جسدُ السردنصوص

ميلاد جديد | حفصة اسرايدي

في اللحظة التي وضعت فيها أصابعي على جبيني، وأغمضت عيني مسندة رأسي إلى مقعدي البالي، ربتت يدٌ على كتفي تواسيني على الهزيمة التي لحقتني، بعد خوضي لصراع مع بياض الورقة التي أمامي. يقول لي صاحب اليد بينما أحمل فنجان القهوة لتتهاوى ملامحي مغادرة سطحه: «أتستسلمين بعد أن استدعيت كل هؤلاء العظماء إلى مخبئك الصغير هذا؛ حيث ينطوي العالم على نفسه كجنين الصبار». كانت هذه كلماته قبل أن يختفي في الظلام مردداً: «إذا غامرتِ في شرف مروم، فلا تقنعي بما دون النجوم».
اِستويتُ في جلستي استعداداً لاستقبال أطياف مخيلتي، وضيوف الليلة؛ أولئك الذين حيكت من خيوط أسطرهم غيوم تمطر العالم معرفة. أعمدة لم تهدمها رياح الزمن، بل انتصرت أمام وجه الأبدية. في الركن هناك مبارزة شعرية بين الصعاليك وشعراء المعلقات، وبالقرب منهم جلس أحمد مطر رفقة الماغوط يلعبان الشطرنج. تحت النافذة مباشرة، يسخر أبو نواس من بشار بن برد، وكافكا يتدخل للصلح بينهما. درويش يأخذ رأي دوستويفسكي في قصيدة. نجيب محفوظ يحكي لإدغار ألان بو عن الأهرامات المصرية، فيأتي المتنبي ليهز كتفي مجدداً حتى أحضر له كوباً من القهوة. اِستيقظت من نومي ويدي ما زالت ممسكة بقلم الحبر، أما وجهي فقد احتضنته الورقة بعد أن غفوت على مكتبي.
هي لعنة حقيقية أن تصاحب في الواقع كائنات حبرية، وتلتقي في الحلم بشخصيات أضحت الآن تاريخية. اِنفلتت مني ضحكة ساخرة. فركت عيني، وقمت لاختيار كتاب ليكون رفيقي لهذه الليلة. توجهت نحو مكتبتي الصغيرة أمرر سبابتي على الكتب المرصوصة أمامي، فتوقفت خاضعة لصوت هيئ لي أنه صدر من إحدى الكتب. لكن الأمر لم ينحصر على الصوت فقط، بل غادر أحدهم، ورفرف بغلافيه كزهرة تستقبل الندى المتساقط من أجفان الليل في كبد الصباح، أو كطير يخلص جناحيه فجراً بعد نوم عميق. لم أصدق ما رأته عيناي. هل ستلازمني الأطياف في صحوي ونومي؟
قاطع صوتٌ تسربَ الأفكار المرعبة في عقلي: «أنا هنا يا عزيزتي، فبعد العالمين سيكون لك ثالث بين رحاب القصة، تتجرعين فيه حلاوة لغتي، وانسجام عباراتي، وسيرورة أحداثي». فُغِر فاهي وأنا أمد يدي نحوها، فما لبثت أن اقتربت أناملي منها حتى صدني كتاب آخر وهو يصرخ: «دعك منها فغرورها هذا لا يطاق، ومديحها لنفسها في كل رواق يدعو إلى الإشفاق. أنا القصيدة جليسة ذوي الأذواق، اِعتليتُ عرش الأدب بكل استحقاق، وكنت لداء الخلجات الترياق».
أجابتها القصة: «أتهجينني يا ذات العيوب السبعة؟ أنسيت ماضيك من ايطاء، وتضمين، وسناد؟ أتنكرين جرائمك التي لا تغتفر بسبق الإقواء، والإصراف، والإكفاء؟ أنا التي أجلني كبار الأدباء، وامتدحني النقاد والقراء. أنا التي خلصت كل من ينبذ واقعه من جحيمه لبرهة، وفرشت له النعيم بين صفحاتي، وجعلت لفكره جناحين يرفرفان به إلى عالم المثالية».
