أرخبيل النصوصجسدُ السرد

فزّاعة الحقل | وفاء الحوسني

قصة قصيرة لـ وفاء الحوسني، من مجموعة قيد النشر بعنوان «سِيَرُ الأشياء»

***

«الأفضل ليس الحلم ولا عدم الحلم، بل عدم الإستيقاظ أبدًا» – فرناندو بيسوا

…..

فاردة ذراعيّ على اتساعهما كما لو كنت سأحتضن أحدهم بلهفة بالغة وحنين مفرط كما لو كنت سأمنحه الحب من جهة وسأمنحه الموت من الجهة الأخرى بقامتي المصلوبة..

بقدم واحدة أقف بثبات على الأرض كما لو كنت لا أجيد إلا التشبث بها كمحاولة بقاء واستمرار لدوري الذي منحنى إياه زارع الحقل..

 منذ أن وُجِدت هنا وأنا أمارس مصيري كفزاعة في حراسة الحقل ذلك المصير المحتوم الذي مُنّيت به. أحيانًا أفكر أن أطرافي المفتوحة ما هي إلا محاولة تحليق لم يُكتب لها النجاح فبقيتُ ساكنة كتمثال منحوت يصارع الرياح ومختلف الأنواء بأذرع مفتوحة وعينين يقظتين. في وحدة عقيمة أقضي سنواتي التعسة وكلما اهترأتْ أطرافي من كثرة الوقوف استُبْدلتْ بأخرى جديدة لأستأنف بها وجودي في إخافة تلك الكائنات الصغيرة المزقزقة التي ترفل بجناحين دقيقين في هذا الحيز الذي كان قدرًا علينا نحن جنس التهاويل ألا نشهد سواه. فالعالم بالنسبة لنا هو هذه المساحة المحدودة من الحقل التي لا تتعدى موطئ قدم والعالم بالنسبة لتلك الكائنات هو الفضاء المفتوح.. ورغم ذلك فلي آمالي وهواجسي حتى في ظرف محدود كهذا، بل إنني أشعر في بعض الأحيان أن أملي يفوق أمل ذلك الطائر الطليق. فدائمًا ما تُحلّق بي أجنحة خيالي إلى أماكن أبعد لم يكن لذلك الوجود الحر أن يصلها. فكوني لا أمتلك أجنحة لها وجود مادي لا يعني أني لم أملك أجنحة من نوع آخر. وهذه الأجنحة هي التي ستوصلني إلى حتفي في يوم ما. فقد ارتأيت في مساء مشؤوم أني أنتفض لوجودي الساكن هذا، أن أحلق فعليًا كما تفعل الطيور، حتى لو كان لدقائق معدودة. فأنا على استعداد لإعطاء عمري كله لهذه اللحظة. ولست أعني بذلك أن عمري له قيمة أساسًا فأنا لا أجد له أي قيمة تُذكر ولو قُدّر لي أن أختار وجودي لما اخترت أن أكون وجودًا فارغًا كهذا، بل إن حياة صخرة حقيرة على القارعة يركلها المارة بأقدامهم ستكون أفضل من حياة كهذه. يومها تركت نفسي للريح، استقبلتها كما لم استقبلها من قبل بذراعين ممدودتين وقامة منتصبة تعانق السماء، كانت الريح لحظتها بحراً هائجاً وكنت أنا أشْبه بقارب أعزل تعبث به أمواجه، وقتها لأول مرة جربت التحليق إلا أنني سرعان ما ارتطمت بسياج الحقل لأتحول إلى أشلاء متفرقة لأعيد اكتشاف تلك الحقيقة مجددًا… حقيقة مصيري الأزلي!

وفاء حمد الحوسني؛ كاتبة عُمانية

وفاء الحوسني

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى