مساراتمقالات

مقال للبروفيسور كزافيه لوفان: ترجمةٌ من اللُغةِ العربيةِ أمْ مِنْ اللُغاتِ العربيةِ؟

ينبغي على من يترجم من اللغة العربية أن يحل الإشكالات التي يفرضها نقل الجناس والسجع والتناص والإشارات الـمُحِيلة إلى تراث أدبي وتاريخي له خصوصيته، وكيفية نقل الأثر المرتبط بالديجلوسيا في اللغة العربية إلى الفرنسية ...

كزافيه لوفان: ترجمةٌ من اللغة العربية أمْ مِنْ اللُغاتِ العربيةِ؟

ترجمة عاطف الحاج سعيد

اللغة العربية

يعمل البروفيسور كزافيه لوفان Xavier Luffin أستاذا للغة والأدب العربيين في جامعة بروكسل الحرة، وترجم أكثر من عشرين رواية ومجاميع قصصية ومسرحيات من اللغة العربية إلى الفرنسية، ونشرت ترجماته دور نشر فرنسية وبلجيكية. وقد نُشر هذا المقال في موقع (bon-a-tirer).

الصورة Xavier Luffin

اللغة العربية ليست صعبة بطبيعتها، عكساً للفكرة الراسخة في أذهان غير الناطقين باللغة العربية وحتى في أذهان الناطقين بها، إذ يتوافق علماء اللسانيات فيما بينهم على أنّه ليس ثمة لغة أكثر تعقيداً من لغة أخرى على الإطلاق هكذا، إلا أن تَعلُّم لغة ما يتمظّهر أكثر صعوبة عندما تكون ثمة اختلافات صوتية أو نحوية أو صرفية بينها واللغة الأم للمُتَعلم، فالترجمة من اللغة العربية، مهما كان رأي البعض ومهما كان نوع النص موضوع الترجمة، ليست مسألة مستحيلة، ويشهد على ذلك مئات الترجمات الناجحة، وشغف بعض القراء الناطقين بالفرنسية بروايات نجيب محفوظ ومحمد شكري وآخرين كُثر.

ينبغي أنْ يحرص، من يترجم من اللغة العربية إلى الفرنسية، على إيجاد التوازن بين أصالة اللغة العربية وراحة القارئ الفرانكفوني، ينبغي عليه أن يحل الإشكالات التي يفرضها نقل الجناس والسجع والتناص والإشارات الـمُحِيلة إلى تراث أدبي وتراث تاريخي له خصوصيته، تماماً كما يفعل مترجم الروايات المكتوبة بالإنجليزية والإسبانية والكورية أو الفنلندية. يُضاف إلى ذلك أن للغة العربية بعض خصوصياتها مثلما للغة الإنجليزية أو الصينية خصوصياتهما، لذا فإن ترجمة رواية أو قصة قصيرة من اللغة العربية إلى الفرنسية يحمل بعض التحديات الخاصة أهمها في رأي الشخصي كيفية النقل الأثر المرتبط بالديجلوسيا(Diglossie)  في اللغة العربية إلى الفرنسية؟

تكمن الديجلوسيا في استخدام مجموعة لغوية ما لمستويين ضمن لغة واحدة، ويُستخدم هذان المستويان في سياقات مختلفة: لغة رفيعة للاستخدام الرسمي ولغة عامية للاستخدام غير الرسمي. سنعتمد في هذا المقال هذا التعريف على الرغم من أن اللغويين قد عملوا منذ عشرات السنين على تهذيبه وتنقيته إلى حدّ أن أصبح للمصطلح مفاهيم أخرى، منها استخدام لغتين لا ينتميان لعائلة لغوية واحدة يُسْتَخدم في العالم العربي نوعان من اللغة: اللغة العربية الكلاسيكية (الفصحى) واللغة العربية المحكية (العامية). لا تُستخدم الأولى إلا استخدام رسمي في الغالب يتسم بالتكلّف أو بالتصنّع مثل استخدامها في الخطاب الديني وفي جزء من الخطاب السياسي وفي نشرات الأخبار في الراديو والتلفزيون وفي الأفلام التاريخية وبكل تأكيد عند الكتابة. بينما تُستخدم الثانية في التفاعل الشفهي غير الرسمي وفي النقاشات الرسمية العفوية، ونجد غالباً أن في كل بلد عربي عدد من اللهجات المحلية على الرغم من أن اللغة العربية الكلاسيكية هي لغة واحدة في العشرين بلداً عربياً التي تمثل اللغة العربية لغتها الرسمية.

يبدو هذا الوصف الأولي للأوضاع اللغوية للعربية مريح نظرياً، لكنه لا يعكس في الواقع إلا جزء من واقع الحال، إذ نجد أن عددا كبيرا من المتكلمين باللغة العربية الفصحى ينتقلون، أحياناً بصورة غير واعية، إلى اللهجة المحلية عندما يبتعدون قليلاً عن النص الذي قاموا بتحضيره لمؤتمر ما أو لخطبة أو لبرنامج تلفزيوني قبل أن يعودوا لاستخدام اللغة الفصحى مرة أخرى، وما نلحظه عند تدوين وكتابة خطب عدد من الزعماء السياسيين في العالم العربي يعتبر خير مثال على هذا النوع من التنوع اللغوي في الخطاب الواحد، وثمة دراسات عديدة أجريت حول هذا الموضوع.

يفترض مصطلح الديجلوسيا وجود مستويين فقط للغة، لكن يكشف اللغويون عن مستويات أكثر وفقاً للمستوى الاجتماعي للمتحدثين ووفقاً لنوع الخطاب، وهذا يعني أن يلجأ المصري أو المغربي، وفقاً للسياق، إلى أشكال مختلفة من اللغة العربية إذا كان يتحدث مثلاً إلى أطفاله عن يومه، أو يتحدث مع جاره عن السياسة، أو يستمع إلى برنامج تلفزيوني أو يقرأ في كتاب، بل يمكن أن يلجأ إلى مستويات مختلفة من اللغة في ذات المحادثة تماماً مثل خطب السياسيين التي ذكرناها سابقاً.

لا تسلم اللغة المكتوبة من هذا التنوع اللغوي، فمن ناحية نظرية لم تتغير اللغة العربية الفصحى منذ القرن الثامن الميلادي، عندما دون النحويون قواعدها، وحتى اليوم، لذلك يستطيع متحدث اللغة العربية المتعلم أن يقرأ رواية مكتوبة حالياً وأن يقرأ أيضاً قصيدة شعر أو كتاب تأريخ كتب قبل ألف عام أو أكثر، ويستطيع هذا القارئ أن يميز منذ السطور الأولى أن النصين كُتِبا في فترات تاريخية مختلفة بسبب اختلاف المفردات التي تطورت بصورة كبيرة، وكذلك بسبب بعض الصيغ النحوية المهجورة التي، على الرغم من أنها مفهومة، لم يعد الكُتّاب يستخدمونها، وأنه يمكن أن نتحدث عن العربية الكلاسيكية المستخدمة في الأدب القديم واللغة العربية الحديثة المستخدمة في وسائل الإعلام والأدب المعاصر.

هذا التنوع العظيم في مستويات اللغة العربية له بكل تأكيد تأثير على الأدب. إذا كانت القاعدة تقضي بدءً، من ناحية نظرية، أن النص المكتوب يُكتب دائماً بلغة رسمية، سنجد أن ثمة عدد كبير من النصوص تم تدوينه بما يسميه المختصون اللغة العربية الوسيطة (لغة مكتوبة تختلط فيها العامية بالفصيحة) وتشهد هذه النصوص على التراجع المستمر لهذه القاعدة على مر العصور لقد أدرك الروائيون وكتاب القصة القصيرة العرب سريعاً الثراء الذي يمكن أن يقدمه اللجوء إلى استخدام اللغة العامية في الكتابة، حتى أن ثمة عدد من الروايات قد كتبت كلياً باللغة العامية، كما نلحظ ازدياد عدد الكُتّاب الذين يستخدمون العربية الفصحى في السرد ويستخدمون اللغة العامية في الحوارات بغرض إصباغ بعض الواقعية على هذه الحوارات. على الرغم من هذا الإطار النظري المريح الذي يفصل بين الكُتّاب الكلاسيكيين الذين يكتبون فقط باللغة العربية الفصحى وبين أولئك الذين يستخدمون العامية، حتى لو في الحوارات، إلا أن الأوضاع أكثر تعقيداً مع وجود عدد كبير من الحالات الوسيطة. يكتب الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ الحوارات في رواياته مستخدماً اللغة العربية الفصيحة لكنه يقوم في بعض الأحيان بإدخال مفردات عامية بينما نجد أن الكُتّاب الذين يكتبون الحوارات في رواياتهم باللغة العامية فقط هم قليلي العدد فعدد كبير منهم يجعل شخصياته تتحدث مرة باللغة العامية ومرة باللغة الفصحى ومرة ثالثة، وهي الأكثر شيوعاً، بلغة هجين لا وجود لها على أرض الواقع تختلط فيها اللغة العامية بالفصيحة على مستوى المفردات وعلى المستوي الصرفي والنحوي، فضلاً عن ذلك يمكن أن يستخدم نفس الكاتب اللغة العامية لكتابة واحدة من رواياته، ثم يستخدم اللغة الفصحى في روايته التالية أو العكس مثلما فعل الروائي السوداني الطيب صالح الذي كتب حوارات موسم الهجرة للشمال (1966م) باللغة العربية الفصحى بينما كتب حوارات عرس الزين (1966م) باللغة العامية. إذاً ثمة تراوح كبير في النصوص الأدبية، فمنها ما هو مكتوب كلياً باللغة العامية، ومنها ما هو مكتوب كلياً باللغة الفصحى، ومنها ما يستخدم الفصحى والعامية بأساليب مختلفة.

يمنح استخدام اللغة العامية الكاتب ـــ وبكل تأكيد القارئ ـــ تراوح كبير في التأثيرات، فهو يكسب في المقام الأول سمة التلقائية كما قلنا سابقاً، كما أن استخدام اللغة العامية يسمح للقارئ بتمييز المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية وكذلك الأصول الجغرافية للشخصيات دون أن يكون الروائي مضطراً لذكر هذه المعلومات في قلب السرد مثل «أجاب بلهجة مصرية» أو «يتحدث بلهجة طنجاوية”..».

لكن كيف نترجم هذا الأمر إلى لغة أخرى ــــ الفرنسية وكذلك معظم اللغات الأوروبية ــــــ حيث التباعد، إن وجد، بين اللغة الرسمية ولغة الحياة اليومية ليس كبيراً؟ هذا في نظري الجانب الأكثر صعوبة في ترجمة الروايات العربية حالياً.

استطاع بعض المترجمين إيجاد مخرجاً لترجمة أوضاع مشابهة في سياقات لغوية أخرى، نستحضر هنا الترجمات الفرنسية لبعض روايات الإيطالي أندريا كاميلاري Andrea Camilleri الذي يكتب حواراته بالإيطالية وباللغة الصقلية Sicilien وكذلك باللغة الإيطالية المهجنة بالصقلية والتي قام مترجمه سيرج قادروباني Serge Quadruppani  بترجمتها مرات باللغة الفرنسية المعيارية، ومرات باللغة الفرنسية مع بعض مفردات من لهجة الجنوب الفرنسي، وقام بنقل بعض خصوصيات اللغة الصِقلّية إلى اللغة الفرنسية كما هي دون تغيير مثل استخدام الماضي البسيط، والإقلاب النحوي للخبر وللفعل، الخ. لكن إذا كانت هذه الاستراتيجية ناجحة بصورة جوهرية بسبب التقارب بين اللغة الفرنسية بمختلف انحرافاتها واللغة الإيطالية، وكذلك بسبب المعرفة المفترضة للقارئ الفرنسي المطلع بالثقافة وبالأوضاع اللغوية في إيطاليا، إلا أنها غير قابلة للتطبيق في اللغة العربية.

