كانت ماريا أطول فتيات الصف: الصف الخامس ابتدائي. لا أتذكر عيناها، لكن الذي لا أنساه هو أن كل من يراها كان يظن أنها تضع أحمر الشفاه، ذات يوم طلبت منها أستاذةً أن تحضر وليّ أمرها، فجاء معها خالها، أخبرته الأستاذة أن طفلته هذه تأتي للمدرسة وهي تضع أحمر الشفاه، فصفعها خالها.
كانت ماريا دافئة جدا، لطيفة مع الجميع، وتبتسم ابتسامة آسرة، وكنا جميعنا أطفالاً وكانت هي مراهقة.
في حصة الفرنسية كانت تجلس بجانبي في الطاولة ما قبل اﻷخيرة، وكنا نستمتع بوقتنا أحيانا، كنت أحب ماريا، وهي كانت تجدني لطيفة، رغم أننا كنا مختلفتين بقدر اختلاف البحر والسماء.
ذات يوم في طريق عودتنا من المدرسة، وَسَط صراخ اﻷطفال وثرثرة أمهاتهم، قالت ماريا:
- انظري لهذا!
أخذت ماريا تنادي بأعلى صوتها على نفسها!
- مــــاريا! مـــاريا!
ونظرتْ ﻷبعد نقطة وأخذت تلوح للفراغ وتبتسم له. أدهشني ذلك، ليس من السهل أن تنادي على اسمك في الشارع بأعلى صوتك وتلوح للفراغ دون أن تبدو غبياً في نظر نفسك. ومع ذلك أخذتُ أنادي أنا اﻷخرى:
- صفـــــــــــــاء! صفـــــــــــاء! وألوّح للفراغ، وكان ذلك لذيذا جدا.
حين انتقلنا للصف السادس، لم نعد أنا وماريا نجلس في الطاولة نفسها، كنتُ قد تعرفت على سارة وقمت معها وشيماء بكل اﻷعمال المجنونة الممكنة، أما ماريا فكانت محاطة بالبنات، وكن يَقْسِمن لها:
- أقسم أنك تضعين أحمر الشفاه!
ترد وهي تدعك شفتيها:
- لا والله! لا أضع شيئا! هاه!
وتقتنع الفتيات في النهاية.
كانت ماريا يتيمة اﻷب، وذات يوم قرأنا نصاً شعرياً بعنوان “الطفل المتشرد”، وفي المساء، قامت ضجة في المدرسة، كنت أراقب ولا أفهم شيئاً مما يجري، قالت أستاذة ما لماريا:
- انظري لريهان العاقلة، إنها مثلك ومع ذلك فهي لا تبكي.
فأجهشت ريهان بالبكاء، بَدَتْ اﻷستاذة غبية نوعاً ما.
وأكملت اﻷستاذة:
- أن تكون بلا أب لا يعني أنك من النوع الذي وصفه النص.
جاء الأستاذ الذي درسنا النص، وأخرج ماريا من الفصل، وأخذها في جولة طويلة، وأعادها راضية.
وفي حصته ذات مرة أخرجت ماريا من حقيبتها أقلام تجميل، وتحلقت البنات حولها، لاحظ اﻷستاذ الحركة وسألها: ما بيدك يا ماريا؟
أجابت بابتسامتها اﻵسرة:
- أقلام تلوين يا أستاذ.
بدا هذا معقولاً جدا للأستاذ بالرغْم من الحركة غير العادية حول أقلام التلوين هذه. أما أنا فأدهشني جدا اطمئنان ماريا وهي تنطق بكذبتها الصغيرة، لم يدهشني الكذب، أدهشني الاطمئنان الشديد.
انتقلنا للإعدادية ولم أر ماريا أبدا، فقد انتقلتْ إلى مدينة أخرى، ولكن ذات يوم وبعد ثلاث سنوات، أثناء السنة اﻷخيرة من اﻹعدادية، رأيت ماريا، كانت محاطة بالبنات واﻷولاد -الذين كان واضحاً أنهم يحرصون على رضاها- رأتنا ماريا أنا وشيماء وجاءت تسلم علينا، لم أستطع التحدث معها طويلا، ولكني أذكر تماما أني حين أردت أن أقبلها، اضطررت إلى الانحناء، وأن ماريا كانت قصيرة جدا؛ هذه المرّة.
خاص مجلة قَنّآص
صفاء بلحساوية؛ كاتبة مغربية