نظرةُ بندقية: ارتبك الجمهور…
هناك تُقرفص بادية، قيلولة في ظل سِدْرة، تلك مفردة تصحّرت
بعد أن أخذت عوامل التعرية قضمتها الكبيرة:
أيها الراعي، مزماركَ ريحٌ تشقّ الفؤاد، وعزلتك فِناء فسيح
تُغوي الفراشات، تلك التي هي كَمَنْجاتٌ على خاصرة.
أخرجَ من جيبِ معطفه عيونَه غيمةً عزباء..
يُحدثني كأنما الوحيدان على هذا الكوكب، بعيداً عن كل الخليقة
يجعلني أتحدث مع ذاتي.
في هدوء قنّاص في مضيق يَخُطّ مُتناثراً قمّة فمستنقع.
قال وهو في حالة شغف بقدم مائدة الصالون: يمكننا أن نجد قصيدة
في أي شيء، بل يمكن أن نجدها منشورة على بساط الأرض
نعم، أو مستلقية على زجاج النافذة. إنها في كل مكان، وتفضل الاختفاء
في الأماكن الأكثرِ بساطة، مثل قدم مائدة، أو تحت السرير.
أخذتُ صديقاتي إلى البيت، فقط لرؤية شاعري
وجَدْن قصائد تصلح لرؤية البحر، ارتدين المايوهات.
كم كانت جميلة تلك الجملة. أي جملة! عليك أن تتخيلها.
أصيرُ شاعريةٌ إذا وضعتها في سياق مُنزاح مع قطار يتسارع
خارج القضبان. ذلك هو المركب السكران مترنحاً
دون إيقاع، وتد، ثبات.
قرر أبي التخلص من الشاعر لسوء الحالة الاقتصادية.
وضعناه في السيارة، ثم وقفنا تحت شجرة، في حديقة، أنزلناه ورحلنا.
لا أستطيع الأكل، بكيت كثيراً واقتلعت الكثير
من علامات الرعاية التجارية لأثاث غرفتي.
قالت أمي: وأنا أنظف البيت نظرتُ إلى غُريْفة الشاعر
إلى ذلك الذي خربشه فوق الجدار، رأيت البحر.
رحيله تحول إلى فراغ: حقيبة الجلد تلك، جثة تلك.
خلف كل صخرة شاعر مجاز: فخّ تتفاقم فيه كثرة.
ليستْ مهرجانيةً تلك قصيدةٌ تسكنُ فيها عيناك ورقة، حافّةَ ورقة.
المُهرّج بوقٌ داخل إطار يُضحكنا لكنه ليس وَحْده!
في كل حانةٍ عالَمٌ عن أشيائهِ الصغرى يَذود، وفي دمعةِ كأسٍ يَذْوي
تلك الدمعةُ روحُك مُحْدودبة.
مصابيحٌ كاشفة، شمسٌ متوحشة، تُعمينا.
عشيرةٌ من العصرِ الحجري، كلماتها أرواح
والطبولُ إيقاعُ مرسمٍ ليلي.
إنه الشاعرُ في الرواية – قماشةٌ تُحاك عليها المصائرُ المختلفة
الفصل الأخير، فيما يشبه الخاتمة: تقريريٌّ بجرعات فائضة
لم تستهو الشاعر تلك النهاية…
“عليَّ أن أقطع أميالاً لأنام”.
*قصيدة من ديوان سوف ينشر قريبا بعنوان: الراقص بساق في أغلال.
خاص قناص
زاهر السالمي | qannaass.com

نص جميل وحميمي، مكتوب بعاطفة جيّاشة وحرفيّة عالية.. رحم الله شاعرنا أمجد الحبيب.