رواية المعاناة الوفيرة والبراءة الخضراء؛ “تساو ون شيوان” يزيل أوهام التصنيفات العُمرية والجغرافية
هي رواية تتخطى حدودها الصينية المحلية، لتصل إلى أولئك البشر الذين أهداهم إيّاها مؤلفها “تساو ون شيوان” في جميع أرجاء العالم، وهم بتعبيره “الذين كانت دروبهم صعبة، ولاقوا المعاناة في سبيل العيش، وإلى أبنائهم، وأحفادهم”، مثلما كتب في صفحة الإهداء.
إن “برونز وعبّاد الشمس”، التي حصل مؤلفها أستاذ اللغة بجامعة بكين على جائزة “أندرسن” الأدبية، هي رواية عابرة للقارّات والأزمنة واللغات والتصنيفات والأجيال العُمرية القادرة على التفاعل معها؛ رغم تخصيصها للأصغر سنًّا، وذلك بتلمّسها المشاعر البكر، وقنصها البراءة الإنسانية أينما وُجدت، ودفاعها عن الإشعاعات المضيئة، في الأرض والسماء، القادرة دائماً على جلب الدفء إلى العالم، وتحدّي الظلام.
آلام لا تنضب:
من بين ثروات بلاده التي لا تُحصى، يُراهن تساو ون شيوان (67)، ابن الريف الصيني الفقير في مقاطعة جيانغسو، على كنز يراه لا ينضب أبداً في مجتمعه المحيط، هو الشقاء اليومي والمكابدات المتكررة وتفاصيل الحياة القاسية في القرى الفقيرة، ومنها قرية “دامايدي” (بمعنى: قرية القمح الوفير)، التي تدور فيها أحداث روايته في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (فترة ثورة البروليتاريا الثقافية بالصين، التي شهدت عمليات تخريبية وقلاقل كبرى أوصلت البلاد إلى شفا حرب أهلية).
ويلوذ الكاتب من خلال شخوصه وأبطاله، وعلى رأسهم الفتى الأخرس “برونز” والفتاة اليتيمة “عبّاد الشمس”، بالمحبّة والنقاء والقيم الدينية والأخلاقية النبيلة وتعاليم الكونفوشية والفلسفة الصينية التقليدية، من أجل مقاومة هذه الظروف الصعبة، وتخطّي الاضطرابات المجتمعية، والنجاة من غضب الطبيعة كذلك، الذي تجلى في الحرائق والأعاصير، وأعوام الجدب والجوع والمرض.
تمكّنت رواية “برونز وعبّاد الشمس”، الموجهة في الأصل للناشئة والصادرة حديثاً بالعربية في 344 صفحة عن “بيت الحكمة للثقافة” (مصر، الصين، الإمارات، المغرب) بترجمة رنا عبده، من كسر مفاهيم وقيود عدة، على أكثر من مستوى، ما جعلها تحقق صيتاً وانتشاراً كبيرين، وتحصد سلسلة من الجوائز الدولية المرموقة، في داخل الصين وخارجها، وتضيف رصيداً لا يُستهان به إلى “تساو ون شيوان”، صاحب الأسلوب الشاعري السلس، وصيّاد اللحظات الجوهرية الصادقة، عبر مجموعة إصداراته اللافتة، ومنها “بيت من القش”، “الماعز لا يأكل العشب في الجنة”، “الحقول الحزينة”، وغيرها.
إزالة الحواجز:
على مستوى المكان والزمان، لا تعدّ “برونز وعبّاد الشمس” تعبيراً عن صراع المدينة والقرية اللتين يفصلهما النهر الكبير في تلك المرحلة القلقة من تاريخ الصين فحسب، وإنما تتشابه أجواؤها مع ملامح العيش في مجتمعات أخرى كثيرة، قديماً وفي اللحظة الحالية، كما في الريف المصري على سبيل المثال، في علاقته المتشابكة مع المدنيّة الزاحفة نحوه بضراوة، من دون أن تقدر على اقتلاعه من جذوره، لتشبثه بالتماسك العائلي، وفضائل البيئة المحلية، القائمة على الروحانية والبشاشة والصدق وطيبة القلب، في مواجهة المادية والنفاق والانتهازية والاستغلال.
وبالنسبة لعائق اللغة، لم تكن الصينية الصعبة لتحول دون عبور الرواية الحواجز، حيث لم يفقد النص الأصلي المرن حضوره وجمالياته بالترجمة إلى الإنجليزية في بريطانيا والولايات المتحدة، وإلى اللغات الأوروبية المختلفة، وكذلك حال نقله إلى العربية، وذلك بسبب الأسلوب المبسّط للنص، والحس التصويري التأملي، والبناء الكلاسيكي المألوف، القائم على الراوي العليم، والمنغمس في وصف الطبيعة، وإسقاط الداخل الإنساني على الكائنات الأليفة المنسجمة مع البشر، من فراشات وطيور وحيوانات ونباتات:
“شعرت الفتاة بالوحدة الشديدة، مثل طائر يحلّق في السماء على بعد آلاف الأميال وحيداً، ولا يرى أي طائر آخر، ولا يسمع صوت الوحدة إلا عندما يجتاح جناحاه تيار الهواء”.
وقد حملت بطلة الرواية اسمها من هذه الطبيعة، فهي “عبّاد الشمس”، الزهرة التي يفضلّها أبوها النحّات، وهو على دراية برائحتها الباعثة على الدفء والنشاط، التي لا يمتلكها أي نوع آخر من الزهور. أما رفيقها، الصبيّ الذي اجتذبها في الضفة الأخرى من النهر، فقد حمل اسمه من “البرونز”، ذلك المعدن اللامع الواضح، المثالي أيضاً بالنسبة لوالد الفتاة، إذ يفضّله في نحت تماثيل عبّاد الشمس، المحمّلة بمعانٍ عميقة وسحرية، خصوصاً مع امتزاج لون عبّاد الشمس الدافئ ولون البرونز البارد معاً في خيال عجائبي فريد.
أما أبرز تجليّات كسر القيود، فهو أن “برونز وعبّاد الشمس” رواية للأحفاد والأبناء والآباء والجدود، القادرين على البكاء والضحك معاً بطلاقة، مثلما تمنّى المؤلف في إهدائه. وقد سعى شيوان في كتابه إلى تحقيق هذا التمنّي بشكل عملي، فالرواية في حقيقة الأمر تجمع سمات أدب الأطفال والناشئة الموجهة إليهم في الأساس، وكذلك أدب الكبار، في وقت واحد، بأسلوب مثير، غير معتاد.
هي تلامس روايات الكبار في حقيقة الأمر، باكتمال عناصرها، من شخوص وزمان ومكان وصراع وحبكة وأحداث متنامية متداخلة، ومراوحة بين السرد والحوار، على امتداد فضاء نصي مطوّل (344 صفحة). وهي مليئة إلى جانب الوقائع القريبة بالفلسفة والحكمة والتأملات، وتمثّل روح الديانات، وتقصّي مبادئ الكونفوشية، حيث يتحوّل شظف العيش في القرية البائسة إلى شفافية ورهافة ورقة وجدانية لدى البشر الأسوياء، ويتجاوز الإنسان المحن والأزمات والكوارث بتصالحه مع ذاته ومع الآخرين، وتقربّه من الخالق بالتصرفات الحميدة، وتمسّكه بسلّم القيم العائلية الموروثة. ومن تجسّدات تلك الأخلاقيات: تبنّي أسرة “برونز” الريفية الفقيرة البنت اليتيمة “عبّاد الشمس”، القادمة من مجتمع المدينة إلى مجتمع القرية عبر قارب صغير فوق صفحة النهر، وذلك بعد غرق والدها في إعصار الوحش المخروطي، وقد حرصت الأسرة على التمسك بالفتاة إلى الرمق الأخير، رغم ضيق الحال وحلول المجاعة في قرية القمح.
في الوقت نفسه، فإن الرواية مشحونة بطفولية في الإحساس والتناول على طول الخط، منغمسة في أبجديات أدب الصغار والناشئة، بما في الرواية من طابع تشويقي في تصاعد الأحداث، ونزوع إلى الموروث الشعبي بقصصه وأساطيره وخرافاته، واتّسامها بوضوح الرؤية، واقتراب الأفكار، وبساطة اللغة، وإفساحها المجال للمغامرات والحركة والخيال الجامح والانطلاق في الطبيعة، إلى جانب تخصيص البطولة لصبي وفتاة في عمر الزهور، والإسهاب في قراءة عوالمهما الصغيرة، الغنيّة بالتفاصيل والأحلام البريئة، ومن ذلك مثلاً “عهد الأخوة” الذي جمعهما بعد لقائهما الأول، وقد اتفقا على ألا ينقطع أو يتزعزع أبداً، ولو بعد عشرة آلاف سنة.
على جانبي النهر:
نجحت رواية “برونز وعبّاد الشمس” في الغوص الدقيق الاستقصائي داخل نسيج المجتمع الصيني، مبرزة الفروق التشريحية والسلوكية بين المدينة الصاخبة، التي غادرتها “عبّاد الشمس” إثر وفاة والدها، والقرية الهادئة التي فتحت لها ذراعيها بحنان حال انتقالها إليها عابرة النهر، حيث تبنّتها أسرة الفتى الأخرس “برونز”، وصار بمثابة أخيها. وكان قد فقد صوته ذعراً بسبب حريق ضخم في القرية، لكنه استعاده في نهاية الرواية وهو ينادي على “عبّاد الشمس”، التي همّ ذووها في المدينة بمحاولة استعادتها من جديد، بعد سنوات قضتها في القرية، وقوبل طلبهم بمعارضة واسعة من أسرة “برونز” وشعب القرية، إذ اعتبرها الجميع ابنة قرية القمح؛ “الندّاهة” التي لوّحتْ للفتاة، واجتذبتها بمحبّة إلى دنيا الطمأنينة والسلام والتضحية والرحمة وإنكار الذات، فنجت من تشوّهات الوحدة، وجحيم المأساة.
شكّل جانبا النهر مسرحين متقابلين للتناقضات، ما أبرز الصراع الشامل بين المدينة والقرية في عهد ثورة البروليتاريا الثقافية بالصين، وتصاعُد نذر الحرب الأهلية. وبدا شيوان منحازاً صراحة للون الأخضر، أو ذلك المجتمع القروي الذي ينتمي إليه ميلاداً ونشأة.
وقد استطرد الكاتب على نحو موسّع في رسم تفاصيل هذا المجتمع ومفرداته، من مشاهد ومواقف ولقطات حية، وعادات وتقاليد وممارسات واحتفاليات، ومهن وحرف وصناعات تقليدية، وحقول وأشجار وحيوانات وطيور، وأرض وماء وسحاب وسماء، وطقوس خشنة وظروف قاسية، لا تخفف وطأتها سوى تلك الأحاسيس الطازجة، التي تجمع القلوب في البيوت الطينية، وتشعّ وضاءة وطهراً وائتناساً وآدمية، ففي هذه البيئة، وحدها، يكمن سر الحياة.
خاص مجلة قَنّآص
تساو ون شيوان
شريف الشافعي؛ شاعر وكاتب من مصر. صحفي بمؤسسة “الأهرام”؛ رئيس القسم الثقافي ومسؤول النشر والديسك المركزي في بوابة “الأهرام” الإلكترونية.