أكثر من أربعين عاما مضت على تمسك الفنان فاخر محمد في خِيار الفن كبديل عن المأساة والألم المتكرر فكأنه بهذا التوجه يريد للإنسان أن يصارع كل جوانب القبح بروح وثَّابة عبر اللوحة وجمالها الخلاب، ومثل كل مرة أتحاور معه أجده متمسكاً بإنشاء عمل أكثر احتفاء بالحياة مما يفرض على من يشاهد أعماله نوعاً من تأمل مساحة الجمال والحقيقة المفقودة ولكن عبر الفن وإمكانيته التعبيرية. في هذا الحِوار هناك أكثر من فهم لعالم الرسم يخبرنا إياه فاخر محمد عبر هذه المواجهة معه:
لنتحدث عن وحداتك الصورية التي حملت طابع صورة الحرب مؤخرا؟
لا نستطيع الهروب من ذاكرة الحرب، فأنا أنتمي إلى شعب عانى الحروب لفترة تجاوزت سنوات مؤلمة وطويلة حتى لو منحنا أنفسنا شيئاً من الأمل، أو إيجاد ساحات من الفرح ألا أن الذاكرة تبقى ماثلة بشكل راكز. العمل إذا تم توظيفه فنياً كطائرة أو كرسي، فهو نوع من ذاكرة الآلام التي سببتها عقلية السلطة لهذا يبقى الفن بالنسبة لي ليس شرطاً أن يكون وسيلة إيضاح للأفكار، بقدر ما يستطيع إثارة أسئلة الفنان شاء أم آبى يحمل في جوانبهِ عقلية سياسية، انه غير بعيد عن الإنسان وهمومه ولكنه لديه طريقة في توصيل عقليته السياسية، انه يوصل رسائله من خلال وسائط الفن، هناك رمزية واضحة في هذا العمل بلا شك، والطائرة (الهليكوبتر) أكيد فيها من الهيمنة والسطوة الكثير، أما الكراسي فهو السلطة أو الهيمنة، مع هذا استطيع التأكيد أن التعريفات هنا ليست مطلقة، فالمتذوق له حرية في اختيار تأويله للأشكال، وهذهِ واحدة من ضرورات العمل الجيد.
ما الذي يجمع كل تلك العناصر بألوانها ضمن قدرة جمالية لتخرج للمتلقي وكأنها طاقة تمتلك أحاسيس وأفكار من يراها؟
بعض أعمالي، لا تنتج بتخطيط أو تفكير مسبق، هناك فرق كبير بين تصميم كرسي أو منضدة، ورسم لوحة. بالعكس التفكير المسبق في أحايين كثيرة يقتل البداهة الأولى والفطرية أو العفوية التي أجد بأنني في أمسِّ الحاجة إلى طاقتها لإنجاح العمل، عناصر العمل الفني لها حياتها الخاصة والمحافظة على هذه الروح الداخلية للعناصر تحتاج إلى نوع من الرؤية الحدسية للأشكال أو نوع من محاولة التقارب بين روحية الفنان الخاصة والأشكال نفسها، عدم المعرفة المسبقة، لنقل الغيب الخفي للفنان، يمكن التعامل معه كقوة لتفعيل جمالية الأشكال، لتولد من رحم صيرورتها أو بناءاتها الخاصة، كثير من ألواني تتداخل فيما بينها من خلال حركة الفرشاة أو سكين الرسم، لتكّون نوعاً من العِلاقة الخلاقة ربما تأتي بطريقة عفوية، هذه الحرية يشترك فيها المتلقي أيضاً، فهو بحاجة لقراءة خاصة به، ربما تكون مختلفة عن قراءة مُنتج النص نفسهُ، أي الفنان.
يؤكد العديد من الفنانين من الجيل الذي سبقك والأجيال اللاحقة بأنك تبحث في تاريخ معرفي خاص بك وكأنك منقب لآثار ويوميات تنتصر فيها لإرادة الجمال على باقي الإرادات، هل فعلا أنت هكذا…؟ أين نجد تلك اللوحات التي تمثل هذا التصور؟ هل في مرحلتك الأولى أقصد الثمانينيات ومعارض جماعة الأربعة أم بعد دخول الاحتلال لبغداد؟
لا يمكن إنكار التاريخ البيئي والجغرافي والحضاري فأنا نتاج كل هذه القوى، ولدت في بيئة زراعية، نخيل ونهر وأسماك، وحياة بسيطة، بعيدة تماماً عن كلّما يتعلق بالتكنولوجيا. ففي طفولتي ومراهقتي، نشأنا قرب تلة عمرها أكثر من ألفي عام اسمها تلة أبو الزعر ما زالت ولحد يومنا هذا تحتضن ترابا بابلياً وحضارات متعاقبة، فخَّارهم وأسوار معابدهم وبقايا هياكل خيولهم وجمالهم، التي رأيتها بعيني، ومقابرهم وبقايا هياكلهم التي تحولت إلى تراب أبيض، هذهِ المشاهدات وهذه القرى، لابدَّ أن تترك أثراً لدي بشكل أو آخر، الكثير من الأعمال أنجزتها برؤية المنقب الأثري، التأثيرات البيئية كانت واضحة خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، وربما لحد الآن تظهر في بعض أعمالي، وكذلك المرموزات والسطوح المجردة خاصة في أعمال معرضي الشخصي، قاعة أكد 2009، أعقبتها مرحلة، يمكن أن نطلق عليها بسطوح الخراب، خاصة المرحلة التي أعقبت عام (2003) وجدت بأن الكثير من الآمال تحطمت، سرقة المتحف العراقي والمتحف الوطني للفن الحديث، الإرهاب والقتل الطائفي، المدن التي نهشها التخلف وغياب المدنية والخدمات، والمعاناة التي طالت شعباً عانى الأمرين لزمن طويل، أنجزت بعض الأعمال خلال الخمس سنوات الأخيرة، فيها أشبه ما تكون بأحلام أو محاولة لصنع حياة، أو جمال آخر مغاير، محاولة لصنع فرح من نوع آخر ربما هو نوع من محاولة معايشة الواقع الذاتي للفنان نفسه. أنا لا أومن، بفن يغير الحياة والمجتمع بالطريقة الإعلامية. فهذا مستحيل، الفن تغييره بطيء، لأن المجتمع والدولة مسؤولية السياسي وليس الفنان، في مزاولتي للفن والرسم، ثمة نوع من إنقاذ مركَب غارق، فعندما ترى أشياء كثيرة تتحطم أمام عينيك لا يبقى لديك سوى التشبث بطاقتك الداخلية وتواصلك مع خاماتك وأشكالكِ لتنصر الجمال، أو لنرفع راية الجمال وَسَط كل دُخَان الحروب الكثيرة التي عايشناها، فالجورانيكا لم تمنع وقوع الحرب العالمية الثانية.
أتذكر أنك قلت لي في حوار سابق بأن مهمتك الفنية والجمالية أن تبث الفرح، وليس مهمتك توظيف الحياة السوداوية، هل هذا إصرار على الحياة والبقاء فيها رغم المصائب.. أم رسالة الفنون الإنسانية وقيمتها تقتضي من المبدع أن يتوجه للجمال والبحث عنه مهما كلف الأمر؟
اعتقد بأنني أجبت عن سؤالك هذا في الإجابة السابقة، بلا شك القيمة الأسمى للفن هو الجمال، فأمام كل هذا الحجم الهائل من الويلات والحروب والمصائب التي أصابتنا، ما الذي يستطيع فعله الفنان؟ لكي يترجم ما حدث كيف أستطيع أن أترجم أحزان ملايين العراقيين الذين فقدوا أعز ما لديهم لفترة تجاوزت (35) عاماً من الحروب والقصف والعبوات الناسفة والسيارات المفخخة والقتل على الهُوِيَّة، من يدَّعي بأن لديه القدرة على تَرْجَمَة كل هذهِ الويلات إلى عمل فني كاذب، لأنه سيكون لا شيء أمام هذا العمل، والفن العملاق والكبير جداً، أولاً أنه أكثر واقعية من كل أعمالنا، ثانياً أكثر صدقا، نحن نشير أو نذكر، أو نعطي علامات لا أكثر، ربما تكون أعمالنا نوع من التذكير بالأمل صناعة الأمل، لأننا ما زلنا أحياء، تذكير بقيمة الحياة والفرح كحق إنساني، لوحاتي فيها نوع من إشاعة روح السلام والحب والجمال الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والطير والسمكة أو ربما الطائرة الحربية، في الفن الكل يشترك في صناعة الحياة الجديدة، القاتل والقتيل.
طيب هناك رأي يذهب إلى أن كثرة الرموز الحيوانية والطوطمية / التراثية والتاريخية في لوحاتك قد تبدو عصيَّة على الفهم والتحليل النقدي. إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا التوجه في قراءة لوحاتك صحيحا؟
مفهوم الصحّ والخطأ في الفن، مفهوم غامض، العملية الفنية تحتوي على الكثير من الغيب، غيب الإبداع، لذا هناك تقارب أو ربما توأمة بين الدين والفن، وكذلك مع الفلسفة فكلاهما يشتغل على المفهوم الحسي والمطلق أو اللامتناهي. فأكيد السطح التصويري أياً كان شكله وأسلوبه يحتوي على هذا البعد اللامتناهي، أو ما يطلق عليه المفكر الفرنسي (برجسون) بالديمومة، لأنه يتعلق بالزمان، كثير من أعمالي السابقة والحالية فيها بعض الأشكال التي توحي إلى حيوان، أو نبات، أو طير أو إنسان، حتى إذا كانت اللوحة تقترب من التجريد. هذه العناصر، لا تتشكل لتُفْهِم شيئا ما، بالعكس أنها تثير أسئلة وجودية عن الزمان والمكان والحياة والموت، والعدم، والحرب والسلام، فهي بحق عناصر التجربة المُعاشة، أو ربما الذاكرة المُعاشة، الأماني المكبوتة التي لم تتحقق، والأمل، أو ربما تكون نوعاً من صناعة الأمل، بعد أن رأينا بأم أعيننا كيف يتهادى الجمال والحب أمام معادل الحروب والقتل على الهُوِيَّة وسيادة الأفكار المريضة، والتعلق بأفكار يعتقدها البعض بأنها هي خلاصهم، باختصار أعمالي لا تقدم إلى المتذوق، وسيلة إيضاح، العمل الفني الجيد هو الذي يبقى على باب التذوق والرؤيا، مفتوحة على مصراعيها. الفنان السومري، عندما كان ينحت عيون ووجوه الآلهة ونساءهم، هذه العيون لا يمكن أن ترى إلا بعين الخيال، الوصفية والمباشرة وتكرار ما نراه في الواقع والحياة، لا ينتج فناً، الرؤيا يجب أن تكون بحجم العالم وهذا العالم ليس العالم الذي نراه، بل أيضاً العالم الذي لا نراه.
شكوت لي أكثر من مرة في لقاءات جانبية أن الآخرين يسقطون تحت تأثير لوحات، هل لا زال هذا الأمر يشكل قلقا لديك؟
المقلق حقا عندما تجد التأثير يأخذ طابعا استنساخياً وليس الاستفادة في التجربة وتطويرها، كل فناني العالم استفادوا من أساتذتهم ومن سبقهم ولكنهم طوروا تجربتهم وأضافوا أليها، الذي حصل في العراق خلال الـ (15) سنة الماضية أصبح لدى البعض التزوير واستنساخ الأعمال الفنية والسطو على الأساليب أمراً شائعاً، لسببين رئيسيين، أولهما السهولة، وعدم الرغبة في خوض صراع الإبداع بين الفنان المنتج للعمل الفني وأدواته، أكيد الموضوع ليس سهلاً، بل يكاد يكون مخاضاً كبيرا، المنجزات الإبداعية عملية معقدة وصعبة لأنها عملية خلق، وخلق الجديد يحتاج إلى مقومات فكرية وتقنية وموهبة ومعرفة في حيثيات الإبداع والعمل الفني، والزمن وتحولاته. بلا شك هذا الموضوع موجود في كل دول العالم، التزوير واقتباس الأساليب والادعاءات الفارغة بالإبداع كل هذا يكشفهُ التاريخ والزمن والدراسات الجادَّة، التي نحن بأمس الحاجة إليها، وتحديداً في المحيط العربي، محيطنا الثقافي يفتقر الآن للدراسات الجدية للنتاج الفني الجمالي، أغلب الذين اشتغلوا في هذا الاختصاص إما ماتوا أو هاجروا، والقلة المتبقية من النقاد والمنظرين والهاوين أحاطتْ بهم ظروف كثيرة جعلتهم يَنْزَون عن متابعة ما ينتج.
دعني أنتقل معك لأمر آخر، لقد عرضتَ أعمالك في أكثر من بلد؛ إيطاليا، فرنسا، المغرب، تونس، لبنان، الأرْدُنّ، قطر والخليج العربي، ودائما تؤكد أن الفن العراقي يحمل من سمات التجريب والتواصل الجمالي أكثر من أي بلد عربي آخر، بتصورك ما الذي يميز هذا الفن العراقي؟
منذ عام 1980 بدأت مشاركاتي الدولية من مَعْرِض برلين، ولحد الآن، المشاركات والسفر والاتصال مع الآخر مهم جداً، العالم الآن بحكم التطور التقني والإلكتروني، أصبح صغيراً جداً، والمعرفة الجمالية من الضروري أن تتواصل مع الآخر، في العراق، خلال السنين الثلاثين الماضية عانينا الكثير من العزلة بسبب الحروب والحصارات والسياسة، ولكن وبالرغم من كل ما حصل بقي البعض من الفنانين من لديهم القدرة على التواصل والمشاركة المحلية والدولية، هناك نقطة جوهرية مهمة فيما يتعلق الأمر بالفن العراقي، وبالرغم من كل الإحباطات التي عاشها، إلا أن جذوره جيدة ومستوى الحركة التشكيلية العراقية خلال سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات بل حتى التسعينيات كانت ممتازة لما تَطْرحه من مفاهيم وأبعاد جمالية ورؤى تتعلق بالذاكرة، إلا أن هجرة الكثير من الفنانين، وطول فترة الحرب أثَّر كثيراً وتحديداً خلال العشر أو الخمس عشرة سنة الأخيرة، والسبب الأكيد هو غياب المؤسسة الثقافية القادرة على النهوض بالحركة التشكيلية في إتباع طرق ووسائل جيدة وفي إقامة أنشطة ومشاركات متميزة. الآن الذي يحصل في العراق هو القدرة الفردية على التمييز والنفاذ، وليس الاعتماد على المؤسسة، وهذا الموضوع يعتمد على قدرة الفنان وطاقته وتحويلاته الفكرية على تكريس حياتهِ وعمله ومشاركاته وفق طريقة صحيحة ومدروسة، التجريب والأساليب وتقديم الجيد، ليس حكراً على أحد، الكثير من الدول العربية الآن لديهم فنانون جيدون ومساهمات دولية. والجميل في الأمر هناك دول عربية أصبحت تنتهج نهجاً صحيحاً في إقامة ما يمكن تسميته (Art Fair)، لأن العمل الفني أصبح بضاعة ثقافية، والانتشار وتفعيل الجانب الثقافي والجمالي في المجتمع، وأهميته في الحياة، أصبح لديه سوق وهذا السوق، يحتاج إلى خبرة وعقلية ثقافية، لأن البضاعة الثقافية تختلف عن البضاعة الاستهلاكية، لذا أصبح الفنان الآن بحاجة إلى مؤسسة ومروجين أو متعهدي أنشطة، لم يعد الأمر فردياً كما كان سابقاً، ولكن وبالرغم مما ذكرته، ما زالت المجتمعات العربية دون مستوى الطموح لقلة الزمن والخبرة في هذا الجانب، أوروبا بدأت في هذا الاختصاص منذ أكثر من (300) عام، بعض الدول العربية بدأ فيها الفن التشكيلي من (20) سنة. الخليج وخاصة قطر والإمارات فيها الفن متقدم لذا نحتاج إلى زمن لكي تترسخ مفاهيم وطرق الصياغة لرؤية معاصرة في تفعيل الثقافة البصرية والجمالية.