حاولت التدخل هنا؛ لأنني لمحت الغضب الذي بدا على غلاف القصيدة، لكنني لم أستطع التفوه بكلمة بعد أن علا صوتها: «أنا أشير إلى القمر، والحمقاء تنظر الى إصبعي. أنا من يدللني صاحبي بحركات، بدونها تبدو شاحبة حروفي. يرعاني كنقطة وفاصلة، ينظم بهما نصوصي. يرسمني شعراً على لوحة، وينهيها بقافية تزين مضموني. يحبني حب الضمير للأسماء، ويهتم بي كهمزة، بدونها لا يصبح معنى للسماء».
يبدو أن النقاش سيحتد، وهناك رائحة صراع أزلي بين ميدانين أدبيين. علت أصواتهما، فلم أعد قادرة على استيعاب الأمر. اِستلمت أقرب كرسي لي، وجلست أراقبهما، وأفكر في طريقة أفض بها هذا النزاع.
تقول القصة: «يا ليتك كنت تردين جميل صاحبك، ولا تتسببين في عذابه. لقد قتلت المتنبي، وكنت سبباً في فناء الحلاج، وموت بشار بن برد، ووضاح اليمن، ونفي جبران خليل جبران، وأحمد مطر، واعتقال محمود درويش. أبهذه الجرائم تفتخرين؟ أنا من آخذ بيد قارئي، وتتخلل أصابعي فكره لترتب فوضاه. بي أنا الوحشة تتبدد، والقلب الصلب يصير أكثر طراوة».
ترد الأخرى: «أنا من تحدثت عن تاريخ مروءتنا، وشجاعتنا، ونخوة أبطالنا. أنا رفيقة ازدهار العروبة، ومساندة الانتفاضات، والثورات، والغزوات التي انتصرنا في معظمها. أنا سيدة الحضارة الفريدة التي حررت الإنسان، وخلصته، ووازنت بين عقله وروحه. أنا من حطمت قيود الإرادة والعقيدة، جسدت العربي ممشوق الهامة، منتصب المشية، فخم العمامة، بحصانه الأصيل، وأخلاقه الحميدة».
أجابتها القصة: «أنت ارتبطت بماضيك العريق، أما أنا فجليسة واقعنا وموقعنا من العالم. رفيقة الوطن الجريح، والأرض المحتلة، والاقتصاد المعتمد على غيره. أنا أتحدث عن الأفكار الأجنبية التي داست ثقافتنا، وحضارتنا التي لم تعد ترفع من قيمتنا. أنا قصة الأوطان المرقعة، والعروبة التي أضحت لعنة وعقاباً. أنا زجاجة الخمر في بيت رجل الدين، والهراوة في يد رجل الأمن، والكذب على لسان رجل العلم. أنا الحقيقة في زمن الزيف».
وقبل أن تنطق الأخرى بكلمة، ركضتُ نحو المنضدة المجاورة، وحملتُ المقص بيدي قائلة: «إذا سمعت صوت إحداكما مرة أخرى، سأقطع لسانها. أتعيدان مسرحية أمتنا الممزقة؟ أختان تتصارعان لنيل إعجاب غريب. اِستيقظا من غفوتكما الفكرية، فلا أمل لنا بعدكما. فأنت يا قصيدة فخرنا بحضارة تم وأدها، وأنت يا قصة سبيلنا للتعبير في زمن أضحى فيه الصمت مذهباً. كلاكما صوت لمن يحاول الكلام، وباتحادكما سنحصل على القصة-القصيدة؛ تلك التي تجعل عبارات النص السردي إيقاعية التشكيل، وموسيقية التركيب كثمرة لتلاحمكما. وبالشوق لحضارة مضت، نصنع حاضراً نفخر به، فنجعل من تاريخنا القديم حبل إنقاذنا من القاع السحيق».
نظرتا إلى بعضهما البعض، فنزعتْ كل واحدة منهما غلافها؛ كأنها تتخلص من طائفيتها. اِحتضنتا بعضهما البعض، ونطّتا من النافذة لتدفنا نفسيهما تحت أديم الأرض.
في اليوم الموالي، ظهرت على سطح حديقتي ملامح شجرة.

 

حفصة اسرايدي: شاعرة، قاصة، وفنانة تشكيلية.  من مواليد سنة 1999 بمدينة خريبكة بالمغرب، طالبة بالمدرسة العليا للأساتذة.

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى