جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

تسريد الحياة في «الفردوس على الناصية الأخرى» لـ يوسا | د. محمد زرّوق

حياتان في رواية واحدة، حكايتان لهما أثرٌ في التاريخ

 سليل حكاياتِ أمريكا اللاتينيّة؛ ماريو بارغاس يوسا، يَتخيّر من إرثِ أسلافه، من جذور البيرو حكايتين لهما أثرٌ في التاريخ، في الواقع الفنّي والواقع العمّالي النقابي والنسويّ، يتلقّف “يوسا” من ماضيه حياتين وقصّتين ومسارين يبدوان في الظاهر متباعدين وهما في الباطن متقاربين، قرابةٌ تجمع بين الذات الراوية “يوسا” الروائي أصيل البيرو النابع من حضارة أمريكا اللاتينية، الحامل لهمومها الأدبيّة والسياسيّة، جامعيّ، مشاركٌ فاعلٌ في حياة السياسة، مساهم نابغ في مجال الكتابة الروائيّة والصحافية، حاصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 2010، يجتمع في رواية “الفردوس على الناصية الأخرى” الصادرة في نسختها العربية عن دار الحوار للنشر والتوزيع سورية في طبعتها الثانية سنة 2014، بترجمة صالح علماني، مع عَلَمين من أصْل منبته، وهما فلورا تريستان، المناضلة النسويّة النقابية ذات الجذور البيروية، التي تُعَدُّ من أوائل المناضلات في قضايا النسوية وأهمّ مفاهيمها وفي بعث النقابات وتأسيس بيان الاتّحاد العمّالي، في فرنسا أساسا، ومن سلالتها تنبت بؤرة الرواية الثانية الفنّان الرسّام أوروبيّ الحياة، فرنسيّ المنشأ بيرويّ الأصل من جهة أمّه ابنة فلورا في الواقع الحياتي وفي واقع التخييل. حكايتان آلفت بينهما روايةٌ، في الأصل هي مستندة إلى مذكّرات الشخصيتين ومسار حياتيهما، هي تَتبُّع لِتقلُّب الشخصيّتين ومفاصل حياتيهما الكبرى، وفي الجوهر هي رواية تخييليّة تتداخل فيها رؤى متراكمة وتبدو فيها قدرة الحاكي على حياكة تخييل روائيّ جذّاب، وممتع، ومفيد.

 من الخلاف بين تفارق وجهتي نظر الشخصيّتين المرجعيتين، مركَزَي السرد، يتولّد لقاءٌ خِطابيّ لا ظلّ له في الواقع، لقاءٌ يبدو في مُعلنه جامعا بين سُلالة واحدة بُرِّزت فيها شخصيّتا فلورا وحفيدها غوغان ورُشِّحتا لتكونا مصدر حكاية الكاتب. تكون فيها فلورا تريستان ذات صفات وسمات تختلف مع الشخصيّة المقابلة التي تُخلّفها، فلورا التي ترى الكونَ جدّا وصرامةً، وتأخذ الوجود بحزم وعزم، وتنبني قصّتها على صرامة المرأة الموسومة بالغضب، وريثة المسيح في صورته النسويّة في إصلاح ما اعوجّ من الكون، ويأخذ الحفيد الفنّان بول غوغان الوجود لهوا وإعراضا وعدما، يُلقي بنفسه إلى المهالك في سبيل تحصيل مُتَع الحياة الباعثة لروحه، فيتلقّى صدّ الوجود وعوارضه، غير أنّ عمق الشخصيتين يحوي جوامع وملتقيات، فهما يجتمعان في السعي إلى الخروج عن رتابة الحياة وسكونها ورفض حياة الهدْأة، والهروب إلى الأمام في السعي إلى المهالك على إدراكهما بها، كما يشتركان في اتّخاذ موقف من ممارسة الجنس. رواية فلورا التي قطّعها الراوي ترصُد مسيرةَ ذاتٍ فاعلة في التاريخ النضالي العمالي والنسويّ الحديث، ولها آثارٌ في واقع الحياة منها أعمالٌ مكتوبة في الرحلة، “ترحال منبوذة” “pérégrinations d’une paria” الذي صدر سنة 1837 و “جولة في لندن”« Promenades dans Londres » 1840 و”دوران فرنسا” « Le tour de France » 1843، وكتابها الأهمّ حول تصوّرها للحركة العماليّة “الاتّحاد العماليّ” « L’union ouvrière »  1843، وهي المصادر الرئيسة التي هيْكل منها الروائيّ قصّة فلورا تريستان، وتمكّن من تشكيل تصوّر عنها وبناء الجزئيّات والصلات التخييليّة التي أخرجت الرواية من التوثيق إلى التخييل. فلورا تريستان قصّة امرأة هاربة من فشل الواقع نسبا وزواجا لتحقيق كينونة في العمل الإنساني الاجتماعيّ النضاليّ، تُفارق العائلة وتعمل على إثبات نسبها فتفشل، ترتبط وتُنجب فتخرج من الزواج بموقف من علاقة الرجل بالمرأة حادّ متطرّف، فتخلص إلى أنّ “التزاوج” ليس ممارسة الحب، وإنّما التزاوج، مثل الخنازير والخيول. هذا هو ما يفعله الرجال بالنساء. الانقضاض عليهن (…) ودسّ (….) فيهن، تحبيلهن، وتركهن بأرحام معطوبة إلى الأبد، مثلما فعل بك أندريه شازال” (ص: 53)، وحتّى عندما تستلذّ الجنس المثليّ ممارسةً تنفرُ من صلتها بأولمبيا ماليسويسكا التي استطابت الركون إليها “لأنّ الحياة الجنسيّة ظلّت توحي إليك، إلى أن تعرّفت إلى أولمبيا ماليسويسكا، بالقرف نفسه الذي يُوحي به إليك تذكّر أندريه شازال” (ص: 366)، فتقطع صلتها معها بحجّة أنّ الجنس المُستطاب يُبدّد طاقة المناضل ويصرف بعضا من جهده في غير القضيّة الأساسيّة التي هي بالنسبة إليها قضيّة موت.

 يقع الحفيد في موقع ضدّ –في مستوى رصد الصفات والأفعال- فهو في الشطر الميّت من حياته شبه ثريّ شبه بورجوازيّ، يعيش حياة الهدوء والاستكانة، مع زوجة دنمركيّة “الفايكينغة”، وأبناء ووظيفة محاسب محترم ناجح في عمله، وكان عديم الرسم “وكان الجنس لا يزال ضئيلا”، هذا الشطر من الحياة هو الموت في منظور بول غوغان، إلى أن يحصل التحوّل سنة 1884 بميله إلى الرسم وانغماسه فيه وانصرافه إليه، ومع الرسم يكتشف حياة الجنس ويكفر بكلّ ما هو منظّم ومعقلن ومتحضّر ليشرع في البحث عن حياة البدايات، عن البوهيمية، عن المتعة دون حدّ، عن العدم الذي يُحقّق الوجود، وكلّما أوغل في هذه الحياة نمت قدرته على الرسم، وكلّما ابتعد عنها وعاد إلى حياة التمدّن والتحضّر مات فيه الفنّان الرسّام، الذي استطاب الحياة في تاهيتي واتّخذ منها زوجات وخليلات وصاحبات كانت على رأسهنّ تيهامانا التي أدرك معها متعة الجنس وصفْوَ التواجد “لقد بدأ الجنس يصير مهمّا بالنسبة له، بالقدر نفسه الذي راح الرسم يصير مهمّا” (ص: 80)، وهو الشطر الثاني من حياته الذي تحقّق فيه بول غوغان ووجد ما يكمن فيه من فنّ، وكانت نهاية وسْم حياته في ما عبّر عنه الأسقف في رسالة إعلام موته إلى رؤسائه بـ”أنّه مات مؤخّرا، في هذه الجزيرة، موتا مفاجئا، شخص يُدعى بول غوغان، وهو فنّان معرّف، لكنّه عدوّ للربّ ولكلّ ما هو محتشم على هذه الأرض” (ص: 510). قصّة بول غوغان في هيكلها التاريخيّ مثّلت مصدرا بَنَى عليه “يوسا” تخييله محافظا على الشخصيّات المجانبة ذات المرجعيّة الواقعيّة وخاصّة الصلة التي أكلت من السرد قسما هامّا وهي صلة بول غوغان بفان غوغ، وقد استقى “يوسا” مادّة الحكاية ممّا خلّفه غوغان من مذكّرات وخاصّة كتاب “نوا نوا”، الذي أبان فيه غوغان بشكل صريح رحلته إلى تاهيتي وما وجده من رُواء الروح، ومن رسائل، وخاصّة رسائله إلى زوجته وأصدقائه، التي أدرك من خلالها الروائيّ الرابطة التي وصلته بزوجته وصحبه بعد التحوّل، ولكنّ المصدر الرئيس الذي قرأه الكاتب وأحدث تفاعلا بين الواقع المرجعيّ والواقع الفنّي رسوما ورواية هو اعتماد الرسوم بأشكالها وأصباغها ودلالاتها عنصرا مُفاعِلا للهيكل المرجعي المكتوب والمروي، فكانت الرواية مُكثَّفة الرؤية، تحوي طبقات من الإدراك.

 الحكايتان المنفصلتان شكلا في بناء هيكل الرواية، جمع بينهما الراوي في أواخر الرواية في سردٍ اسْتَذكر فيه بول غوغان أمّه أوّلا، ثمّ في مراحل متقدّمة من الرواية أحدث الراوي -ماريو بارغاس يوسا- حوارا قارن فيه بين سلوك غوغان وسلوك الجدّة فلورا التي أفْنَت حياتها في البحث عن العدالة والدفاع عن المرأة “لهذا السبب متّ أيتّها الجدّة، وأنت في الحادية والأربعين من عمرك فقط! أمّا هو الذي (يحتقر) العدالة، والمقابل، فقد عاش حتّى الآن، ثلاثا وخمسين سنة. اثنتي عشرة سنة أكثر من الجدّة فلورا. لن تعيش طويلا، يا بول. ما همّ، إذا كانت سيرة حياتك، فيما يهمّك حقّا، الجمال والفنّ، قد انتهت” (ص: 303). وفي الغالب الأعمّ من الرواية فإنّ يوسا يصوغ الحكايتين نأيا عن الجمع بينهما، بانتهاج سبيل التناوب السرديّ تقطيعا لانسياب الحكاية الواحدة ودفعا للقارئ أن يتنقّل من قصّة إلى أخرى دون اتّباع خيط التسلسل التواصليّ للرواية، ويقوم التناوب على تخصيص فصول غوغان على الصدور من عناوين الرسوم التي شكّلت منطلق حكاية كلّ فصل، واعتماد تاريخ سنويّ واحد في عنونة فصول فلورا مع تبديل الأشهر، وهي سنة 1844 تاريخ موت الشخصيّة وهو التاريخ الذي يرتكز عليه الراوي لاسترجاع وقائع تَقَلُّب الشخصيّة من مكان إلى آخر في خطّ ارتحاليّ بيّن في الرواية، وبغاية تنويع أساليب الرواية فإنّ الذات الكاتبة تُناوب أيضا بين طريقين في السرد، طريق السرد بضمير الغائب وطريق السرد بضمير المخاطب، وفي كلا السبيلين تظهر إدراكات هذه الذات ومواقفها من المرويّ المرجعيّ، وخاصّة في ضبط صلات الشخصيّة المرويّة وفي سرد التفاصيل الدقيقة جدا والذي نلحظه بشكل بيّن في قراءة لوحات غوغان وتحويلها إلى رواية آلاتها الخطاب اللّغويّ بعد أن كانت الألوان والظلال والأشكال آلتها.

 حياتان في رواية واحدة بأسلوب شائق يرتكز فيها الراوي على المرجع الكتبيّ أو الرسميّ أو المرويّ لحياكة رواية أصلها في الواقع الإحاليّ وفرعها مُعانقٌ التخييلَ لا يُفارقه، لتجتمع الحياتان المرويّتان في وجود لحظة هروب من الرتابة والكآبة دون مراعاة للأسرة أو للواقع الاجتماعيّ، وفي الرغبة في التحقّق وتحقيق الكيان وإن كان الموت نهايته، لقد وجدت فلورا تريستان في النضال نفس ما وجده غوغان في تيهامانا ومثيلاتها مصدرا للتحقّق والوجود والكون، لقد فارق غوغان الحياة الغربية الباردة جنسا وأسلوبَ حياة ومظهرا، وآثر اتّباع النفس الأمَّارة بالمتعة والعُرْي وحياة البدايات، وفارقت فلورا تعاسة الزوج الباردة وهدْأة المجتمع الخامل وعَصَت حضارتها ونَكرتها ووقفت تبحث عن متعة المطالبة بتحقيق عدالة لم يؤمن بها حتّى أصحابها.

 ومن وراء القصّتين كائنٌ يروي، يظهر ولا يتخفّى، يُعلي صوته في الرواية، هو كائنٌ له وجود في التاريخ ويرتبط مع مستنداته الروائيّة بِنسَبٍ، يتخيّر لروايته عالما إحاليّا مرجعيّا يبنيه بحجارةٍ من كونِ الحقِّ والتحقّق ليُخرج بُنيانا مستندا في أصله إلى مرجع له ظلال في أذهان المهتمّين به، وفي فصْله –بدخول الذات الكاتبة- يتحوّل رواية قريبة المأخذ، فروعها ضاربة في آفاق التخييل إذ تَعقد الذات المتكلّمة معنى روائيّا ينتج عن المعنى التاريخي المرجعيّ ولا يُضارعه.

د. محمد زرّوق؛ أكاديمي تونسي، كليّة الآداب، القيروان.

خاص قناص – جدل القراءات

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى