إيزابيل الليندي.. الريح تعرف اسمي
صدرت رواية الريح تعرف اسمى في 2023 بعنوان The Wind Knows My Name، باللغتين الإسبانية والإنجليزية، النسخة الإسبانية صدرت عن دار Vintage Español، والنسخة الإنجليزية عن Ballantine Books.
***
في حين نرى نسبة لابأس بها من الكاتبات يقعن في فخ الاكتئاب بعد الإنجاب، فخ أُبرّئ منه الأم والأمومة وأوجه أصبع الاتهام دون ترددٍ إلى ملكة الإبداع النهمة، التي لا تقبل حتى بالملائكة شريكًا، استفاضت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في ردها على محاورها خافيير سامورا في ندوة افتراضيّة جرت في الرابع عشر من يونيو (2023) احتفالا بصدور روايتها الجديدة حول سؤاله عن أهم تجاربها خارج الكتابة، واصفةً أمومتها بأنها «التجربة الأعظم في حياتها»، ففي حين أنقذتها الكتابة بعد انهيار حياتها في الأربعين «ساعدتها الأمومة على الخروج من نفسها والالتفات إلى غيرها متعدية مركزية الذات».
تتناول إيزابيل، الجدة التي «تحمل في رأسها وطنًا لا تنتهي حكاياته» بوصف أحفادها، في روايتها (الريح تعرف اسمي) ثيمة اللجوء، وهي ثيمة تكررت في أعمالها إنما من زاوية مختلفة هذه المرة وهي انفصال الأبناء عن الآباء إما طوعًا بغرض حمايتهم أو قسرًا نتيجة القوانين التي تفرضها أنظمة الهجرة الدولية، كما سنرى في شخصيتي العمل الرئيسيتين أنيتّا الفتاة السلفادورينية الكفيفة وصاموئيل الطفل الألماني كلاهما خبرا جرح الانفصال عن الأبوين في سن صغيرة ليبدآ حياة جديدة تفتقر للأمان والانتماء في بلاد غريبة.
وصرّحت الكاتبة بإن «شخصية أنيتّا مستوحاة من قصة فتاةٍ حقيقية وصلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع شقيقها الأصغر ووالدتها ثم انفصل الشقيقان عن الأم عند الحدود لتجتمع العائلة مجددا بعد ثمان شهور وتمثل أمام القضاء الذي قرر ترحيلهم مجددا إلى السلفادور وفقدت الاتصال معهم عندما وصلوا إلى المكسيك»، وهي حالة من بين مئات الحالات التي تحدث يوميًا حيث إذ تعمل جمعيتها الخيرية مع العديد من المنظمات الأخرى تطوعيا لتخفيف مأساة اللاجئين على الحدود الامريكية المكسيكية. وقد فصّلت الكاتبة في لقاءٍ سابق أن جملة قالها سائق حافلة كانت تقلّها أثناء رحلتها في أفريقيا وراء قرارها بتأسيس الجمعية، لدى إقدام أمٍ فقيرة على الدفع بطفلتها الرضيعة في أحضان الكاتبة طالبة إليها أن تأخذها، ولما لاحظ سائق الحافلة في دهشة مما فعلته تلك الأم قال: «إنها طفلة ومن يريد طفلة؟». وكانت تلك الجملة كفيلة بأن تقرر أن تفعل كل ما بوسعها لمساعدة النساء وأطفالهن».
تبدأ الرواية مع الطفل صاموئيل إدلر الذي انفصل عن والديه صغيرًا خلال عمليات ترحيل اليهود من ألمانيا عام 1938، بعد أن أصيب والده في الجيش ووجدت والدته نفسها مرغمة على اختيار إنقاذ حياة ابنها بإرساله مع آلاف الأطفال إلى إنكلترا التي منحت ألاف التأشيرات للأطفال اليهود الهاربين من المحرقة النازية. ونرى لاحقًا كيف عاش صاموئيل مع زوجته نادين غريبًا عنها ليس لأنها تفتقد للجمال أو العاطفة، بل لأجل ذلك الجدار الذي بناه هو حول نفسه ليشعر بالأمان. لدرجة أنه لم يكن يريد معرفة أي شي مما تفعله زوجته على الرغم من شكوكه حول مساعدتها للمهاجرين غير الشرعيين، إلا أنه لم يكن على استعداد أن يفرّط باستقراره أو أن يتحمل أن تهتز حياته مرة أخرى. ولكنه اكتشف عندما بدأ بقراءة مذكراتها بعد وفاتها، كم فاته من الحياة. وللمرّة الأولى بعد ثمانين عامًا تمكّن من لمس جرحه وكشفه أمام أحد ما، وكان ذلك الشخص هو أنيتّا.
أنيتّا دياس طفلة كفيفة في السابعة من العمر هربت مع والدتها كارليتا من السالفادور ثم بعد وصولها إلى سان فرانسيسكو الأمريكية يفصلها أمن الحدود عن والدتها وتوضع في سجن مع مئات الأطفال لتفقد والدتها إلى الأبد. سارت عمته ليتيسيا في نفس المسار من قبل، عندما فرت مع والدها بعد أن نجت من مأساة قرية الموسوتّي، المذبحة التي ارتكبتها القوات المسلحة السلفادورية ( FMLN) في عام 1981 وخلفت ما يقرب من ألف فلاح قتيلًا والتي أكدت أليندي أنها تقصدت الحديث عنها في كتابها لتعرف أكثر.
منحت رقمًا لأن أحدًا لم يعد يتذكر اسمها، ولتلوذ من قسوة الواقع التي وجدت نفسها فيه فجأة، اخترعت عالما متخيلاً حيث يمكنها مقابلة أمها وجدتها وجميع من أحبتهم. ونجد في شخصية أنيتّا الكثير من شخصية الأمير الصغير تحفة الروائي الفرنسي أنطونيو إكزوبيري، فالروائية تتناول مأساة الانفصال من زاوية الأمل وليس من زاوية تراجيدية وتصرّ طوال العمل على أن مشاعر الحب والرحمة والتعاطف قادرةٌ على شفاءٌ كلّ سوء يمكن أن يصيب الإنسان.
اللافت أن اختيار ايزابيل لمحاوريها في الغالب مبني على قربهم من ثيمة أعمالها، على الأقل في الندوات التي حضرتها حتى الآن، فقصة محاورها خافيير سامورا تتقاطع في أجزاء منها مع صاموئيل الشخصية الرئيسية في العمل، وخافيير كاتب سلفادوريني من مواليد 1990 فر والده خارج البلاد أثناء الحرب الأهلية عندما كان بعمر السنة ثم اضطرت والدته للفرار عندما أتمّ الخامسة. وعندما بلغ التاسعة انضمّ إلى قافلة المهاجرين غير الشرعيين ليلحق بهما إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في رحلة استغرقت تسعة أسابيع من غواتيمالا إلى المكسيك انتهاءً بصحراء سونورا على الحدود الأمريكية المكسيكية. وأشار إلى نقطة في غاية الحساسية ربما يواجهها الأطفال اللاجئون أكثر من غيرهم وهو العار الذي يشعرون به بسبب الظرف الذي جعلهم قسرًا مختلفين عن بقية الأطفال، وفقدانهم للأمان خلال الرحلة القاسية إذ أن منهم من يودعون السجن ويقفون أمام القضاة وحيدين، والقوانين الأمريكية المجحفة بحق اللاجئين، وتأثير ذلك على حياتهم وصحتهم النفسية.
تسلط رواية الريح تعرف اسمي التي تدور أحداثها بين عامي 1938 حتى 2022 الضوء على الحالة الإنسانية المزرية التي يخضع لها اللاجؤون وتعد صرخة ضد سياسات الهجرة غير الخاضعة للرقابة والمحاسبة وكذلك إشادة بآلاف المحامين والأخصائيين الاجتماعيين والأشخاص الذين يعملون بدون أجر للمساعدة في لم شمل هذه العائلات القادمين من مثلت الموت الذي يشمل كلا من هندوراس السلفادور وغواتيمالا هربا من العنف الذي يدفع بالآباء إلى ارسال أطفالهم وحيدين إلى أمريكا في رحلة مجهولة لإنقاذهم من موت محتم. وتعيدنا إلى لحظة راهنة عايشناها جميعا كلاجئين سوريين في مرحلة ما لتثير تساؤلا في غاية الأهمية: هل حقًا تنتهي رحلة اللجوء عند الوصول أم أنها رحلة ألمٍ ممتدة إلى أجيال لا يمكن التنبؤ بها؟ وهل نحن أولئك الذين خرجوا من البلاد المنهارة أم أنّ هويّاتنا قد سُجنت إلى الأبد في بعدٍ غير موجود إلا في مخيلتنا؟ أو ربما ذهبت مع الريح كما ذهب اسم أنيتّا!
***
إيزابيل الليندي .. أنيتّا؛ وحدها الريح تعرف اسمها؛ بقلم أمل فارس