يمكن بكل تأكيد أن تترجم لهجة الجنوب الفرنسي بخصوصياتها الإضافية الأخرى أو تُحاكِي اللغة الإيطالية المُهجّنة بالصِقلّية بالرغم من أنها ليست ترجمة صائبة تماما، لكن أيّةُ عامية فرنسية أو لهجة إقليمية يمكن استخدامها لترجمة اللهجة القاهرية لروايات علاء الأُسواني، أو لهجة الجنوب اللبناني في روايات علوية صبح؟ دون التطرق إلى مسألة نقل الأوضاع اللغوية لبلد عربي غير معروف للجمهور مثل السودان حيث يستخدم إبراهيم اسحق اللغة العامية لغرب البلاد ـــ دارفور ــــ في قصصه القصيرة وفي رواياته، أية لغة فرنسية يتوجب اختيارها لترجمة هذه اللغة العامية التي لا يستطيع قارئ مصري أو لبناني أو تونسي متوقع من تمييزها. يبقى فهم هذه اللغة العامية في حدود دائرة ضيقة من القراء السودانيين تزداد الأوضاع تعقيداً خصوصاً عندما يستخدم الكاتب لهجات عديدة. تستخدم الروائية السعودية رجاء الصانع في رواية بنات الرياض (2005م) لهجات سعودية مختلفة وفقاً لجذور شخصياتها، ويستطيع القارئ العربي أن يميز في الحال أن هذه الشخصيات تستخدم لهجات مختلفة حتى ولو أنه لا يميز في أي جزء من البلاد تُتَحدث هذه اللهجات، كما تساعد الكاتبة القارئ محددة في مقطع أن «لهجة الحجاز برزت في حفل الزواج التقليدي في إقليم نجد» ـ هذه الجملة عندما يتم نقلها للفرنسية سيكون لها نفس الأثر في القارئ الفرانكفوني.

عندما نعود للسودان بوضعيته الخاصة، نجد أن جزء كبيره من السكان لا يتحدثون العربية لغة أُم، خصوصاً في الجزء الجنوبي، لكن مع ذلك يتحدثون لهجتين عربيتين: عربية جوبا وهو شكل مزيج من اللهجات السودانية، وغالباً اللغة العامية السودانية المعيارية برغم عدم إجادتهم لها. يجعل عدد كبير من الكتاب السودانيين شخصياته تتحدث بواحدة من هاتين اللهجتين اللتين يمكن ترجمتهما للفرنسية بيسر عن طريق فرنسية تُحاكي الكريول  Créole (حتى لو بطريقة مصطنعة) بالنسبة لعربي جوبا، وبفرنسية محشوة بأخطاء التذكير والتأنيث وتصريف الأفعال بالنسبة للثانية، وهو الحل الذي اخترناه لترجمة فقرات من بعض هذه الكتب.

لكن تصبح الأوضاع أكثر تعقيداً في الروايات التي يُستخدم فيها أكثر من لهجة عربية مثلما فعلت اللبنانية حنان الشيخ في روايتها (إنها لندن يا عزيزي -2000م)، والتي، لكي تشير فيها للمُواطنَة العالمية للمجموعة العربية في لندن، جعلت الشخصيات تتكلم لهجات مختلفة: اللهجة السورية، العراقية، المغربية، لهجة الخليج، الخ.، بينما كتبت الحوارات التي دارت بالإنجليزية باللغة العربية الفصحى. مرّة أخرى نتساءل: كيف يستطيع المترجم نقل هذا التعدد في اللهجات الذي تختص به اللغة العربية إلى لغة أخرى مثل الفرنسية؟

يبدو لي، في الحالات التي قمنا باستعراضها حتى الآن، أن حلاً مثل الذي استخدمه سيرج قادروباني بالنسبة لمستويات اللغة الإيطالية هو حل غير مناسب ـــــ أضف إلى ذلك أن مترجمي الروايات الفرنسيين الذين سبق ذكرهم لم يلجئوا لهذا النوع من الحلول ولا أنا كذلك. ربما يتوجب قبول فكرة أن القارئ يفقد في بعض الحالات جزء من البعد اللغوي للرواية الأصلية ذلك لأن الأوضاع اللغوية فيها غير قابلة للترجمة بكل بساطة؟ ويمكن توضيح هذا الأمر للقارئ بإتباع استراتيجيات مختلفة: إضافة تعبير مثل «قال بلهجة لبنانية» ـــــ وإذا كان هذا التعبير لم يرد في النص الأصلي يمكن توضيح ذلك مع ورود أول مقطع مكتوب بالعامية أو إخبار القارئ بذلك في المقدمة.

لكن جولتنا لم تنته بعد. تمثل العامية العربية الجزء الأدنى من الثنائية التي تشكلها مع العربية الفصيحة، يمكن أن يستخدم كاتب ما هذه الثنائية ليشير للأصل الاجتماعي لواحدة من شخصياته أو ليقابل بين محادثتين تدور إحداهما في مقهى وتُستخدم فيها العامية، وأخرى في محكمة مثلاً ويُستخدم فيها اللغة الفصيحة. يمثل استخدام اللغة العامية، بوصفها مؤشر اجتماعي، رؤية مصطنعة وغير صائبة بما أن اللغة العربية الفصحى ليست اللغة الأم لأحدٍ، وأن الأشخاص الأكثر تعليماً يتحدثون اللغة العامية في حياتهم اليومية. كما أن تحديد استخدام اللغة العامية في المناقشات التي تدور في المقهى أو في المشاهد التي تدور في الشارع هو كذلك أمر غير واقعي وفيه اختزال من وجهة نظر لغوية بحتة، وإذا كان المترجم مقتنعاً بأن ذلك ما يقصده الكاتب، مهما كانت اعتباراته الشخصية بشأن صلاحية خطوة الكاتب، يمكن أن يستخدم لغة فرنسية أكثر عامية ليترجم اللغة العامية المستخدمة في المقهى، ويستخدم لغة فرنسية أكثر فصاحة ليترجم اللغة الفصيحة التي يستخدمها القاضي. مرة أخرى، نلجأ في بعض الأحيان لهذه الاستراتيجية في ترجماتنا عندما يبدو لنا بوضوح أن استخدام اللغة العامية يهدف لتوضيح التمايز الاجتماعي.

ثمة عقبة أخيرة يجب وضعها في الاعتبار فيما يختص بترجمة العاميات العربية وهي، كما أشرنا سابقاً، أن عددا كبيرا من الكتاب لا يكتب الحوارات حقيقة باللغة العربية العامية، لكن بالأحرى بلغة وسيطة تستلف عناصر من اللغة العربية الفصحى وعناصر من اللغة العامية، ولا تتوافق هذه اللغة الوسيطة مع أيّة لغة مُتحدّثة فعلياً. علاوة على ذلك يجعل المؤلف نفس الشخصية تتحدث، وفي الحوار ذاته، مرة باللغة العامية ومرة باللغة الفصحى دون أن يتغير السياق كأنما الاستخدام الجزئي للعامية لم يكن في الآخر سوى مؤشر ضمني مُرسَل للقارئ لتنبيهه للانتماء الجغرافي أو الاجتماعي للشخصية، فعندما يتم إرسال هذه الإشارة أول مرة يصبح ليس ثمة مبرر لتكرارها مرة أخرى.

كيف إذاً نترجم للقارئ، ليس استخدام اللغة العامية، لكن الإشارات البسيطة التي يرسلها الكاتب للقارئ في اللغة الأصلية؟ أن نتبنى مستوى واحد للغة معينة ــــ في حالة التوظيف الاجتماعي للهجة مثلاً ـــــ لشخصية محددة على امتداد الرواية سيشكل استراتيجية متجانسة ومريحة للقارئ الفرانكفوني، مع ذلك لن تستطيع هذه الاستراتيجية أن تَرُد الأثر الذي يحسه القارئ العربي الذي يكتفي بالإشارات التي سبق ذكرها في سياق لغوي مزدوج أو متعدد اللهجات معتاد عليه.

لكن نستحضر حالة أخرى: اللغة العربية المستخدمة في الروايات التاريخية. من بين الروائيين العرب الذين كتبوا روايات جرت أحداثها في العصور الوسطى لعب بعضهم بمهارة بمستويات اللغة لكن هذه المرة بمستويات اللغة العربية الفصحى فقط، منهم الروائي المغربي بن سالم حميش الذي تتبع في روايته (مجنون الحكم -1990م) سيرة السلطان المصري الحاكم بأمر الله الذي اشتهر بقسوته والذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي. يمزج المؤلف نصه عن طريق التناصات مع نصوص المؤرخين القدماء الذين تناولوا هذه الفترة، ويبدو التفاوت واضحاً بين المستويين اللغويين على المستوى الأسلوبي وعلى المستوى اللفظي.

اللُغة العربية

الربيع العربي والأدب: من الواقع إلى الخيال، من الخيال إلى الواقع؛ ترجمة كزافيه لوفان

وينطبق هذا الأمر أيضاً على رواية (معبد ينجح في بغداد) للروائي اللبناني رشيد الضعيف التي يحكي فيها حياة (معبد)، مغني من العصر العباسي، مزوداً بمعلومات من كتاب الأغاني للأصفهاني، وهو واحد من كلاسيكيات الأدب العربي في العصور الوسطى. يستعير المؤلف من هذا الكتاب كثيراً من المفردات التي أصبحت مهملة ليشرحها فوراً بعربية معاصرة. عند ترجمتنا لهذا الكتاب (الموسيقي وخليفة بغداد –Le Musicien et le Calife de Bagdad) اخترنا أن نبحث في اللغة الفرنسية المستخدمة في العصور الوسطى عن مفردات أصبحت أيضاً مهملة وشرحها بفرنسية معاصرة لكي نُعطي القارئ في الفرنسية انطباع مشابه، إن لم يكن متطابقاً، لذلك الذي يحسه القارئ العربي.

يمثل ترجمة مستويات اللغة العربية إلى الفرنسية، من لغة تستخدم بكثرة مستوياتها المتعددة إلى لغة لا تمايز كبير بين مستوياتها، تَحَدٍ للمترجم. وفقاً لرأينا الشخصي، نرى أن هذه المستويات يمكن، بل يجب أن تُظْهَر في بعض الحالات بصورة أو بأخرى ــــ عندما يتعلق الأمر بتوضيح تمايز اجتماعي، بطريقة تَحدّث أجنبية أو شكل من اللغة العربية المحرفة عن الأصل ــــــ لكن يمكن تجاهلها عندما تكون ترجمتها غير ممكنة بكل بساطة، مثلاً عند استخدام أربع أو خمس لهجات مختلفة داخل النص الواحد.

ينبغي إذاً على المترجم أن يتقبل الشعور بالعجز عن ترجمة تعقيدات النص الأصلي، وحرمان القارئ من جزء من اللعبة التي تحدث بين المؤلف والقارئ في النص المكتوب باللغة العربية، حتى لو كان في استطاعته في بعض الأحيان تعويض هذا النقص بإشارات بسيطة.

***

مقال لِـ كزافيه لوفان: ترجمةٌ من اللُغة العربية أمْ مِنْ اللُغاتِ العربيةِ؟ ترجمة عاطف الحاج سعيد

الروائي والمترجم السوداني عاطف الحاج سعيد

اللغة العربية

خاص قنّاص – مقالات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى